94- وارتحلوا بالقميص ، وكان قلب يعقوب مستغرقا في ترقب ما تأتى به رحلة بنيه ، وكان اللَّه معه في هذا الترقب فوصل روحه بأرواحهم ، فحين تجاوزت قافلتهم أرض مصر في طريقها إليه ، شرح اللَّه صدره بالأمل ، وأحاطه بجو من الطمأنينة إلى اقتراب البشرى بسلامة يوسف ، وأخبر أهله بذلك إذ يقول : إني أشعر برائحة يوسف المحبوبة تغمرني ، ولولا خشية أن تتهموني في قولي لأنبأتكم عن يوسف بأكثر من الشعور والوجدان .
{ ولما فصلت العير } أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى كنعان { قال أبوهم } ، أي : قال يعقوب لولد ولده { إني لأجد ريح يوسف } . روي أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير . قال مجاهد : أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام . وحكي عن ابن عباس : من مسيرة ثمان ليال . وقال الحسن : كان بينهما ثمانون فرسخا . وقيل : هبت ريح فصفقت القميص فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب فوجد ريح الجنة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص ، فلذلك قال : { إني لأجد ريح يوسف } قبل البشير . { لولا أن تفندون } ، تسفهوني ، وعن ابن عباس : تجهلوني . وقال الضحاك : تهرموني فتقولون شيخ كبير قد خرف وذهب عقله . وقيل : تضعفوني . وقال أبو عبيدة : تضللوني . وأصل الفند : الفساد .
واستجاب الإِخوة لتوجيه يوسف ، فأخذوا قميصه وعادوا إلى أوطانهم ويصور القرآن ما حدث فيقول : { وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } .
و { فَصَلَتِ العير } أى خرجت من مكان إلى مكان آخر . يقال : فصل فلان من بلده كذا فصولاً ، إذا جاوز حدودها إلى حدود بلدة أخرى .
و { تفندون } من الفند وهو ضعف العقل بسبب المرض والتقدم في السن .
والمعنى : وحين غادرت الإِبل التي تحمل إخوة يوسف حدود مصر ، وأخذت طريقها إلى الأرض التي يسكنها يعقوب وبنوه ، قال يعقوب - عليه السلام - لمن كان جالساً معه من أهله وأقاربه ، استمعوا إلى { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } .
أى : رائحته التي تدل عليه ، وتشير إلى قرب لقائى به .
و { لولا } أن تنسبونى إلى الفند وضعف العقل لصدقتمونى فيما قلت ، أو لولا أن تنسبونى إلى ذلك لقلت لكم إنى أشعر أن لقائى بيوسف قد اقترب وقته وحان زمانه .
فجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه .
وقد أشم الله - تعالى - يعقوب - عليه السلام - ما عبق من القميص من رائحة يوسف من مسيرة أيام ، وهى معجزة ظاهرة له - عليه السلام - .
وقال الإِمام مالك - رحمه الله - أوصل الله - ريح قميص يوسف ليعقوب ، كما أوصل عرش بلقيس إلى سليمان قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه .
ومنذ اللحظة نحن أمام مفاجأة في القصة بعد مفاجأة ، حتى تنتهي مشاهدها المثيرة بتأويل رؤيا الصبي الصغير .
( ولما فصلت العير قال أبوهم : إني لأجد ريح يوسف . لولا أن تفندون ! ) . .
ريح يوسف ! كل شيء إلا هذا . فما يخطر على بال أحد أن يوسف بعد في الأحياء بعد هذا الأمد الطويل . وأن له ريحا يشمها هذا الشيخ الكليل !
إني لأجد ريح يوسف . لولا أن تقولوا شيخ خرف : ( لولا أن تفندون ) . . لصدقتم معي ما أجده من ريح الغائب البعيد .
كيف وجد يعقوب ريح يوسف منذ أن فصلت العير . ومن أين فصلت ؟ يقول بعض المفسرين : إنها منذ فصلت من مصر ، وأنه شم رائحة القميص من هذا المدى البعيد . ولكن هذا لا دلالة عليه . فربما كان المقصود لما فصلت العير عند مفارق الطرق في أرض كنعان ، واتجهت إلى محلة يعقوب على مدى محدود .
ونحن بهذا لا ننكر أن خارقة من الخوارق يمكن أن تقع لنبي كيعقوب من ناحية نبي كيوسف . كل ما هنالك أننا نحب أن نقف عند حدود مدلول النص القرآني أو رواية ذات سند صحيح . وفي هذا لم ترد رواية ذات سند صحيح . ودلالة النص لا تعطي هذا المدى الذي يريده المفسرون !
{ ولما فصلت العير } من مصر وخرجت من عمرانها . { قال أبوهم } لمن حضره . { إني لأجد ريح يوسف } أوجده الله ريح ما عبق بقميصه من ريحه حيين أقبل به إليه يهوذا من ثمانين فرسخا . { لولا أن تفنّدون } تنسبوني إلى الفند وهو نقصان عقل يحدث من هرم ، ولذلك لا يقال عجوز مفندة لأن نقصان عقلها ذاتي . وجواب { لولا } محذوف بقديره لصدقتموني أو لقلت إنه قريب .
وقوله تعالى : { ولما فصلت العير } الآية ، معناه : فصلت العير من مصر متوجهة إلى موضع يعقوب ، حسبما اختلف فيه ، فقيل : كان على مقربة من بيت المقدس ، وقيل كان بالجزيرة والأول أصح لأن آثارهم وقبورهم حتى الآن هناك .
وروي أن يعقوب وجد { ريح يوسف } وبينه وبين القميص مسيرة ثمانية أيام ، قاله ابن عباس ، وقال : هاجت ريح فحملت عرفه ؛ وروي : أنه كان بينهما ثمانون فرسخاً - قاله الحسن - وابن جريج قال : وقد كان فارقه قبل ذلك سبعاً وسبعين سنة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من الأول .
وروي : أنه كان بينهما مسيرة ثلاثين يوماً ، قاله الحسن بن أبي الحسن ، وروي عن أبي أيوب الهوزني : أن الريح استأذنت في أن توصل عرف يوسف إلى يعقوب ، فأذن لها في ذلك . وكانت مخاطبة يعقوب هذه لحاضريه ، فروي : أنهم كانوا حفدته ، وقيل : كانوا بعض بنيه ، وقيل : كانوا قرابته .
و { تفندون } معناه : تردون رأيي وتدفعون في صدري ، وهذا هو التفنيد في اللغة ، ومن ذلك قول الشاعر : [ البسيط ]
يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي*** فليس ما فات من أمري بمردود{[6826]}
ويقال : أفند الدهر فلاناً : إذا أفسده .
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه*** إذا كلف الإفناد بالناس أفندا{[6827]}
ومما يعطي أن الفند الفساد في الجملة قول النابغة : [ البسيط ]
إلا سليمان إذ قال الإله له*** قم في البرية فاحددها عن الفند{[6828]}
وقال منذر بن سعيد : يقال : شيخ مفند : أي قد فسد رأيه ، ولا يقال : عجوز .
قال القاضي أبو محمد : والتفنيد يقع إما لجهل المفند ، وإما لهوى غلبه ، وإما لكذبه ، وإما لضعفه وعجزه لذهاب عقله وهرمه ، فلهذا فسّر الناس التفنيد في هذه الآية بهذه المعاني ومنه قوله عليه السلام أو هرماً مفنداً{[6829]} .
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : معناه تسفهون ، وقال ابن عباس - أيضاً - تجهلون ، وقال ابن جبير وعطاء : معناه : تكذبون{[6830]} ، وقال ابن إسحاق : معناه : تضعفون ، وقال ابن زيد ومجاهد : معناه : تقولون : ذهب عقلك ، وقال الحسن : معناه : تهرمون .
والذي يشبه أن تفنيدهم ليعقوب إنما كان لأنهم كانوا يعتقدون أن هواه قد غلبه في جانب يوسف{[6831]} . قال الطبري : أصل التفنيد الإفساد .