48- وأنزلنا إليك - أيها النبي - الكتاب الكامل ، وهو القرآن ، ملازماً الحقّ في كل أحكامه وأنبائه ، موافقاً ومصدِّقاً لما سبقه من كتبنا ، وشاهداً عليها بالصحة ، ورقيباً عليها بسبب حفظه من التغيير . فاحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك بما أنزل الله عليك ، ولا تتبع في حكمك شهواتهم ورغباتهم ، فتنحرف عما جاءك منا من حق . لكل أمة منكم - أيها الناس - جعلنا منهاجاً لبيان الحق ، وطريقاً واضحاً في الدين يمشي عليه ، ولو شاء الله لجعلكم جماعة متفقة ذات مشارب واحدة ، لا تختلف مناهج إرشادها في جميع العصور ، ولكنه جعلكم هكذا ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع ، ليتبين المطيع والعاصي . فانتهزوا الفرص ، وسارعوا إلى عمل الخيرات ، فإن رجوعكم جميعاً سيكون إلى الله - وحده - فيخبركم بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه ، ويجازى كلا منكم بعمله .
قوله تعالى : { وأنزلنا إليك } ، يا محمد .
قوله تعالى : { الكتاب } ، القرآن .
قوله تعالى : { بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب } ، أي من الكتب المنزلة من قبل . قوله تعالى : { ومهيمناً عليه } ، روى الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أي شاهداً عليه ، وهو قول مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والكسائي . قال حسان :
إن الكتاب مهيمن لنبينا *** والحق يعرفه ذوو الألباب
يريد : شاهداً ومصدقاً ، وقال عكرمة : دالاً ، وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة : مؤتمناً عليه ، وقال الحسن : أميناً ، وقيل : أصله مؤيمن مفيعل ، من أمين ، كما قالوا : مبيطر من البيطار ، فقلبت الهمزة هاءً ، كما قالوا : أرقت الماء وهرقته ، وأيهات وهيهات ونحوها . ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدقوا ، وإلا فكذبوا ، وقال سعيد بن المسيب والضحاك : قاضياً ، وقال الخليل : رقيباً وحافظاً ، والمعاني متقاربة ، ومعنى الكل : أن الكل كتاب يشهد بصدق القرآن فهو كتاب الله تعالى ، وإلا فلا .
قوله تعالى : { فاحكم } ، يا محمد .
قوله تعالى : { بينهم } بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك .
قوله تعالى : { بما أنزل الله } . تعالى بالقرآن .
قوله تعالى : { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } ، أي لا تعرض عما جاءك من الحق ، ولا تتبع أهواءهم .
قوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً } ، قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : أي سبيلاً وسنةً ، فالشرعة والمنهاج الطريق الواضح ، وكل ما شرعت فيه فهو شريعة ، وشرعة ، ومنه شرائع الإسلام لشروع أهلها فيها ، وأراد بهذا أن الشرائع مختلفة ، ولكل أهل ملة شريعة . قال قتادة : الخطاب للأمم الثلاث ، أمة موسى ، وأمة عيسى ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ، فالتوراة شريعة ، والإنجيل شريعة ، والفرقان شريعة ، والدين واحد وهو التوحيد .
قوله تعالى : { ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة } ، أي على ملة واحدة .
قوله تعالى : { ولكن ليبلوكم } ، ليختبركم .
قوله تعالى : { في ما آتاكم } ، من الكتب ، وبين لكم من الشرائع ، فيبين المطيع من العاصي ، والموافق من المخالف .
قوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات } ، فبادروا إلى الأعمال الصالحة .
قوله تعالى : { إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } .
{ 48 - 50 } { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
يقول تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ْ } الذي هو القرآن العظيم ، أفضل الكتب وأجلها .
{ بِالْحَقِّ ْ } أي : إنزالا بالحق ، ومشتملا على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه . { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ْ } لأنه شهد لها ووافقها ، وطابقت أخباره أخبارها ، وشرائعه الكبار شرائعها ، وأخبرت به ، فصار وجوده مصداقا لخبرها .
{ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ْ } أي : مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة ، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية . فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به ، وحث عليه ، وأكثر من الطرق الموصلة إليه .
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين ، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة ، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة ، فما شهد له بالصدق فهو المقبول ، وما شهد له بالرد فهو مردود ، قد دخله التحريف والتبديل ، وإلا فلو كان من عند الله ، لم يخالفه .
{ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ْ } من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك . { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ْ } أي : لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلا عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ْ } أيها الأمم جعلنا { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ْ } أي : سبيلا وسنة ، وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم ، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال ، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها ، وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان ، فإنها لا تختلف ، فتشرع في جميع الشرائع . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ْ } تبعا لشريعة واحدة ، لا يختلف متأخرها و[ لا ] متقدمها .
{ وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ْ } فيختبركم وينظر كيف تعملون ، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته ، ويؤتي كل أحد ما يليق به ، وليحصل التنافس بين الأمم فكل أمة تحرص على سبق غيرها ، ولهذا قال : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ْ } أي : بادروا إليها وأكملوها ، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب ، من حقوق الله وحقوق عباده ، لا يصير فاعلها سابقا لغيره مستوليا على الأمر ، إلا بأمرين :
المبادرة إليها ، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها ، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به . ويستدل بهذه الآية ، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أول وقتها ، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة ، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات ، التي يقدر عليها لتتم وتكمل ، ويحصل بها السبق .
{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ْ } الأمم السابقة واللاحقة ، كلهم سيجمعهم الله ليوم لا ريب فيه . { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ْ } من الشرائع والأعمال ، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح ، ويعاقب أهل الباطل والعمل السيئ .
وبعد أن تحدث - سبحانه - عن التوراة والإِنجيل وما فيهما من الهدى والنور ، وأمر باتباع تعاليمهما . . عقب ذلك بالحديث عن القرآن الكريم الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - :
{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق . . . }
قوله : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً } معطوف على قوله قبل ذلك { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة } والمراد بالكتاب الأول : القرآن الكريم وأل فيه للعهد .
والمراد بالكتاب الثاني : جنس الكتب السماوية المتقدمة فيشمل التوراة والإِنجيل وأل فيه للجنس وقوله { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي : رقيبا على ما سبقه من الكتب السماوية المحفوظة من التغيير ، وأمينا وحاكما عليها ؛ لأنه هو الذي يشهد لها بالصحة ويقرر أصول شرائعها .
قال ابن جرير : وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب . يقال : إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده : قد هيمن فلان عليه . فهو يهيمن هيمنة ، وهو عليه مهيمن .
وقال صاحب الكشاف : وقرئ { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } - بفتح الميم - أي هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل كما قال - تعالى - : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } والذي هيمن عليه هو الله - عز وجل . أو الحفاظ في كل بلد ، لو حُرِّّف حرف منه أو حركة أو سكون لتنبه له كل أحد ، ولاشمأزوا ، رادين ومنكرين .
والمعنى : لقد أنزلنا التوراة على موسى ، والإِنجيل على عيسى ، وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب الجامع لكل ما اشتملت عليه الكتب السماوية من هدايات وقد أنزلناه ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وجعلناه { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب } أي : مؤيداً لما في تلك الكتب التي تقدمته : من دعوة إلى عبادة الله وحده ، و إلى التمسك بمكارم الأخلاق . وجعلناه كذلك " مهيمنا عليها " أي : أمينا ورقيبا وحاكما عليها .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أشار إلى سمو مكانة القرآن من بين الكتب السماوية بإشارات من أهمها :
أنه - سبحانه - لم يقل : وقفينا على آثارهم - أي على آثار الأنبياء السابقين - بمحمد صلى الله عليه وسلم وآتيناه القرآن . كما قال في شأن عيسى ابن مريم { وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } إلخ .
لم يقل ذلك في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شأن القرآن الكريم ، وإنما قال : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق } للإِشارة إلى معنى استقلاله وعدم تبعيته لغيره من الكتب التي سبقته ، وللإِيذان بأن الشيعة التي هذا كتابها هي الشريعة الباقية الخالدة التي لا تقبل النسخ أو التغيير .
وأنه - سبحانه - لم يزد في تعريف الكتاب الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على تعريفه بلام العهد فقال : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب } للإِشارة إلى كماله وتفوقه على سائر الكتب .
أي : أنه الكتاب الذي هو جدير بهذا الاسم ، بحيث إذا أطلق اسم الكتاب لا ينصرف إلا إليه لأنه الفرد الكامل من بين الكتب في هذا الوجود .
وأنه - سبحانه - قد وصفه بأنه قد أنزله ملتبسا بالحق والصدق ، وأنه مؤيد ومقرر لما اشتملت عليه الكتب السماوية من الدعوة إلى الحق والخير ، وأنه - فضلا عن كل ذلك - أمين على تلك الكتب ، وحاكم عليها ، فما أيده من أحكامها وأقوالها فهو حق ، ومال مل يؤيده منها فهو باطل .
قال ابن كثير : جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها ، جعله أشملها وأعظمها وأكملها ، لأنه - سبحانه - جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهداً وأمينا وحاكما عليها كلها ، وتكفل - سبحانه - بحفظه بنفسه فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقوله : { فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق } أمر من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتلزم في حكمه بين الناس الأحكام التي أنزلها - سبحانه - والفاء في قوله : ( فاحكم ) للإِفصاح عن شرط مقدر .
أي : إذا كان شأن القرآن كما ذكرت لك يا محمد فاحكم بين هؤلاء اليهود وبين غيرهم من الناس بما أنزله الله من أحكام ، فإن ما أنزله هو الحق الذي لا باطل معه ، ولا تتبع في حكمك أهواء هؤلاء اليهود وأشباههم لأن أتباعك لأهواهئهم يجعلك منحرفا ومائلا عما جاءك من الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب . ولم يقل - سبحانه - " فاحكم بينهم به " بل ترك الضمير وعبر بالموصول فقال : { فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله } للتنبيه على عليه ما في حيز الصلة للحكم ، لأن الموصول إذا كان في ضمن حكم تكون الصلة هي علة الحكم .
أي : التزم في حكمك بينهم بما يؤيده القرآن لأنه الكتاب الذي أنزله الله عليك .
قال بعض العلماء : " وهذا يفيد أن اليهود الذين عاشروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن ، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص ، أو ما لم يثبت أنهن نسخ والمعول عليه في الحالين هو القرآن وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولقد روى أنه - عليه السلام - ذكر أن موسى لو كان حيا ما وسعه إلا الإِيمان به - عليه السلام .
والضمير في قوله ، ( أهواءهم ) يعود إلى أولئك اليهود الذين كانوا يتحاكمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا بقصد الوصول إلى الحق ، وإنما بقصد الوصول إلى ما يسهل عليهم احتماله من أحكام .
قال الآلوسي : والنهي يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه . ولا يقال : كيف نهى صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهوائهم ، وهو صلى الله عليه وسلم معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك .
وقيل الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد سائر الحكام .
وقوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب على الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم بما أنزل الله إليه من الحق .
والشرعة والشريعة بمعنى واحد . وهي في الأصل الطريق الظاهر الموصول للماء . والمراد بها هنا ما اشتمل عليه الدين من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة . وسمي ما اشتمل عليه الدين من أحكام شريعة تشبيها بشريعة الماء . من حيث إن كلا منهما سبب الحياة . إذ أن الشريعة الدينية سبب في حياة الأرواح حياة معنوية . كما أن الماء سبب في حياة الأرواح حياة مادية .
والمنهاج : الطريق الواضح في الدين ، من نهج الأمر ينهج إذا وضح . والعطف باعتبار جمع الأوصاف .
قال بعضهم : هما كلمتان بمعنى واحد والتكرير للتأكيد .
وقيل : ليستا بمعنى واحد . فالشرعة ابتداء الطريق . والمنهاج الطريق المستقيم .
وقوله : ( منكم ) متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين " كل " .
أي : لكل أمة من الأمم الحاضرة والماضية وضعنا شرعة ومنهاجاً خاصين بها ، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى - عليهما السلام - كانت شرعتها ما في التوراة من أحكام . والأمة التي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد - عليهما الصلاة والسلام كانت شرعتها ما في الإِنجيل . وأما هذه الأمة الإِسلامية فشريعتها ما في القرآن من أحكام ، لأنه مشتمل على ما جاء في الكتب السابقة عليه من أصول الدين وكلياته التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وزاد عليها ما يناسب العصر الذي نزل فيه ، والعصورا لتي تلت ذلك إلى يوم القيامة .
وأهل الكتاب إنما أمروا بأن يتحاكموا إلى كتبهم قبل نسخها بالقرآن الكريم ، أما بعد نزوله ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم خاتما للرسالات السماوية ، فقد أصبح من الواجب عليهم الدخول في الإِسلام ، واتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به أو نهى عنه ، وليس لأحد بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إيمان مقبول إلا باتباعه وتصديقه في جميع أقواله وأعماله .
والاختلاف في الشرائع إنما يكون فيما يتعلق ببعض الأوامر والنواهي ، وببعض وجوه الحلال والحرام ، وبغير ذلك من فروع الشريعة ، فقد يحرم الله شيئاً على قوم عقوبة لهم ، ويحله لقوم آخرين تخفيفا عنهم ، كما قال - تعالى - : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } وكما قال - تعالى - حكاية عن عيسى - عليه السلام - :
{ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } أما ما يتعلق بأصول الشريعة ، وجوهر الدين ، وأساس العقيدة كالأمر بعبادة الله وحده .
والتحلي بمكارم الأخلاق ، فلا يتعلق به اختلاف في أي شريعة من الشرائع ، أو أي دين من الأديان .
وقد تكلم عن هذا المعنى الإمام ابن كثير فقال : قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد . كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات - أمهاتهم شتى - ودينهم واحد " يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله ، وضمنه كل كتاب أنزله ، كما قال - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً ثم يحل في الشريعة الأخرى . كما قال - تعالى - في شأن شريعة عيسى : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وبالعكس ، قد يكون الشيء حلالا في هذه الشريعة ثم يحرم فيي شريعة أخرى ، فيزداد في الشدة في هذه دون هذه ، وذلك لما له - تعالى - في ذلك من الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة .
وقال الآلوسي ما ملخصه : وقوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } الخطاب فيه - كما قال جماعة من المفسرين - للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب . واستدل بالآية من ذهب إلى أننا غير متعبدين بشرائع من قبلنا ، لأن الخطاب يعم الأمم ، واللام للاختصاص فيكون لكل أمة دين يخصها .
والتحقيق في هذا المقام أننا متعبدون بأحكام الشرائع السابقة من حيث إنها أحكام شريعتنا لا من حيث إنها شريعة للأولين .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر قدرته ، وبالغ حكمته فقال : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم } .
ومفعول المشيئة هنا محذوف لدلالة الجزاء عليه .
وقوله : { ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ } متعلق بمحذوف يستدعيه المقام .
والابتلاء : الاختبار والامتحان ليميز المطيع من المعاصي .
والمعنى : لو شاء الله - تعالى - أن يجعل الأمم جميعا أمة واحدة تدين بدين واحد وبشريعة واحدة لفعل ، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شيء ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك ، وإنما شاء أن يجعلكم أمما متعددة ليختبركم فيما آتاكم من شرائع مختلفة في بعض فروعها ولكنها متحدة في جوهرها وأصولها فيجازي من أطاعة بما يستحقه من ثواب ؛ ويجازي من خالف أمره بما يستحقه من عذاب .
وقوله : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } حض منه - سبحانه - لعباده على الاجتهاد في فعل الطاعات .
أي إذا كان الأمر كماوصفت لكم . فسارعوا إلى القيام بالأعمال الصالحة التي تسعدكم في الدنيا والآخرة ، وتنافسوا في تحصيلها بكل عزيمة ونشاط لتنالوا رضا الله - تعالى - وجزيل مثوبته .
{ فَاسْتَبِقُوا } بمعنى فتسابقوا ، ولتضمنه معنى السبق والابتدار تعدي بنفسه من غير إلى كما في قوله - تعالى - { واستبقا الباب } أي : حاول كل واحد منهما الابتدار والوصول إلى الباب قبل الآخر .
وقوله { إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات .
وقوله { فَيُنَبِّئُكُم } أي فيخبركم والمراد بالإِنباء والإِخبار هنا المجازاة على الأعمال ، وإنا عبر عنها بالإِنباء لوقوعها موقع إزالة موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الأنبياء .
أي : إلى الله وحده مصيركم ومرجعكم ، فيخبركم عند الحساب بما كنتم تختلفون فيه في الدنيا ، ويجازيكم بما تستحقون : فأما الذين آمنوا وعملوا الصلاحات فلهم منه - سبحانه - جزيل الثواب . وأما الذين طغوا وآثروا الحياة الدنيا فلهم من شديد العقاب .
وأخيرا يصل السياق إلى الرسالة الأخيرة ؛ وإلى الشريعة الأخيرة . . إنها الرسالة التي جاءت تعرض " الإسلام " في صورته النهائية الأخيرة ؛ ليكون دين البشرية كلها ؛ ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعا ؛ ولتهيمن على كل ماكان قبلها وتكون هي المرجع النهائي ؛ ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها . المنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها ؛ والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها ؛ وتستمد منها تصورها الاعتقادي ، ونظامها الاجتماعي ، وآداب سلوكها الفردي والجماعي . . وقد جاءت كذلك ليحكم بها ، لا لتعرف وتدرس ، وتتحول إلى ثقافة في الكتب والدفاتر ! وقد جاءت لتتبع بكل دقة ، ولا يترك شيء منها ويستبدل به حكم آخر في صغيرة من شئون الحياة أو كبيرة . . فإما هذا وإما فهي الجاهلية والهوى . ولا يشفع في هذه المخالفة أن يقول أحد إنه يجمع بين الناس بالتساهل في الدين . فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة . إنما يريد الله أن تحكم شريعته ، ثم يكون من أمر الناس ما يكون :
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، فاحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق . لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ، فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا ، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم . واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك . فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرا من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون ) . .
ويقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير ، وهذا الحسم في التقرير ، وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لترك شيء - ولو قليل - من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف . .
يقف الإنسان أمام هذا كله ، فيعجب كيف ساغ لمسلم - يدعي الإسلام - أن يترك شريعة الله كلها ، بدعوى الملابسات والظروف ! وكيف ساغ له أن يظل يدعي الإسلام بعد هذا الترك الكلي لشريعة الله ! وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم " مسلمين " ؟ ! وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم ، وهم يخلعون شريعة الله كلها ؛ ويرفضون الإقرار له بالإلوهيه ، في صورة رفضهم الإقرار بشريعته ، وبصلاحية هذه الشريعه في جميع الملابسات والظروف ، وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف !
( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق ) . .
يتمثل الحق في صدوره من جهى الألوهيه ، وهي الجهه التي تملك حق تنزيل الشرائع ، وفرض القوانين . . ويتمثل الحق في محتوياته ، وفي كل ما يعرض له من شئون العقيده والشريعه ، وفي كل ما يقصه من خير ، وما يحمله من توجيه .
( مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ) . .
فهو الصورة الأخيرة لدين الله ، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن ، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس ، ونظام حياتهم ، بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل .
ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه . سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماويه ، أو في الشريعه التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيره . أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم ، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياه كله هو هذا الكتاب .
ولا قيمه لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير .
وتترتب على هذه الحقيقه مقتضياتها المباشره :
( فاحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) . .
والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله [ ص ] فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يبحثون إليه متحاكمين . ولكنه ليس خاصاً بهذا السبب ، بل هو عام . . وإلى آخر الزمان . . طالما أنه ليس هناك رسول جديد ، ولا رساله جديده ، لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير !
لقد كمل هذا الدين ، وتمت به نعمة الله على المسلمين . ورضيه الله لهم منهج حياه للناس أجمعين . ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله ، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر ، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى . وقد علم الله حين رضيه للناس ، أنه يسع الناس جميعاً . وعلم الله حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً . وأنه يسع حياة الناس جميعاً ، الى يوم الدين . وأي تعديل في هذا المنهج - ودعك من العدول عنه - هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضروره . يخرج صاحبه من هذا الدين . ولو قال باللسان ألف مره : إنه من المسلمين !
وقد علم الله أن معاذير كثيره يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين . . وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه ، في بعض الملابسات والظروف . فحذر الله نبيه [ ص ] في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين ، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه . .
وأولى هذه الهواجس : الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة ، والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد . ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة ، والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة ، أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة !
وقد روى أن اليهود عرضوا على رسول الله [ ص ] أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها منها حكم الرجم . وأن هذا التحذير قد نزل بخصوص هذا العرض . . ولكن الأمر - كما هو ظاهر - أعم من حالة بعينها وعرض بعينه . فهو أمر يعرض في مناسبات شتى ، ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين . . وقد شاء الله - سبحانه - أن يحسم في هذا الأمر ، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعة للاعتبارات والظروف ، وتأليفا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء . فقال لنبيه : إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة ؛ ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهاجا ؛ وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة ، وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا . وأن كلا منهم يسلك طريقه ؛ ثم يرجعون كلهم إلى الله ، فينبئهم بالحقيقة ، ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق . . وأنه إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج . . فهم لا يتجمعون : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة . ولكن ليبلوكم فيما آتاكم . فاستبقوا الخيرات . إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) .
بذلك أغلق الله - سبحانه - مداخل الشيطان كلها ؛ وبخاصة ما يبدو منها خيرا وتأليفا للقلوب وتجميعا للصفوف ؛ بالتساهل في شيء من شريعة الله ؛ في مقابل إرضاء الجميع ! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف !
إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون ! فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد ، ولكل منهم مشرب ، ولكل منهم منهج ، ولكل منهم طريق . ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين . وقد عرض الله عليهم الهدى ؛ وتركهم يستبقون . وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه ، وهم إليه راجعون ؛
وإنها لتعلة باطلة إذن ، ومحاولة فاشلة ، أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله ، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها . فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئا إلا الفساد في الأرض ؛ وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم ؛ وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر ؛ وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض ، واتخاذ بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . . وهو شر عظيم وفساد عظيم . . لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون ؛ لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر ؛ ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع ، والاتجاهات والمشارب . . وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير . وإليه المرجع والمصير . .
إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله ، لمثل هذا الغرض ، تبدو - في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية - محاولة سخيفة ؛ لا مبرر لها من الواقع ؛ ولا سند لها من إرادة الله ؛ ولا قبول لها في حس المسلم ، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله . فكيف وبعض من يسمون أنفسهم " مسلمين " يقولون : إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر " السائحين " ؟ ! ! ! أي والله هكذا يقولون !
{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } أي القرآن . { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } من جنس الكتب المنزلة ، فاللام الأولى للعهد والثانية للجنس . { ومهيمنا عليه } ورقيبا على سائر الكتب يحفظه عن التغيير ويشهد له بالصحة والثبات ، وقرئ على بنية المفعول أي هو من عليه وحوفظ من التحريف والحافظ له هو الله سبحانه وتعالى ، أو الحفاظ في كل عصر . { فاحكم بينهم بما أنزل الله } أي بما أنزل الله إليك . { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه فعن صلة للاتتبع لتضمنه معنى لا تنحرف ، أو حال من فاعله أي لا تتبع أهواءهم مائلا عما جاءك . { لكل جعلنا منكم } أيها الناس . { شرعة } شريعة وهي الطريق إلى الماء شبه بها الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبدية . وقرئ بفتح الشين . { ومنهاجا } وطريقا واضحا في الدين من نهج الأمر إذا وضح . واستدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة . { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل ، ومفعول لو شاء محذوف دل عليه الجواب ، وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه . { ولكن ليبلوكم فيما آتاكم } من الشرائع المختلفة المناسبة لكل عصر وقرن ، هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن اختلافها بمقتضى الحكمة الإلهية ، أم تزيغون عن الحق وتفرطون في العمل . { فاستبقوا الخيرات } فابتدروها انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم . { إلى الله مرجعكم جميعا } استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق ووعد ووعيد للمبادرين والمقصرين . { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعامل والمقصر .
وأخبر تعالى بعد بنزول هذا القرآن ، وقوله : { بالحق } يحتمل أن يريد مضمناً الحقائق من الأمور فكأنه نزل بها ، ويحتمل أن يريد أنه أنزله بأن حق ذلك لا أنه وجب على الله ولكن حق في نفسه وأنزله الله تعالى صلاحاً لعباده ، وقوله : { من الكتاب } يريد من الكتب المنزلة . فهو اسم جنس ، واختلفت عبارة المفسرين في معنى «مهيمن » . فقال ابن عباس : { مهيمناً } شاهداً . وقال أيضاً مؤتمناً .
وقال ابن زيد : معناه مصدقاً ، وقال الحسن بن أبي الحسن أميناً ، وحكى الزجاج رقيباً ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنيّ بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحاصله ، فلا يدخل فيه ما ليس منه ، والله تبارك وتعالى هو المهيمن على مخلوقاته وعباده ، والوصي مهيمن على محجوريه وأموالهم ، والرئيس مهيمن على رعيته وأحوالهم ، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف ، وهذا هو شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين ، و «مهيمن » بناء اسم فاعل ، قال أبو عبيدة : ولم يجىء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة أحرف . وهي مسيطر ومبيطر ومهيمن ومجيمر . وذكر أبو القاسم الزجّاج- في شرحه لصدر أدب الكتاب- ومبيقر . يقال بيقر الرجل إذا سار من الحجاز إلى الشام ومن أفق إلى أفق ، وبيقر أيضاً لعب البيقرا وهي لعب يلعب بها الصبيان ، وقال مجاهد قوله تعالى : { ومهيمناً عليه } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم هو مؤتمن على القرآن .
قال القاضي أبو محمد : وغلط الطبري رحمه الله في هذه الألفاظ على مجاهد فإنه فسر تأويله على قراءة الناس «مهيمِناً » بكسر الميم الثانية فبعد التأويل ، ومجاهد رحمه الله إنما يقرأ هو وابن محيصن «ومهيمَناً » عليه بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول . وهو حال من الكتاب معطوفة على قوله : { مصدقاً } وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد صلى الله عليه وسلم و { عليه } في موضع رفع على تقدير أنها مفعول لم يسم فاعله . هذا على قراءة مجاهد وكذلك مشى مكي رحمه الله ، وتوغل في طريق الطبري في هذا الموضع ، قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد رحمه الله : «مهيمن » أصله «مويمن » بني من أمين ، وأبدلت همزته هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته ، قال الزجاج : وهذا حسن على طريق العربية ، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى «مهيمن » مؤتمن ، وحكى ابن قتيبة هذا الذي قال المبرد في بعض كتبه ، فحكى النقاش أن ذلك بلغ ثعلباً فقال : إن ما قال ابن قتيبة رديء ، وقال هذا باطل ، والوثوب على القرآن شديد ، وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف وإنما جمع الكتب ، انتهى كلام ثعلب .
قال القاضي أبو محمد : ويقال من مهيمن هيمن الرجل على الشيء إذا حفظه وحاطه وصار قائماً عليه أميناً ، ويحتمل أن يكون { مصدقاً ومهيمناً } حالين من الكاف في { إليك } . ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكي . قال بعض العلماء هذه ناسخة لقوله : { أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] وقد تقدم ذكر ذلك . وقال الجمهور : إنه ليس بنسخ ، وإن المعنى فإن اخترت ان تحكم { فاحكم بينهم بما أنزل الله } ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم أي شهواتهم وإرادتهم التي هي هوى وسول للنفس ، والنفس أمّارة بالسوء فهواها ُمْرٍد لا محالة ، وحسن هنا دخول عن في قوله : { عما جاءك من الحق } لما كان الكلام بمعنى : لا تنصرف أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك .
واختلف المتأولون في معنى قوله عز وجل { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة وجمهور المتكلمين : المعنى «لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً » أي لليهود شرعت ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك . .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندهم في الأحكام ، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل ، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عدداً من الأنبياء شرائعهم مختلفة ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }{[4571]} فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط ، وأما أحكام الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } .
والتاويل الأول عليه الناس . ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { لكل جعلنا منكم } الأمم كما قدمنا . ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم ، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيهاً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه ، والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان بمعنى واحد ، وذلك أن الشرعة والشريعة هي الطريق إلى الماء وغيره مما يورد كثيراً فمن ذلك قول الشاعر :
وفي الشرائع من جلان مقتنص *** بالي الثياب خفيّ الصوت مندوب{[4572]}
أراد في الطريق إلى المياه ، ومنه الشارع وهي سكك المدن ، ومنه قول الناس وفيها يشرع الباب ، والمنهاج أيضاً الطريق ، ومنه قول الشاعر :
ومن يك في شك فهذا نهج *** ماء رواه وطريق نهج{[4573]}
أراد واضحاً والمنهاج بناء مبالغة في ذلك ، وقال ابن عباس وغيره : { شرعة ومنهاجاً } معناه سبيلاً وسنة .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة الأحكام ، وبالمنهاج المعتقد أي وهو واحد في جميعكم ، وفي هذا الاحتمال بعد ، والقراء على «شِرعة » بكسر الشين وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «شَرعة » بفتح الشين ، ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع ، كذا قال ابن جريج وغيره ، فليس لهم إلا أن يجدّوا في امتثال الأوامر وهو استباق الخيرات ، فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم ، ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد في قوله { إلى الله مرجعكم جميعاً } والمعنى فالبدار البدار ، وقوله تعالى : { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } معناه يظهر الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار إيقاع ، وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ، وكل كتاب الله كذلك ، إلا أنا بقصور أفهامنا َيبين في بعض لنا أكثر مما َيبين في بعض .
جالت الآيات المتقدّمة جولة في ذكر إنزال التّوراة والإنجيل وآبت منها إلى المقصود وهو إنزال القرآن ؛ فكان كردّ العجز على الصّدر لقوله : { يأيها الرسول لا يُحزنك الّذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] ليبيّن أنّ القرآن جاء نسخاً لما قبله ، وأنّ مؤاخذة اليهود على ترك العمل بالتّوراة والإنجيل مؤاخذة لهم بعملهم قبل مجيء الإسلام ، وليعلمهم أنّهم لا يطمعون من محمّد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بغير ما شرعه الله في الإسلام ، فوقْعُ قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ } إتماماً لترتيب نزول الكُتب السماويّة ، وتمهيداً لقوله : { فاحْكم بينهم بما أنزل الله } . ووقع قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } موقع التّخلّص المقصود ، فجاءت الآيات كلّها منتظمة متناسقة على أبدع وجه .
والكتاب الأوّل القرآن ، فتعْريفه للعهد . والكتاب الثّاني جنس يشمل الكتب المتقدّمة ، فتعريفه للجنس . والمُصدّق تقدّم بيانه .
والمهيمن الأظهر أنّ هاءه أصلية وأنّ فعله بوزن فيْعَل كسَيْطَر ، ولكن لم يسمع له فعل مجرّد فلم يسمع هَمَن .
قال أهل اللّغة لا نظير لهذا الفعل إلاّ هَيْنَم إذا دعا أو قرأ ، وبيقر إذا خرَج من الحِجاز إلى الشّام ، وسيطر إذا قَهر . وليس له نظير في وزن مفيعل إلاّ اسم فاعل هذه الأفعال ، وزادوا مُبيطر اسم طبيب الدّواب ، ولم يسمع بَيْطَر ولكن بَطَر ، ومُجيمر اسم جبل ، ذكره امرؤ القيس في قوله :
كأنّ ذرى رأس المُجَيْمِر غُدوة *** من السيل والغثاء فلكة مغزل
وفسّر المهيمن بالعالي والرقيب ، ومن أسمائه تعالى المهيمن .
وقيل : المهيمن مشتقّ من أمِن ، وأصله اسم فاعل من آمنَه عليه بمعنى استحفظه به ، فهو مجاز في لازم المعنى وهو الرقابة ، فأصله مُؤَأْمِن ، فكأنّهم راموا أن يفرّقوا بينه وبين اسم الفاعل من آمَن بمعنى اعتقد وبمعنى آمنه ، لأنّ هذا المعنى المجازي صار حقيقة مستقلّة فقلبوا الهمزة الثّانية ياء وقلبوا الهمزة الأولى هاء ، كما قالوا في أراق هَراق ، فقالوا : هَيْمَن .
وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنّسبة لما قبله من الكتب ، فهو مؤيّد لبعض ما في الشّرائع مُقرّر له من كلّ حكم كانت مصلحته كلّيّة لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان ، وهو بهذا الوصف مُصَدّق ، أي مُحقّق ومقرّر ، وهو أيضاً مبطل لبعض ما في الشّرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كلّ ما كانت مصالحه جزئيّة مؤقّتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصّة .
وقوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } أي بما أنزل الله إليك في القرآن ، أو بما أوحاه إليك ، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التّوراة والإنجيل ما لم ينسخه اللّهُ بحكم جديد ، لأنّ شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لِمَنْ قبلنا . فحكم النّبيء على اليهوديين بالرجم حكم بما في التّوراة ، فيحتمل أنّه كان مؤيّداً بالقرآن إذا كان حينئذٍ قد جَاء قوله : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما » .
ويحتمل أنّه لم يؤيّد ولكن الله أوحى إلى رسوله أنّ حكم التّوراة في مثلهما الرجم ، فحكم به ، وأطلع اليهود على كتمانهم هذا الحكم . وقد اتّصل معنى قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } بمعنى قوله : { وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط } [ المائدة : 42 ] ؛ فليس في هذه الآية ما يقتضي نسخ الحكم المفاد من قوله : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] ، ولكنه بيان سمّاه بعضُ السلف باسم النسخ قبل أن تنضبط حدود الأسماء الاصطلاحيّة .
والنّهي عن اتّباع أهوائهم ، أي أهواء اليهود حين حكّموه طامعين أن يَحكم عليهم بما تَقَرّر من عوائِدهم ، مقصود منه النّهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه ، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة ، لأنّ نزول القرآن مهيمناً أبطل ما خالفه ، ونزولَه مصدّقاً أيَّد ما وافقه وزكّى ما لم يخالفه .
والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله ، فالمقصود من هذا النّهي : إمَّا إعلان ذلك ليعلمه النّاس وييأس الطّامعون أن يحكم لهم بما يشتهون ، فخطاب النّبيء صلى الله عليه وسلم بقوله : { ولا تتّبع أهواءهم } [ المائدة : 49 ] مراد به أن يتقرّر ذلك في علم النّاس ، مثل قوله تعالى : { لئنْ أشركت ليحبَطنّ عملك } [ الزمر : 65 ] . وإمَّا تبيين الله لرسوله وجهَ ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلّة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرُقاً للترجيح ، وذلك أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لشدّة رغبته في هُدى النّاس قد يتوقّف في فصل هذا التّحكيم ، لأنّهم وعَدوا أنّه إن حكم عليهم بما تقرّر من عوائدهم يؤمنون به . فقد يقال : إنّهم لمّا تراضَوا عليه لِم لا يُحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام ، فبيّن الله له أنّ أمور الشّريعة لا تهاون بها ، وأنّ مصلحةَ احترام الشّريعة بين أهلها أرجحُ من مصلحة دخول فريق في الإسلام ، لأنّ الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفاً لمريديه ، قال تعالى : { يمُنّون عليكَ أنْ أسلموا قل لا تُمُنّوا عليّ إسلامَكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } [ الحجرات : 17 ] .
وقوله : { لكلَ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } كالتعليل للنّهي ، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم فدعهم وما اعتادوه وتمسَّكوا بشرعكم . .
والشرعة والشريعة : الماء الكثير من نهر أو واد . يقال : شريعة الفرات . وسمّيت الديانة شريعة على التشبيه ، لأنّ فيها شفاء النّفوس وطهارتَها . والعرب تشبّه بالماء وأحواله كثيراً ، كما قدمناه في قوله تعالى : { لَعَلِمه الّذين يستنبطونه منهم } في سورة النساء ( 83 ) .
والمنهاج : الطريق الواسع ، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء ، كقول قيس بن الخطيم :
فذكر الرشاء مجرّد تخييل . ويصحّ أن يجعل له رديف في المشبَّه بأن تشبّه العوائد المنتزعة من الشّريعة ، أو دلائل التّفريع عن الشريعة ، أو طرق فهمها بالمنهاج الموصّل إلى السماء .
فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتّصال بالإسلام ، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء ، ومنهاج غيرهم منحرف عن دينهم ، كما كانت اليهود قد جعلت عوائد مخالفة لشريعتهم ، فذلك كالمنهاج الموصّل إلى غير المورود . وفي هذا الكلام إبهام أريد به تنبيه الفريقين إلى الفرْق بين حاليهما وبالتّأمّل يظهر لهم .
وقوله : ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة } . الجعل : التقدير ، وإلاّ فإنّ الله أمر النّاس أن يكونوا أمّة واحدة على دين الإسلام ، ولكنّه رتّب نواميس وجبلاّت ، وسبَّب اهتداء فريق وضلال فريق ، وعلم ذلك بحسب ما خلق فيهم من الاستعداد المعبّر عنه بالتّوفيق أو الخذلان ، والميللِ أو الانصراففِ ، والعزم أو المكابرة . ولا عذر لأحد في ذلك ، لأنّ علم الله غير معروف عندنا وإنّما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات .
والأمّة : الجماعة العظيمة الّذين دينهم ومعتقدهم واحد ، هذا بحسب اصطلاح الشّريعة . وأصل الأمّة في كلام العرب : القوم الكثيرون الّذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلّمون بلسان واحد ، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد ، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة للزّيادة ولا للتطوّر من أنفسها .
ومعنى { ليبلوكم فيما آتاكم } هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه . والبلاء : الخبرة . والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للنّاس ، والمرادُ لازم المعنى على طريق الكناية ، كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلتُ والخطيّ يخطر بيننا *** لأعْلَمَ مَن جَبَانُهَا مِن شجاعها
لم يرد لأعلم فقط ولكن أراد ليظهر لي وللنّاس . ومعناه أنّ الله وَكَل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول النّاس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابَق النّاس إلى إعمال مواهبهم العقليّة فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علماً وتقام الأدلّة على الاعتقاد الصّحيح . وكلّ ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلّة البشر من الصلاحيّة للخير والإرشاد على حسب الاستعداد ، وذلك من الاختبار . ولذلك قال { ليبلوكم فيما آتاكم } ، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنّظر . فيظهر التّفاضل بين أفراد نوع الإنسان حتّى يَبلغ بعضُها درجاتتٍ عالية ، ومن الشرائع الّتي آتاكموها فيظهر مقدارُ عملكم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل .
وفرّع على { ليبلوكم } قوله : { فاستبقوا الخيرات } لأنّ بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التّوفيق أوضَح وأجلى .
والاستباق : التسابق ، وهو هنا مجاز في المنافسة ، لأنّ الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر ، فشابه التّسابق . ولتضمين فعل { استبقوا } بمعنى خذوا ، أو ابتدروا ، عدّي الفعل إلى { الخيرات } بنفسه وحقّه أن يعدّى بإلى ، كقوله { سَابقوا إلى مغفرة من ربّكم } [ الحديد : 21 ] . وقوله : { فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي من الاختلاف في قبول الدّين .