اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيقٌ} (106)

قوله : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } الجمهورُ على فتح الشين ؛ لأنَّهُ من " شَقى " فعلٌ قاصر وقرأ الحسن{[18990]} بضمها فاستعمله متعدِّياً ، فيقال : شقاهُ الله ، كما يقالُ : أشقاء الله وقوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } في هذه الجملة احتمالان :

أحدهما : أنَّها مستأنفةٌ ، كأنَّ سائلاً سأل حين أخبر أنَّهُم في النَّار : ماذا يكون لهم ؟ فقيل : لهم كذا .

والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنَّهُ الضميرُ في الجرِّ والمجرور وهي " فَفِي النَّار " .

الثاني : أنها حالٌ من " النَّار " و " الزَّفير " بمنزلة ابتداء صوت الحمار ، و " الشّهيق " آخره قال رؤبة : [ الرجز ]

حَشْرَجَ في الصَّدْرِ صَهِيلاً أوْ شَهَقْ *** حتَّى يُقالَ نَاهِقٌ وما نَهَقْ{[18991]}

وقال ابن فارس : الزَّفيرُ ضد الشَّهيق ؛ لأنَّ الشَّهيق ردُّ النَّفَس والزَّفير : إخراجُ النَّفس من شدَّة الحزنِ مأخوذة من الزَّفْرِ وهو الحِمْل على الظَّهْرِ ، لشدَّته .

وقال الزمخشري نحوه ؛ وأنشد للشَّمَّاخِ : [ الطويل ]

بَعِيدٌ مَدَى التَّطْريبِ أوَّلْ صوْتِهِ *** زفيرٌ ويتلوهُ شهيقٌ مُحَشْرِجُ{[18992]}

وقيل الشَّهيقُ : النَّفس الممتدُّ ، مأخوذٌ من قولهم : " جبلٌ شاهقٌ أي : عالٍ " .

وقال اللَّيْثُ : الزَّفير : أن يملأ الرَّجُلُ صدرهُ حال كونه في الغمِّ الشَّديد من النَّفس ويخرجهُ ، والشَّهيق أن يخرج ذلك النَّفس ، وهو قريبٌ من قولهم : تنفَّس الصعداء .

قال ابن الخطيب{[18993]} : إنَّ الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب ، فتقوى الحرارةُ وتعظم ، وعند ذلك يحتاجُ الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء بارداً حتى يقوى على تريوح تلك الحرارة ، فلهذا السَّبب يعظم في ذلك الوقتِ استدخال الهواء في داخل الصَّدْرِ ، وحينئذٍ يرتفع صدره ، ولمَّا كانت الحرارةُ الغريزيةُ ، ولاروح الجوانيُّ محصُوراً في داخل القلبِ ؛ استولت البرودةُ على الأعضاءِ الخارجة ؛ فرُبَّما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهوى فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر .

فعلى قول الأطباء : الزَّفير : هو استدخالُ الهواءِ الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه ، والشَّهيق : هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطَّبيعة في إخراجه ، وكلُّ من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد .

وقال أبُو العالية والربيع بن أنس : الزَّفير في الحلق ، والشَّهيق في الصدر{[18994]} وقيل : الزَّفيرُ للحمار والشهيق للبغل . وقال ابن عباس : الزَّفيرُ الصوت الشديد ، والشَّهيق الصوت الضعيف{[18995]} وقال الضحاك ومقاتلٌ : الزَّفير أول صوت الحمار والشهيق آخره ، إذا ردَّهُ في صدره{[18996]} وقال الحسنُ : الزَّفيرُ لهيبُ جهنّم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلُوا إلى أعلى جهنم ، وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهُم الملائكة بمقامع من حديد وردوهم إلى الدرك الأسفل من جهنَّم ، وهو قوله تعالى :

{ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ السجدة : 20 ] فارتفاعهم في النَّار هو الزَّفير ، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق{[18997]} .

وقال أبو مسلم : الزَّفيرُ ما يجتمع في الصَّدْرِ من النَّفس عند البكاء الشَّديد فيقطع النفس ، والشهيقُ هو الصَّوت الذي يظهرُ عند اشتداد الكرب ، وربما تبعه الغشية ، وربما حصل عقيبه الموت . وروي عن ابن عبَّاس في قوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } أي : ندامةً ونفساً عالياً وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع .


[18990]:ينظر: الكشاف 2/430 والبحر المحيط 5/464، والدر المصون 4/131.
[18991]:ينظر: ديوانه (106) برواية: حشرج في الصدر سحيلا *** ... وروح المعاني 12/141 واللسان (حشرج) والبحر المحيط 5/252 والدر المصون 4/132.
[18992]:البيت في ديوانه برواية: بعيد مدى التطريب أول نهاقه *** سحيل وأخراه حي المحشرج ينظر: ديوانه (88) وروح المعاني 12/126 والبحر المحيط 5/252 والكشاف 2/430 والدر المصون 4/132.
[18993]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 17/50.
[18994]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/114) عن أبي العالية وذكره البغوي في "تفسيره" (2/402).
[18995]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/114) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/635) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ والبيهقي في "البعث والنشور".
[18996]:أخرجه الطبري (7/114) عن قتادة بمعناه. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/402) عن الضحاك ومقاتل.
[18997]:ذكره الرازي في "تفسيره" (18/50) عن الحسن.