الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (22)

قوله : { إِلاَّ اللَّهُ } : " إلاَّ " هنا صفةٌ للنكرة قبلها بمعنى " غَيْر " . والإِعرابُ فيها متعذَّر ، فَجُعِل على ما بعدها . وللوصفِ بها شروطٌ منها : تنكيرُ الموصوفِ ، أو قُرْبُه من النكرة بأَنْ يكونَ معرفاً بأل الجنسية . ومنها أَنْ يكونَ جمعاً صريحاً كالآية ، أو ما في قوةِ الجمعِ كقوله :

لو كان غيري سُلَيْمى اليومَ غيَّره *** وَقْعُ الحوادِثِ إلاَّ الصارمُ الذَّكَرُ

ف " إلاَّ الصارِمُ " صفةُ لغيري لأنه في معنى الجمع . ومنها أَنْ لا يُحْذَفَ موصوفُها عكسَ " غير " . وقد أَتْقَنَّا هذا كلَّه في " إِيضاحِ السبيل إلى شرح التسهيل " فعليك به . وأنشد سيبويهِ على ذلك قولَ الشاعر :

وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أخُوه *** لَعَمْرُ أبيكَ إلاَّ الفرقدانِ

أي : وكلُّ أخٍ غيرُ الفرقدين مفارِقُه أخوه . وقد وقع الوصفُ ب إلاَّ كما وقع الاستثناء ب " غير " ، والأصلُ في " إلاَّ " الاستثناءُ وفي " غير " الصفةُ . ومن مُلَحِ كلامِ أبي القاسم الزمخشري : " واعلم أنَّ " إلاَّ " وغير يَتَقَارضان " .

ولا يجوزُ أَنْ ترتفعَ الجلالةُ على البدل مِنْ " آلهة " لفسادِ المعنى . قال الزمخشري : " فإن قلت : ما مَنَعك من الرفع على البدل ؟ قلت : لأنَّ " لو " بمنزلةِ " إنْ " في أنَّ الكلامَ معها موجَبٌ ، والبدلُ لا يَِسُوغ إلاَّ في الكلام غيرِ الموجبِ كقوله تعالى : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتُكَ } [ هود : 81 ] وذلك لأنَّ أعمَّ العامِّ يَصِحُّ نفيُه ولا يَصِحُّ إيجابُه " . فجعل المانعَ صناعياً مستنداً إلى ما ذُكِر مِنْ عدم صحةِ إيجاب أعمِّ العام .

وأحسنُ مِنْ هذا ما ذكره أبو البقاء مِنْ جهة المعنى فقال : " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً ، لأنَّ المعنى يصيرُ إلى قولك : لو كان فيهما اللهُ لَفَسَدَتا ، ألا ترى أنَّك لو قلت : " ما/ جاءني قومُك إلاَّ زيدٌ " على البدلِ لكان المعنى : جاءني زيدٌ وحدَه . ثم ذكر الوجه الذي رَدَّ به الزمخشريُّ فقال : " وقيل : يمتنعُ البدلُ لأنَّ قبلها إيجاباً " . ومنع أبو البقاء النصبَ على الاستثناء لوجهين ، أحدُهما : أنه فاسدٌ في المعنى ، وذلك أنك إذا قلتَ : " لو جاءني القومُ إلاَّ زيداً لقتلتُهم " كان معناه : أنَّ القَتْلَ امتنع لكونِ زيدٍ مع القوم . فلو نُصِبَتْ في الآية لكان المعنى : إنَّ فسادَ السماواتِ والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة . وفي ذلك إثباتُ إلهٍ مع الله . وإذا رُفِعَتْ على الوصفِ لا يلزمُ مثلُ ذلك ؛ لأنَّ المعنى : لو كان فيهما غيرُ اللهِ لفسدتا . والوجهُ الثاني : أنَّ آلهة هنا نكرةٌ ، والجمعُ إذا كان نكرةً لم يُسْتثنَ منه عند جماعةٍ من المحققين ؛ إذ لا عمومَ له بحيث يدخلُ فيه المستثنى لولا الاستثناءُ " .

وهذا الوجهُ الذي منعاه أعني الزمخشري وأبا البقاء قد أجازه أبو العباس المبرد وغيره : أمَّا المبردُ فإنه قال : " جاز البدلُ لأنَّ ما بعد " لو " غيرُ موجَبٍ في المعنى . والبدلُ في غير الواجبِ أحسنُ من الوصفِ . وفي هذه نظرٌ من جهة ما ذكره أبو البقاء من فسادِ المعنى .

وقال ابنُ الضائعِ تابعاً للمبرد : لا يَصِحُّ المعنى عندي إلاَّ أن تكون " إلاَّ " في معنى " غير " التي يُراد بها البدلُ أي : لو كان فيهما آلهةٌ عِوَضَ واحدٍ أي بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا . وهذا المعنى أرادَ سيبويه في المسألةِ التي جاء بها توطئةً .

وقال الشَّلَوْبين في مسألةِ سيبويه " لو كان معنا رجلٌ إلاَّ زيدٌ لَغُلِبْنا " : إنَّ المعنى : لو كانَ معنا رجلٌ مكانَ زيد لَغُلبنا ، ف " إلاَّ " بمعنى " غير " التي بمعنى مكان . وهذا أيضاً جنوحٌ من أبي عليّ إلى البدلِ . وما ذكره ابنُ الضائع من المعنى المتقدمِ مُسَوِّغٌ للبدل . وهو جوابٌ عَمَّا أَفْسَد به أبو البقاء وجهَ البدل ، إذ معناه واضحٌ ، ولكنه قريبٌ من تفسير المعنى لا من تفسيرِ الإِعراب .