الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱذۡهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَيۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا يَرۡجِعُونَ} (28)

قوله : { هَذَا } : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل " كتابي " أو بدلاً منه أو بياناً له .

قوله : { فَأَلْقِهْ } قرأ أبو عمرو وحمزةُ وأبو بكر بإسكان الهاء ، وقالون بكسرها فقط من غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ عنه . وهشام عنه وجهان بالقصرِ والصلةِ . والباقون بالصلة بلا خلاف . وقد تقدَّم توجيهُ ذلك كلَّه في آل عمران والنساء وغيرِهما عند { يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [ آل عمران : 75 ] و { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } [ النساء : 115 ] . وقرأ مسلم بن جندب بضمِّ الهاءِ موصولةً بواوِ : " فَأَلْقِهُوْ إليهم " وقد تقدَّم أنَّ الضمَّ الأصلُ .

[ قوله : ] " ثم تَوَلَّ عنهم " زعم أبو علي وغيرُه أنَّ في الكلام تقديماً وأن الأصلَ : فانظرْ ماذا يَرْجِعون ثم تَوَلَّ عنهم . ولا حاجةَ إلى هذا [ لأن المعنى بدونِه صحيحٌ أي : قِفْ قريباً منهم لتنظرَ ماذا يكون ] .

قوله : { مَاذَا يَرْجِعُونَ } إنْ جَعَلْنا " انظر " بمعنى تأمَّلْ وتَفَكَّرْ كانت " ما " استفهاميةً . وفيها حينئذٍ وجهان ، / أحدُهما : أَنْ تُجْعَلَ مع " ذا " بمنزلةِ اسمٍ واحد ، وتكونُ مفعولةً ب " يَرْجِعُون " تقديرُه : أيَّ شيء يَرْجِعون . والثاني : أن تُجْعل " ما " مبتدأً ، و " ذا " بمعنى الذي و " يَرْجِعُون " صلتَها ، وعائدُها محذوفٌ تقديرُه : أيُّ شيء الذي يَرْجِعونه . وهذا الموصولُ هو خبر " ما " الاستفهامية ، وعلى التقديرين فالجملة الاستفهاميةُ مُعَلَّقَةُ ل " انْظُرْ " فمحلُّها النصبُ على إسقاطِ الخافضِ أي : انْظُرْ في كذا وفَكِّر فيه ، وإنْ جَعَلْناه بمعنى انتظرْ مِنْ قوله : { انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [ الحديد : 13 ] كانت " ماذا " بمعنى الذي ، و " يرْجِعون " صلةٌ ، والعائدُ مقدرٌ كما مرَّ تقريرُه . وهذا الموصولُ مفعولٌ به أي : انتظر الذي يَرْجِعونه .

وقال الشيخ : " وماذا : إنْ كان معنى " انظرْ " معنى التأمُّلِ بالفكر كان " انظر " مُعَلَّقاً . و " ماذا " : إمَّا أَنْ يكونَ استفهاماً في موضعِ نصبٍ ، وإمَّا أَنْ يكونَ " ما " استفهاماً ، وذا موصول بمعنى الذي . فعلى الأولِ يكونُ " يَرْجِعون " خبراً عن " ماذا " ، وعلى الثاني يكون " ذا " هو الخبرََ ، وَيَرْجِعُون صلة " انتهى .

وهذا غَلَطٌ : إمَّا من الكاتبِ ، وإمَّا مِنْ غيرِه ؛ وذلك أنَّ قولَه " فعلى الأولِ " يعني به أنَّ " ماذا " كلَّه استفهامٌ في موضع نصبٍ يمنعُ قولَه : " يَرْجِعون " خبرٌ عن " ماذا " . كيف يكون خبراً عنه وهو منصوبٌ به كما تقدَّم تقريرُه ؟ وقد صَرَّح هو بأنه منصوبٌ يعنى بما بعدَه ، ولا يعملُ فيه ما قبلَه . وهذا نظيرُ ما تقدَّم في آخرِ السورةِ قبلَها في قولِه : { وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] في كونِ اسمِ الاستفهامِ معمولاً لِما بعدَه ، وهو مُعَلِّقٌ لِما قبله ، فكما حَكَمْتَ على الجملةِ مِنْ " يَنْقَلِبُوْن " وما اشتملَتْ عليه من اسمِ الاستفهامِ المعمولِ لها بالنصبِ على سبيلِ التعليقِ ، كذلك تَحْكُمُ على " يَرْجِعُون " فكيف تقول : إنها خبرٌ عن " ماذا " ؟ .