ثم فصل - سبحانه - أحوال الأشقياء والسعداء فقال : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } .
قال الآلوسى : قال الراغب : الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه مأخوذ من زفر فلان إذا حمل حملا بمشقة فتردد فيه نفسه ، ومنه قيل للإِماء الحاملاتِ الماءَ : زوافر .
والشهيق : رد النفس إلى الصدر بصعوبة وعناء .
والمراد بهما : الدلالة على شدة كربهم وغمهم ، وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة ، واستبد به الضيق حتى صار فى كرب شديد .
والمعنى : فأما الذين كان نصيبهم الشقاء فى الآخرة ، بسبب كفرهم واقترافهم للمعاصى فى الدنيا ، فمصيرهم إلى الاستقرار فى النار ، لهم فيها من ضيق الأنفاس . وحرج الصدور ، وشدة الكروب ما يجعلهم يفضلون الموت على ما هم فيه من هم وغم .
وخص - سبحانه - من بين أحوالهم الأليمة حالة الزفير والشهيق ؛ تنفيرا من الأسباب التى توصل إلى النار ، وتبشيعا لتلك الحالة التى فيها ما فيها من سوء المنظر ، وتعاسة الحال . . .
قوله : { الذين شقوا } على بعض التأويلات في الاستثناء الذي في آخر الآية يراد به كل من يعذب من كافر وعاص - وعلى بعضها - كل من يخلد ، وذلك لا يكون إلا في الكفرة خاصة .
وال { زفير } : صوت شديد خاص بالمحزون أو الوجع أو المعذب ونحوه ، وال { شهيق } كذلك . كما يفعل الباكي الذي يصيح خلال بكائه ، وقال ابن عباس : «الزفير » : صوت حاد . و «الشهيق » صوت ثقيل ، وقال أبو العالية «الزفير » من الصدر و «الشهيق » من الحلق وقيل : بالعكس . وقال قتادة «الزفير » : أول صوت الحمار . و «الشهيق » : آخره{[6512]} . فصياح أهل النار كذلك . وقيل «الزفير » : مأخوذ من الزفر وهو الشدة ، و «الشهيق » : من قولهم : جبل شاهق أي عال . فهما - على هذا المعنى - واحد أو متقارب ، والظاهر ما قال أبو العالية : فإن الزفرة هي التي يعظم معها الصدر والجوف والشهقة هي الوقعة الأخيرة من الصوت المندفعة{[6513]} معها النفس أحياناً ، فقد يشهق المحتضر ويشهق المغشي عليه .
الشّقاوة والسّعادة من المواهي المقولة بالتّشكيك فكلتاهما مراتب كثيرة متفاوتة في قوّة الوصف . وهذا إجمال تفصيله { فأمّا الذين شقُوا } إلى آخره .
والزّفير : إخراج الأنفاس بدفع وشدّة بسبب ضغط التنفّس . والشّهيق : عكسه وهو اجتلاب الهواء إلى الصّدر بشدّة لقوة الاحتياج إلى التنفس .
وخص بالذّكر من أحوالهم في جهنّم الزّفير والشّهيق تنفيراً من أسباب المصير إلى النّار لما في ذكر هاتين الحالتين من التّشويه بهم وذلك أخوف لهم من الألم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم بين ثوابهم، فقال: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها}، في الخلود، {زفير}، يعني: آخر نهيق الحمار، قال: {وشهيق} في الصدور، يعنى: أول نهيق الحمار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: {فأمّا الّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ}، وهو أول نهاق الحمار وشبهه، {وَشَهِيقٌ}، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نهاقه... عن ابن عباس، قوله: {لَهُمْ فِيها زَفيرٌ وشَهيقٌ}، يقول: صوت شديد، وصوت ضعيف... عن أبي العالية، في قوله: {لَهُمْ فِيها زَفيرٌ وشَهِيقٌ}، قال: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...الزفير: إخراج النفس. والشهيق: ردّه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... إن الزفرة هي التي يعظم معها الصدر والجوف والشهقة هي الوقعة الأخيرة من الصوت المندفعة معها النفس أحياناً...
واعلم أنه تعالى لما قسم أهل القيامة إلى هذين القسمين شرح حال كل واحد منهما فقال: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في الفرق بين الزفير والشهيق وجوها:
الوجه الأول: قال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ولم يخرجه، والشهيق أن يخرج ذلك النفس، وقال الفراء: يقال للفرس إنه عظيم الزفرة أي عظيم البطن وأقول إن الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب فإذا انحصر الروح قويت الحرارة وعظمت وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء كثيرا باردا حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة، فلهذا السبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل البدن وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه، ولما كانت الحرارة الغريزية والروح الحيواني محصورا داخل القلب استولت البرودة على الأعضاء الخارجة فربما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهواء الكثير المستنشق فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصرا في الصدر ويقرب من أن يختنق الإنسان منه وحينئذ تجتهد الطبيعة في إخراج ذلك الهواء فعلى قياس قول الأطباء الزفير هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه، والشهيق هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطبيعة في إخراجه وكل واحدة من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان أكثر الخلق هالكاً مع أن المقام مقام تهديد وتهويل، بدأ تعالى بالأشقياء ترتيباً للنشر على ترتيب اللف فقال: {فأما الذين شقوا} أي أدركهم العسر والشدة {ففي النار} أي محكوم لهم بأنهم يدخلون النار التي هي النار لو علمتم {لهم فيها زفير} أي عظيم جداً {وشهيق} من زفر -إذا أخرج نفسه بعد مدِّه إياه، وشهيق- إذ تردد البكاء في صدره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فأما الذين شقوا} أي الذين شقوا في الدنيا بالفعل بما كانوا يعملون من أعمال الأشقياء، لفساد عقائدهم الموروثة بالتقليد، حتى أحاطت بهم خطيئاتهم، واطفأت نور الفطرة من أنفسهم {ففي النار} مستقرهم ومثواهم {لهم فيها زفير وشهيق} من ضيق أنفاسهم، وحرج صدورهم، وشدة كروبهم: فالزفير والشهيق صوتان يخرجان من الصدر عند شدة الكرب والحزن في بكاء أو غيره، قال الزمخشري في الكشاف: الزفير إخراج النفس، والشهيق رده...
وقال الراغب في الآية: فالزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، ثم قال: الشهيق طول الزفير، وهو رد النفس، والزفير مده. وقال في اللسان: الشهيق أقبح الأصوات، شهق [كعلم وضرب] شهيقا وشهاقا ردد البكاء في صدره اه. والتحقيق أن تنفس الصعداء من الهم والكرب، إذا امتد واشتد فسمع صوته كان زفيرا، وإن كان النشيج في البكاء إذا اشتد تردده في الصدر وارتفع به الصوت سمي شهيقا، وأصل اشتقاقه من الشهوق، وقولهم جبل شاهق، وما أبلغ قول شيخنا في مقدمة العروة الوثقى يصف كرب المسلمين من شدة اعتداء المستعمرين الظالمين: وسرى الألم في أرواح المؤمنين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من تذكار الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس زفيرا بل نفيرا عاما، بل يكون صاخة تمزق من أصمّه الطمع.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
يظهر أن فيه وصفا لكيفية تنفس الأشقياء في جهنم، وأنه على خلاف ما هو معتاد في تنفس الكائنات الحية، كأن تنفس الأشقياء في جهنم يسبق فيه "الزفير "الذي هو دفع النفس إلى الخارج، على "الشهيق" الذي هو أخذ النفس إلى الداخل، بينما التنفس العادي للكائنات الحية يسبق فيه "الشهيق" الذي يأخذ به الكائن الحي حظه من الهواء المنعش إلى داخل الجسم، على "الزفير" الذي يدفعه الكائن الحي من الداخل إلى الخارج بعد أخذ حاجته منه. وفي هذا الوصف لتنفس الأشقياء في جهنم إشارة إلى ما يعانونه من ضيق واختناق، حتى كأن صدورهم تغلي غليان المرجل، وعلى العكس من ذلك يكون حال السعداء في الجنة {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها} أي دون أن يتعرضوا لأي شيء من هذه الأعراض الغريبة...