الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيقٌ} (106)

قوله تعالى : { شَقُواْ } : الجمهورُ على فتح الشين لأنه مِنْ شَقِي فعلٌ قاصِر . وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدياً ، فيقال : شَقاه اللَّه ، كما يقال أشقاه اللَّه .

وقرأ الأخوان وحفص " سُعِدُوا " بضم السين ، والباقونَ بفتحها ، الأُولى مِنْ قولهم " سَعَدَه اللَّه " ، أي : أسعده ، حكى الفراء عن هُذَيل أنها تقول : سَعَده اللَّه بمعنى أَسْعد . وقال الجوهري : " سَعِد فهو سعيد كسَلِمَ فهو سليم ، وسُعِد فهو مسعود " . وقال ابن القشيري : " وَرَدَ سَعَده اللَّه فهو مَسْعود ، وأسعد فهو مُسْعَد " . وقيل : يُقال : سَعَده وأَسْعده فهو مَسْعود ، استَغْنوا باسم مفعول الثلاثي . وحُكي عن الكسائي أنه قال : " هما لغتان بمعنىً " ، يعني فَعَل وأَفْعل ، وقال أبو عمرو بن العلاء : " يُقال : سُعِد الرجل كما يُقال جُنَّ " . وقيل : سَعِده لغة .

وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخَوين ، قال المهدوي : مَنْ قرأ " سُعِدوا " فهو محمولٌ على مَسْعود ، وهو شاذ قليل ، لأنه لا يُقال : سَعَده اللَّه ، إنما يقال : أسعده اللَّه . وقال بعضُهم : احتجَّ الكسائي بقولهم : " مسعود " . قيل : ولا حُجَّةَ فيه ، لأنه يُقال : مكان مسعود فيه ثم حُذِف " فيه " وسُمِّي به . وكان عليّ بن سليمان يتعجَّب مِنْ قراءة الكسائي :/ " سُعِدوا " مع علمه بالعربية ، والعجبُ مِنْ تعجُّبه . وقال مكي : " قراءةُ حمزةَ والكسائي " سُعِدوا " بضم السين حملاً على قولهم : " مسعود " وهي لغةٌ قليلة شاذة ، وقولهم : " مَسْعود " إنما جاء على حذف الزوائد كأنه مِنْ أسعده اللَّه ، ولا يُقال : سَعَدَه اللَّه ، وهو مثل قولهم : أجنَّه اللَّه فهو مجنون ، أتى على جَنَّه اللَّه ، وإنْ كان لا يُقال ذلك ، كما لا يقال : سَعَده اللَّه " .

وضَمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد . وقال أبو البقاء : " وهذا غيرُ معروفٍ في اللغة ولا هو مقيسٌ " .

وقوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } : هذه الجملةُ فيها احتمالان ، أحدهما : أنها مستأنفة ، كأن سائلاً سأل حين أَخْبَرَ أنهم في النار : ماذا يكون لهم ؟ فقيل : لهم كذا . الثاني : أنها منصوبةٌ المحلِّ ، وفي صاحبها وجهان ، أحدهما : أنه الضمير في الجارِّ والمجرور وهي " ففي النار " . والثاني : أنها حالٌ من " النار " .

والزَّفير : أولُ صوت الحمار ، والشَّهيق : آخره ، قال رؤبة :

2709 حَشْرَجَ في الصدر صَهِيْلاً وشَهَقْ *** حتى يُقالَ ناهِقٌ وما نَهَقْ

وقال ابن فارس : " الشَّهيق ضد الزفير ؛ لأنَّ الشهيق ردُّ النفسَ ، والزَّفير : إخراج النفَس مِنْ شدة الحزن مأخوذ من الزِّفْرِ وهو الحِمْل على الظهر ، لشدته . وقال الزمخشري نحوه ، وأنشد للشماخ :

2710 بعيدٌ مَدَى التَّطْريْبِ أولُ صوتِه *** زفير ويَتْلوه شهيق مُحَشْرِج

وقيل : الشَّهيق : النَّفَس الممتدُّ ، مأخوذ مِنْ قولهم " جبل شاهق أي عالٍ . وقال الليث : " الزَّفير : أن يملأَ الرجلُ صدرَه حالَ كونه في الغمِّ الشديد من النفسَ ويُخْرِجُه ، والشهيق أن يُخْرِجَ ذلك النفسَ ، وهو قريبٌ مِنْ قولهم : " تنفَّس الصعداء " . وقال أبو العالية والربيع بن أنس : " الزفير في الحَلْق والشَّهيقُ في الصدر " . وقيل : الزفير للحمار والشهيق للبَغْل .