قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } وإلا هنا صفة للنكرة قبلها بمعنى «غير » ، والإعراب فيها متعذر فجعل على ما بعدها{[28036]} . وللوصف بها شروط منها : تنكير الموصوف ، أو قربه من النكرة بأن يكون معرفاً ب ( أل ) الجنسية{[28037]} .
ومنها أن يكون جمعاً صريحاً كالآية أو ما في قوة الجمع كقوله{[28038]} :
3707- لَوْ كَانَ غَيْرِي سُلَيْمَى الدَّهْر غَيَّرَهُ *** وَقْعُ الحَوَادِثِ إِلا الصَّارِمُ الذَّكَرُ{[28039]}
ف ( إلا الصارم ) صفة ل «غيري » ، لأنه في معنى الجمع{[28040]} . ومنها : أن لا يحذف موصوفها عكس ( غير ){[28041]} ، وأنشد سيبويه{[28042]} على ذلك قوله :
3708- وَكلُّ أَخٍ مَفارِقُهُ أَخُوهُ *** لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ{[28043]}
أي : وكل أخ لك غير الفرقدين مفارقه أخوه .
وقد وقع الوصف ب «إلا » كما وقع الاستثناء ب «غير » ، والأصل في{[28044]} «إلا » الاستثناء وفي «غير » الصفة{[28045]} . ومن مُلَح الكلام الزمخشري : واعلم أن ( إلا ){[28046]} و ( غير ) يتقارضان{[28047]} . ولا يجوز أن يرتفع الجلالة على البدل . قلت لأن «لو » بمنزلة «إن » في أن الكلام معها موجب{[28048]} ، والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب{[28049]} كقوله تعالى { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك }{[28050]} وذلك لأن أعم العام يصح نفيه ، ولا يصح إيجابه{[28051]} .
فجعل المانع صنا عياً مستنداً إلى ما ذكر من عدم صحّة إيجاب أعم العام . وأحسن من هذا{[28052]} ما ذكره أبو البقاء من جهة المعنى قال : ولا يجوز أن يكون بدلاً ، لأن المعنى يصير إلى قولك : لَوْ كَانَ فِيهِمَا الله لفسدتا{[28053]} ألا ترى أنك لو قلت : ما جاءني قومك إلا زيد{[28054]} على البدل لكان المعنى : جاءني زيد وحده{[28055]} .
ثم ذكر الوجه الذي رد به الزمخشري فقال : وقيل يمتنع البدل ، لأن قبلها إيجاباً{[28056]} . ومنع أبو البقاء النصب على الاستثناء لوجهين :
أحدهما : أنه فاسد في المعنى ، وذلك أنك إذا قلت : لو جاءني القوم إلا زيداً لقتلتهم ، كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم ، ولو نصبت{[28057]} في الآية لكان المعنى : أن فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة ، وفي ذلك إثبات إله مع الله . وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مذل ذلك ، لأن المعنى لو كان فيهما غير الله لفسدتا{[28058]} .
والوجه الثاني : أن «آلهة » هنا نكرة ، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين ، إذ لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء{[28059]} . وهذا الوجه الذي معناه ، أعني الزمخشري وأبا البقاء ، قد أجازه المبرد وغيره أما المبرد فإنه قال : جاز البدل ، لأن ما بعد «لو » غير موجب في المعنى والبدل في غير الموجب أحسن من الوصف{[28060]} .
وفي هذا نظر من جهة ما ذكره أبو البقاء من فساد المعنى{[28061]} .
وقال ابن الضائع{[28062]} تابعاً للمبرد : لا يصح المعنى عندي إلا أن تكون «إلا »{[28063]} في معنى ( غير ) التي يراد بها البدل ، أي : لو كان فيهما آلهة عوض واحد ، أي : بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا ، وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة{[28064]} . وقال الشلوبين{[28065]} في مسألة سيبويه : «لو كان معنا رَجُلٌ إلاَّ زَيْدٌ لَغُلِبْنَا » إن المعنى : لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مكان زيد لغلبنا ، ف ( إلا ) بمعنى ( غير ) التي بمعنى مكان{[28066]} . وهذا أيضاً جنوح من أبي علي إلى البدل . وما ذكره ابن الضائع من المعنى المتقدم مسوغ للبدل ، وهو جواب عنا أفسد به أبو البقاء وجه البدل إذ معناه واضح ، ولكنه قريب من تفسير المعنى لا من تفسير الإعراب{[28067]} .
المعنى لو كان يتولاهما ، ويدبر أمرهما شيء غير الواحد الذي فطرهما لفسدتا ولا يجوز أن تكون » إلا «بمعنى الاستثناء ، لأنها لو كانت استثناء لكان المعنى : لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا ، وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد ، وذلك باطل ، لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء كان الله معهم ، أو لم يكن الله معهم فالفساد لازم . ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت ما ذكرنا{[28068]} . وهو أن المعنى : لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله لفسدتا ، أي لخربتا ، وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة ، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام{[28069]} . ويدل العقل على ذلك من وجوه :
الأول : أنا لو قدرنا إلهين لكان أحدهما إذا انفرد صح منه تحريك الجسم وإذا انفرد الثاني صح منه تسكينه{[28070]} ، فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كان عليه حال الانفراد ، فعند الاجتماع يصح أن يحاول أحدهما التحريك والآخر التسكين فإما أن يحصل المرادان ، وهو محال ، وإما أن يمتنعا وهو أيضاً محال ، لأنه يكون كل واحد منهما عاجزاً ، وأيضاً المانع من تحصيل مراد كل واحد منهما مراد الآخر ، والمعلول لا يحصل إلا مع علته ، فلو امتنع المرادان لحصلا ، وذلك محال وإما أن يمتنع أحدهما دون الثاني ، وذلك أيضاً محال ، لأن الممنوع يكون عاجزاً ، والعاجز لا يكون إلهاً ، ولأنه لما كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد لم يكن عجز أحدهما أولى من عجز الآخر ، فثبت أن القول بوجود إلهين يوجب هذه الأقسام الفاسدة فكان القول به باطلاً .
الوجه الثاني : أن الإله يجب أن يكون قادراً على جميع الممكنات ، فلو فرضنا الإلهين لكان{[28071]} كل واحد منهما قادراً على جميع الممكنات ، فإذا أراد كل واحد منهما تحريك جسم فتلك الحركة إما أن تقع بهما معاً{[28072]} ولا تقع بواحد منهما أو تقع بواحد منهما أو تقع بأحدهما دون الثاني ، والأول محال ، لأن الأثر مع المؤثر المستقل واجب الحصول ، ووجوب حصوله به يمنع من استناده إلى الثاني ، فلو اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجاً إليهما ، وغنيَّا عنهما وهو محال ، وإما أن لا يقع بواحد منهما ألبتة ، فهذا يقتضي كونهما عاجزين ، وأيضاً فامتناع وقوه بهذا إنما يكون لأجل وقوعه بذاك وبالضد ، فلو امتنع وقوعه بهما معاً وهو محال ، وإما أن يقع بأحدهما دون الثاني فهو باطل ، لأن وقوعه بهذا يلزم فيه رجحان أحد الإلهين على الآخر من غير مرجح ، وهو محال .
الوجه الثالث : لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا ، فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال ، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما ، أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال ، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات{[28073]} .
وذكروا وجوهاً أخر عقلية وفي هذا كفاية .
ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال : { فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } أي : عما يصفه به المشركون من الشرك والولد{[28074]} .
فإن قيل : أي فائدة لقوله تعالى : { رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } .
فالجواب : أن هذه المناظرة وقعت مع عبدة الأصنام ، وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكاً في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين{[28075]} .