وهذا من عدم توفيقه ، وسوء حظه ، وتوفر جهله ، وشدة ظلمه ، فإنه لا يصلح الوجود ، إلا على إله واحد ، كما أنه لم يوجد ، إلا برب واحد .
ولهذا قال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ْ } أي : في السماوات والأرض { آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ْ } في ذاتهما ، وفسد من فيهما من المخلوقات .
وبيان ذلك : أن العالم العلوي والسفلي ، على ما يرى ، في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام ، الذي ما فيه خلل ولا عيب ، ولا ممانعة ، ولا معارضة ، فدل ذلك ، على أن مدبره واحد ، وربه واحد ، وإلهه واحد ، فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك ، لاختل نظامه ، وتقوضت أركانه فإنهما يتمانعان ويتعارضان ، وإذا أراد أحدهما تدبير شيء ، وأراد الآخر عدمه ، فإنه محال وجود مرادهما معا ، ووجود مراد أحدهما دون الآخر ، يدل على عجز الآخر ، وعدم اقتداره واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور ، غير ممكن ، فإذًا يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده ، من غير ممانع ولا مدافع ، هو الله الواحد القهار ، ولهذا ذكر الله دليل التمانع في قوله : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ْ }
ومنه - على أحد التأويلين - قوله تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا* سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ْ } ولهذا قال هنا : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ ْ } أي : تنزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده ، { رَبُّ الْعَرْشِ ْ } الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها ، وأعظمها ، فربوبية{[526]} ما دونه من باب أولى ، { عَمَّا يَصِفُونَ ْ } أي : الجاحدون الكافرون ، من اتخاذ الولد والصاحبة ، وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه .
ثم ساق - سبحانه - دليلا عقليا مستمدا من واقع هذا الكون فقال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } .
أى : لو كان فى السموات والأرض آلهة أخرى سوى الله - تعالى - ، تدبر أمرهما ، لفسدتا ولخرجتا عن نظامهما البديع ، الذى لا خلل فيه ولا اضطراب .
وذلك لأن تعدد الآلهة يلزمه التنازع والتغالب بينهم . . . فيختل النظام لهذا الكون ، ويضطرب الأمر ، ويعم الفساد فى هذا العالم .
ولما كان المشاهد غير ذلك إذ كل شىء فى هذا الكون يسير بنظام محكم دقيق دل الأمر على أن لهذا الكون كله ، إلها واحداً قادرا حكيما لا شريك له .
قال صاحب الكشاف : " والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذى هو فاطرهما لفسدتا .
وفيه دلالة على أمرين : أحدهما : وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحداً .
الثانى : أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده ، لقوله { إِلاَّ الله } .
فإن قلت : لم وجب الأمران ؟ قلت : لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف .
قال عبد الملك بن موران حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق : كان والله أعز على من دم ناظرى . ولكن لا يجتمع فحلان فى شَوْل - أى : فى عدد مع النياق - .
وقوله - تعالى - : { فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } تنزيه لله - تعالى - عما قاله الجاهلون فى شأنه - عز وجل - .
أى : فتنزيها لله وتقديسا وتبرئة لذاته عن أن يكون له شريك فى ألوهيته ، وجل عما وصفه به الجاهلون .
وهنالك الدليل الكوني المستمد من واقع الوجود : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . .
فالكون قائم على الناموس الواحد الذي يربط بين أجزائه جميعا ؛ وينسق بين أجزائه جميعا ؛ وبين حركات هذه الأجزاء وحركة المجموع المنظم . . هذا الناموس الواحد من صنع إرادة واحدة لإله واحد . فلو تعددت الذوات لتعددت الإرادات . ولتعددت النواميس تبعا لها - فالإرادة مظهر الذات المريدة . والناموس مظهر الإرادة النافذة - ولانعدمت الوحدة التي تنسق الجهاز الكوني كله ، وتوحد منهجه واتجاهه وسلوكه ؛ ولوقع الاضطراب والفساد تبعا لفقدان التناسق . . هذا التناسق الملحوظ الذي لا ينكره أشد الملحدين لأنه واقع محسوس .
وإن الفطرة السليمة التي تتلقي إيقاع الناموس الواحد للوجود كله ، لتشهد شهادة فطرية بوحدة هذا الناموس ، ووحدة الإرادة التي أوجدته ، ووحدة الخالق المدبر لهذا الكون المنظم المنسق ، الذي لا فساد في تكوينه ، ولا خلل في سيره :
( فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) . .
وهم يصفونه بأن له شركاء . تنزه الله المتعالى المسيطر : ( رب العرش )والعرش رمز الملك والسيطرة والاستعلاء . تنزه عما يقولون والوجود كله بنظامه وسلامته من الخلل والفساد يكذبهم فيما يقولون .
{ لو كان فيهما آلهة إلا الله } غير الله ، وصف ب { إلا } لتعذر الاستثناء لعدم شمول ما قبلها لما بعدها ودلالته على ملازمة الفساد لكون الآلهة فيهما دونه ، والمراد ملازمته لكونها مطلقا أو معه حملا لها على غير كما استثنى بغير حملا عليها ، ولا يجوز الرفع على البدل لأنه متفرع على الاستثناء ومشروط بأن يكون في كلام غير موجب { لفسدتا } لبطلتا لما يكون بينهما من الاختلاف و التمانع ، فإنها إن توافقت في المراد تطاردت عليه القدر وإن تخالفت فيه تعاوقت عنه . { فسبحان الله رب العرش } المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير ومنشأ التقادير . { عما يصفون } من اتخاذ الشريك والصاحبة والولد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.