اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (22)

قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } وإلا هنا صفة للنكرة قبلها بمعنى «غير » ، والإعراب فيها متعذر فجعل على ما بعدها{[28036]} . وللوصف بها شروط منها : تنكير الموصوف ، أو قربه من النكرة بأن يكون معرفاً ب ( أل ) الجنسية{[28037]} .

ومنها أن يكون جمعاً صريحاً كالآية أو ما في قوة الجمع كقوله{[28038]} :

3707- لَوْ كَانَ غَيْرِي سُلَيْمَى الدَّهْر غَيَّرَهُ *** وَقْعُ الحَوَادِثِ إِلا الصَّارِمُ الذَّكَرُ{[28039]}

ف ( إلا الصارم ) صفة ل «غيري » ، لأنه في معنى الجمع{[28040]} . ومنها : أن لا يحذف موصوفها عكس ( غير ){[28041]} ، وأنشد سيبويه{[28042]} على ذلك قوله :

3708- وَكلُّ أَخٍ مَفارِقُهُ أَخُوهُ *** لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ{[28043]}

أي : وكل أخ لك غير الفرقدين مفارقه أخوه .

وقد وقع الوصف ب «إلا » كما وقع الاستثناء ب «غير » ، والأصل في{[28044]} «إلا » الاستثناء وفي «غير » الصفة{[28045]} . ومن مُلَح الكلام الزمخشري : واعلم أن ( إلا ){[28046]} و ( غير ) يتقارضان{[28047]} . ولا يجوز أن يرتفع الجلالة على البدل . قلت لأن «لو » بمنزلة «إن » في أن الكلام معها موجب{[28048]} ، والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب{[28049]} كقوله تعالى { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك }{[28050]} وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ، ولا يصح إيجابه{[28051]} .

فجعل المانع صنا عياً مستنداً إلى ما ذكر من عدم صحّة إيجاب أعم العام . وأحسن من هذا{[28052]} ما ذكره أبو البقاء من جهة المعنى قال : ولا يجوز أن يكون بدلاً ، لأن المعنى يصير إلى قولك : لَوْ كَانَ فِيهِمَا الله لفسدتا{[28053]} ألا ترى أنك لو قلت : ما جاءني قومك إلا زيد{[28054]} على البدل لكان المعنى : جاءني زيد وحده{[28055]} .

ثم ذكر الوجه الذي رد به الزمخشري فقال : وقيل يمتنع البدل ، لأن قبلها إيجاباً{[28056]} . ومنع أبو البقاء النصب على الاستثناء لوجهين :

أحدهما : أنه فاسد في المعنى ، وذلك أنك إذا قلت : لو جاءني القوم إلا زيداً لقتلتهم ، كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم ، ولو نصبت{[28057]} في الآية لكان المعنى : أن فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة ، وفي ذلك إثبات إله مع الله . وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مذل ذلك ، لأن المعنى لو كان فيهما غير الله لفسدتا{[28058]} .

والوجه الثاني : أن «آلهة » هنا نكرة ، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين ، إذ لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء{[28059]} . وهذا الوجه الذي معناه ، أعني الزمخشري وأبا البقاء ، قد أجازه المبرد وغيره أما المبرد فإنه قال : جاز البدل ، لأن ما بعد «لو » غير موجب في المعنى والبدل في غير الموجب أحسن من الوصف{[28060]} .

وفي هذا نظر من جهة ما ذكره أبو البقاء من فساد المعنى{[28061]} .

وقال ابن الضائع{[28062]} تابعاً للمبرد : لا يصح المعنى عندي إلا أن تكون «إلا »{[28063]} في معنى ( غير ) التي يراد بها البدل ، أي : لو كان فيهما آلهة عوض واحد ، أي : بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا ، وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة{[28064]} . وقال الشلوبين{[28065]} في مسألة سيبويه : «لو كان معنا رَجُلٌ إلاَّ زَيْدٌ لَغُلِبْنَا » إن المعنى : لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مكان زيد لغلبنا ، ف ( إلا ) بمعنى ( غير ) التي بمعنى مكان{[28066]} . وهذا أيضاً جنوح من أبي علي إلى البدل . وما ذكره ابن الضائع من المعنى المتقدم مسوغ للبدل ، وهو جواب عنا أفسد به أبو البقاء وجه البدل إذ معناه واضح ، ولكنه قريب من تفسير المعنى لا من تفسير الإعراب{[28067]} .

فصل

المعنى لو كان يتولاهما ، ويدبر أمرهما شيء غير الواحد الذي فطرهما لفسدتا ولا يجوز أن تكون » إلا «بمعنى الاستثناء ، لأنها لو كانت استثناء لكان المعنى : لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا ، وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد ، وذلك باطل ، لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء كان الله معهم ، أو لم يكن الله معهم فالفساد لازم . ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت ما ذكرنا{[28068]} . وهو أن المعنى : لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله لفسدتا ، أي لخربتا ، وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة ، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام{[28069]} . ويدل العقل على ذلك من وجوه :

الأول : أنا لو قدرنا إلهين لكان أحدهما إذا انفرد صح منه تحريك الجسم وإذا انفرد الثاني صح منه تسكينه{[28070]} ، فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كان عليه حال الانفراد ، فعند الاجتماع يصح أن يحاول أحدهما التحريك والآخر التسكين فإما أن يحصل المرادان ، وهو محال ، وإما أن يمتنعا وهو أيضاً محال ، لأنه يكون كل واحد منهما عاجزاً ، وأيضاً المانع من تحصيل مراد كل واحد منهما مراد الآخر ، والمعلول لا يحصل إلا مع علته ، فلو امتنع المرادان لحصلا ، وذلك محال وإما أن يمتنع أحدهما دون الثاني ، وذلك أيضاً محال ، لأن الممنوع يكون عاجزاً ، والعاجز لا يكون إلهاً ، ولأنه لما كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد لم يكن عجز أحدهما أولى من عجز الآخر ، فثبت أن القول بوجود إلهين يوجب هذه الأقسام الفاسدة فكان القول به باطلاً .

الوجه الثاني : أن الإله يجب أن يكون قادراً على جميع الممكنات ، فلو فرضنا الإلهين لكان{[28071]} كل واحد منهما قادراً على جميع الممكنات ، فإذا أراد كل واحد منهما تحريك جسم فتلك الحركة إما أن تقع بهما معاً{[28072]} ولا تقع بواحد منهما أو تقع بواحد منهما أو تقع بأحدهما دون الثاني ، والأول محال ، لأن الأثر مع المؤثر المستقل واجب الحصول ، ووجوب حصوله به يمنع من استناده إلى الثاني ، فلو اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجاً إليهما ، وغنيَّا عنهما وهو محال ، وإما أن لا يقع بواحد منهما ألبتة ، فهذا يقتضي كونهما عاجزين ، وأيضاً فامتناع وقوه بهذا إنما يكون لأجل وقوعه بذاك وبالضد ، فلو امتنع وقوعه بهما معاً وهو محال ، وإما أن يقع بأحدهما دون الثاني فهو باطل ، لأن وقوعه بهذا يلزم فيه رجحان أحد الإلهين على الآخر من غير مرجح ، وهو محال .

الوجه الثالث : لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا ، فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال ، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما ، أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال ، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات{[28073]} .

وذكروا وجوهاً أخر عقلية وفي هذا كفاية .

ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال : { فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } أي : عما يصفه به المشركون من الشرك والولد{[28074]} .

فإن قيل : أي فائدة لقوله تعالى : { رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } .

فالجواب : أن هذه المناظرة وقعت مع عبدة الأصنام ، وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكاً في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين{[28075]} .


[28036]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/388، مشكل إعراب القرآن 2/82 البيان 2/159، التبيان 2/914، البحر المحيط 6/304.
[28037]:لأن المعرف بـ (أل) الجنسية في معنى النكرة كقول الشاعر: أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة *** قليل بها الأصوات إلا بغامها وانظر الكتاب 1/332، والمغنى 1/72، الهمع 1/229، الأشموني 2/156.
[28038]:في ب: لقوله.
[28039]:البيت من بحر البسيط قاله لبيد، وهو في ديوانه (57) والكتاب 2/333، المغني 1/72، اللسان (إلا)، وشرح شواهد المغني 1/218، الأشموني 2/156. الصارم: السيف القاطع. الذكر من السيوف: ما كان ذا ماء ورونق. والشاهد فيه وقوع (إلا) نعتا لـ (غيري) وهو غير جمع إلا أنه في قوة الجمع والتقدير: لو كان غيري الصارم الذكر لغيره وقع الحوادث.
[28040]:ومفهوم كلام سيبويه أنه لا يشترط كون الموصوف جمعا أو شبهه لتمثيله بـ "لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا". انظر الكتاب 2/331.
[28041]:وذلك لأن (غير) اسم متمكن تعمل فيه العوامل، فيجوز أن يقام مقام الموصوف، فإذا قلت: مررت بغيرك، فغيرك مجرور بحرف الجر، وكذلك إذا قلت: قام غيرك، فغيرك مرفوع بالفعل قبله، وكذلك إذا قلت: رأيت غيرك، فغيرك منصوب بوقوع الفعل عليه لا بحكم أنه صفة تابع. فـ (إلا) إنما وصف بها حملا على (غير)، وإذا كانت (غير) نفسها إذا حذف موصوفها لا تبقى نعتا، إذ النعت يقتضي منعوتا متقدما عليه، كان ما حمل عليه وهو حرف لا يعمل فيه عامل لا رافع ولا ناصب ولا خافض أشد امتناعا، فلم يجز لذلك حذف الموصوف وإقامته مقامه، فلا تقول: ما قام إلا زيد وأنت تريد الصفة، كما جاز ما قام غير زيد. انظر ابن يعيش 2/90.
[28042]:الكتاب 2/334.
[28043]:البيت من بحر الوافر قاله عمرو بن عمرو بن معديكرب أو حضرمي بن عامر. الفرقدان: نجمان قريبان من القطب لا يفترقان. والشاهد فيه وصف (كل) بقوله (إلا الفرقدان) أي غير الفرقدين. وقد احتج الكوفيون بهذا البيت على أن (إلا) بمنزلة (الواو)، ورد عليهم ابن الأنباري بأن (إلا) بمعنى (غير) ولذلك ارتفع ما بعدها وقد تقدم.
[28044]:في: سقط من ب.
[28045]:أي أن الأصل في (إلا) أن تكون للاستثناء، وفي (غير) أن تكون وصفا، ثم قد يحمل أحدهما على الأخر فيوصف بـ (إلا) ويستثنى بـ (غير) الهمع 1/229.
[28046]:في ب: لا. وهو بحريف.
[28047]:يعني أن كل واحد منهما يستعير من الآخر حكما هو أخض به. انظر الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب 1/369، شرح المفصل لابن يعيش 2/88.
[28048]:وذلك لأن (لو) شرط فيما مضى فهي بمنزلة (إن) في أنها شرط في المستقبل فلو قلت: إن أتاني إلا زيد لم يصح، لأن الشرط في حكم الموجب، فكما لا يصح أتاني إلا زيد فكذلك لا يصح إن أتاني إلا زيد، والمستثنى يجب نصبه إذا كان الكلام تاما موجبا. انظر شرح المفصل 2/89.
[28049]:أي أن الكلام إذا كان تاما منفيا، والاستثناء فالأرجح في المستثنى إبداله من المستثنى منه بدل بعض من كل عند البصريين، وعطف نسق عند الكوفيين لأن (إلا) عندهم من حروف العطف في باب الاستثناء خاصة نحو قوله تعالى: {ما فعلوه إلا قليل منهم} [النساء: 66] بالرفع في قراءة السبعة غير ابن عامر (السبعة 235) ويجوز فيه النصب على الاستثناء. أما إذا كان الاستثناء منقطعا فإن لم يمكن تسليط العامل على المستثنى وجب النصب نحو ما زاد هذا المال إلا ما نقص، وما نفع زيد إلا ماضي وإن أمكن تسليط العامل المستثنى نحو ما قام القوم إلا حمارا. فالحجازيون يوجبون النصب، وتميم ترجحه وتجيز الإتباع. انظر شرح التصريح 1/349-353. شرح الأشموني 2/144-148.
[28050]:[هود: 81]. وذلك على قراءة رفع "امرأتك" وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وباقي السبعة بالنصب (السبعة: 338).
[28051]:الكشاف 3/7.
[28052]:في ب: هذه.
[28053]:في ب: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
[28054]:في ب: زيدا.
[28055]:التبيان 2/914. لأن المبدل منه في حكم الطرح، وذلك من جهة المعنى، فلو طرح المبدل منه في الآية لفسد المعنى كما ذكر أبو البقاء. وانظر أيضا التبيان 2/159.
[28056]:التبيان 2/915، وانظر أيضا البيان 2/159.
[28057]:في ب: نصب.
[28058]:في ب: لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا.
[28059]:التبيان 2/915، وابن هشام ذكر في هذه الآية أنه لا يجوز في "إلا" هذه أن تكون للاستثناء من جهة المعنى، إذ التقدير حينئذ لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا، وذلك يقتضي بمفهومه أن لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا، وليس ذلك المراد. ولا من جهة اللفظ، لأن (آلهة) جمع منكر في الإثبات فلا عموم له فلا يصح الاستثناء منه، فلو قلت: قام رجال إلا زيدا لم يصح اتفاقا. انظر المغني 1/70-71.
[28060]:هذا القول المنسوب للمبرد ذكره أبو حيان في البحر المحيط 6/305.
[28061]:حيث قال: (ولا يجوز أن يكون بدلا، لأن المعنى يصير إلى قولك: لو كان فيهما الله لفسدتا). التبيان 2/914.
[28062]:هو علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي الإشبيلي أبو الحسن المعروف بابن الضائع، بلغ الغاية في علم النحو، ولازم الشلوبين، وفاق أصحابه بأسرهم، له شرح الجمل، وشرح كتاب سيبويه جمع فيه بين شرحي السيرافي وابن خروف باختصار حسن، وغير ذلك، مات سنة 680 هـ. بغية الوعاة 2/204.
[28063]:إلا: سقط من ب.
[28064]:انظر البحر المحيط 6/305.
[28065]:تقدم.
[28066]:انظر البحر المحيط 6/305.
[28067]:ذكر ابن هشام في المغني قول ابن الضائع والشلوبين مجملا ثم رد عليهما بقوله: (قلت: وليس كما قالا، بل الوصف في المثال وفي الآية مختلف فهو في المثال مخصص مثله في قولك: جاء رجل موصوف بأنه غير زيد، وفي الآية مؤكد مثله في قولك: متعدد موصوف بأنه غير الواحد، وهكذا الحكم أبدا؛ إن طابق ما بعد (إلا) موصوفها فالوصف مخصص له/ وإن خالفه بإفراد أو غيره فالوصف مؤكد، ولم أر من أفصح عن هذا) المغني 1/71.
[28068]:انظر الفخر الرازي 22/150.
[28069]:انظر البغوي 5/480.
[28070]:في ب: تسكين الجسم.
[28071]:في ب: لو أن. وهو تحريف.
[28072]:في ب: أو. وهو تحريف.
[28073]:انظر الفخر الرازي 22/150-153 بتصرف.
[28074]:انظر البغوي 5/480.
[28075]:انظر الفخر الرازي 22/154-155.