محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (22)

ثم بين تعالى بطلان تعدد الآلهة بإقامة البرهان على انتفائه ، بل على استحالته ، بقوله سبحانه :

{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } .

{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا } أي يتصرف في السماوات والأرض { آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ } أي غيره { لَفَسَدَتَا } أي لبطلتا بما فيهما جميعا ، واختل نظامهما المشاهد ، كما قال تعالى في سورة ( المؤمنون ) : { وما كان معه من إله ، إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } قال أبو السعود : وحيث انتفى التالي ، علم انتفاء المقدم قطعا . بيان الملازمة ؛ أن الإلهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييرا وتبديلا ، وإيجادا وإعداما وإحياء وإماتة . فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها ، وهو محال لاستحالة وقوع المعلول المعين بعلل متعددة . وإما بتأثير واحد منها ، فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعا . واعلم أن جعل التالي فسادهما بعد وجودهما ، لما أنه اعتبر في المقدم تعداد الآلهة فيهما . وإلا فالبرهان يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق . فإنه لو تعدد الإله ، فإن توافق الكل في المراد ، تطاردت عليه القدر ، وإن تخالفت تعاوقت . فلا يوجد أصلا . وحيث انتفى التالي تعين انتفاء المقدم . انتهى .

وتفصيله كما في ( المقاصد ) أنه لو وجد إلهان بصفات الألوهية ، فإذا أراد أحدهما أمرا كحركة جسم مثلا ، فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أو لا . وكلاهما محال . أما الأول فلأنه لو فرض تعلق إرادته بذلك الضد ، فإما أن يقع مرادهما وهو محال ، لاستلزامه اجتماع الضدين . أو لا يقع مراد واحد منهما ، وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض ، ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروضين امتناع خلو المحل عنهما ، كحركة جسم وسكونه في زمان معين . أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال . لاستلزامه الترجيح بلا مرجح ، وعجز من فرض قادرا حيث لم يقع مراده . وهذا البرهان يسمى برهان التمانع . وإليه الإشارة بقوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فإن أريد بالفساد عدم التكون ، فتقريره أنه لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض . لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما آو بأحدهما . والكل باطل . أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة . وأما الآخران فلما مر . وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام ، فتقريره أنه لو تعدد الإله لكان بينهما التنازع والتغالب . وتميز صنع كل عن صنع الآخر ، بحكم اللزوم العادي . فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام ، الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد . ويختل الانتظام الذي به بقاء الأنواع . وترتب الآثار . انتهى .

هذا وقد قيل : إن المطلب هنا برهاني ، والمشار إليه في الآية إقناعي . ولا يفيد العلم اليقيني فلا يصح الاستدلال بها على هذا المطلب ، وممن فصل ذلك التفتازاني في ( شرح العقائد النسفية ) قادحا لما أشار إليه نفسه في ( شرح المقاصد ) من كون الآية برهانا ، كما ذكرناه عنه . وملخص كلامه أن مجرد التعدد لا يستلزم الفساد بالفعل ، لجواز الاتفاق على هذا النظام ، أي بالاشتراك أو بتفويض أحدهما إلى الآخر فلا يستلزم التعدد التمانع بالفعل بل بالإمكان . والإمكان لا يستلزم الوقوع ، فيجوز أن لا يقع بينهما ذلك التمانع بل يتفقان على إيجادهما . ورد عليه بأن إمكان التمانع يستلزم التمانع بالفعل في كل مصنوع بطريق إرادة الإيجاد بالاستقلال . وكلما لزم التمانع لم يوجد مصنوع أصلا . فإنه لو وجد على تقدير التمانع المذكور اللازم للتعدد فإما بمجموع القدرتين ، فيلزم عجزهما . أو بكل منهما فيلزم التوارد . أو بأحدهما فيلزم الرجحان من غير مرجح ، لاستواء نسبة كل ممكن إلى قدرة كل من الإلهين والكل محال ضرورة ، وحاصل الاستدلال أنه لو تعدد الآلهة لم يتكون مصنوع . لأن التعدد مستلزم لإمكان التخالف المستلزم للتوارد أو العجز . فظهر أن الآية حجة قطعية لكون الملازمة فيها قطعية . وحقق بعضهم قطعية الملازمة بالعادة القاضية التي لم يوجد أخرمها قط في ملكين مقتدرين في مدينة واحدة ، أن يطلب كل الانفراد بالملك والعلو على الآخر وقهره ، فكيف بالإلهين والإله يوصف بأقصى غايات التكبر . فكيف لا يطلب كل الانفراد بالملك كما أخبر سبحانه بقوله : { ولعلا بعضهم على بعض } ؟ وهذا إذا تؤمل لا تكاد النفس تخطر نقيضه بالبال ، فضلا عن إخطار فرضه ، مع الجزم بأن الواقع هو الآخر . فعلى هذا التقدير ، فالملازمة علم قطعي . هذا ملخص ما جاء في رد مقالة السعد في ( الحواشي ) . وقد شنع عليه في مقالته غير واحد . وبالغ معاصره عبد اللطيف الكرماني في الانتقاد .

قال العلامة المرجاني : وقد سبقه في هذا أبو المعين النسفي في كتابه ( التبصرة ) وتابعه صاحب ( الكشف ) حيث شنع على أبي هاشم الجبائي تشنيعا بليغا . حتى نسبه إلى الكفر بقدحه في دلالة الآية قطعا على هذا المدعي . ولا يخفى أن الأفهام لا تقف عند حد . ولا تزال تتباين وتتخالف ما اختلفت الصور والألوان ، ولا تكفير ولا تضليل ، ما دام المرء على سواء السبيل .

وقد أوضح بيان هذه الملازمة العلامة مفتي مصر في رسالة ( التوحيد ) إيضاحا ما عليه من مزيد ، وعبارته : ومما يجب له تعالى صفة الوحدة ذاتا ووصفا ووجودا وفعلا . أما الوحدة الذاتية فقد أثبتناها فيما تقدم بنفي التركيب في ذاته خارجا وعقلا . وأما الوحدة في الصفة ، أي أنه لا يساويه في صفاته الثابتة له موجود ، فلما بينا من أن الصفة تابعة لمرتبة الوجود ، وليس في الموجودات ما يساوي واجب الوجود في مرتبة الوجود . فلا يساويه فيما يتبع الوجود من الصفات . وأما الوحدة في الوجود وفي الفعل ، ونعني بها التفرد بوجوب الوجود وما يتبعه من إيجاد الممكنات ، فهي ثابتة . لأنه لو تعدد واجب الوجود لكان لكل من الواجبين تعين يخالف تعين الآخر بالضرورة . وإلا لم يتحصل معنى التعدد . وكلما اختلفت التعينات اختلفت الصفات الثابتة للذوات المتعينة ، لأن الصفة إنما تتعين وتنال تحققها الخاص بها ، بتعين ما يثبت له بالبداهة . فيختلف العلم والإرادة باختلاف الذوات الواجبة . إذ يكون لكل واحدة منها علم وإرادة يباينان علم الأخرى وإرادتها ويكون لكل واحدة علم وإرادة يلائمان ذاتها وتعينها الخاص بها . هذا التخالف ذاتي ، لأن علم الواجب وإرادته لازمان لذاته من ذاته لا لأمر خارج . فلا سبيل إلى التغير والتبدل فيهما كما سبق . وقد قدمنا أن فعل الواجب إنما يصدر عنه على حسب علمه وحكم إرادته ، فيكون فعل كل صادر على حكم يخالف الآخر مخالفة ذاتية . فلو تعدد الواجبون لتخالفت أفعالهم بتخالف علومهم وإراداتهم . وهو خلاف يستحيل معه الوفاق . وكل واحد بمقتضى وجوب وجوده وما يتبعه من الصفات ، له السلطة على الإيجاد في عامة الممكنات . فكل له التصرف في كل منها على حسب علمه وإرادته . ولا مرجح لنفاذ إحدى القدرتين دون الأخرى . فتتضارب أفعالهم حسب التضارب في علومهم وإراداتهم ، فيفسد نظام الكون ، بل يستحيل أن يكون له نظام ، بل يستحيل وجود ممكن من الممكنات . لأن كل ممكن لا بد أن يتعلق به الإيجاد على حسب العلوم والإرادات المختلفة . فيلزم أن يكون للشيء الواحد وجودات متعددة وهو محال ف { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } لكن الفساد ممتنع بالبداهة . فهو جل شأنه واحد في ذاته وصفاته ولا شريك له في وجوده ولا في أفعاله . انتهى .

وأشار حجة الإسلام الغزالي في كتاب ( الاقتصاد في الاعتقاد ) في بحث الوحدة ، إلى أن هذه الآية لا أبين منها في برهان التوحيد ، وأنه لا مزيد على بيان القرآن . قال الكلنبوي : الفساد المذكور في هذه الآية إما بمعنى خروج السماء والأرض عن هذا النظام المشاهد من بقاء وترتيب الآثار كما هو الظاهر . وإما بمعنى عدم تكونهما في الأصل كما قالوا . ثم إن كل من يخاطب بها يعرف أن منشأ الفساد هو تعدد الإله . فهي بعبارتها تنفي آلهة متعددة غير الواجب تعالى ، وبدلالتها تنفي تعدد الآلهة . انتهى .

وقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي من وجود شرك له فيهما . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالدليل المتقدم . أي فسبحوه سبحانه اللائق به ، ونزهوه عما يفترون . وفيه تعجب ممن يشرك مع المعبود الأعظم البارئ لأعظم المكونات وهو العرش ، غيره ممن لا يقدر على شي البتة .