{ 75 - 77 } { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }
هذا بيان لشدة تمردهم وعنادهم ، وأنهم إذا أصابهم الضر ، دعوا الله أن يكشف عنهم ليؤمنوا ، أو ابتلاهم بذلك ليرجعوا إليه . إن الله إذا كشف الضر عنهم لجوا ، أي : استمروا في طغيانهم يعمهون ، أي : يجولون في كفرهم ، حائرين مترددين .
كما ذكر الله حالهم عند ركوب الفلك ، وأنهم يدعون مخلصين له الدين ، وينسون ما يشركون به ، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بالشرك وغيره .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ، أن هؤلاء المشركين ، قد قست قلوبهم ، وفسدت نفوسهم ، وماتت ضمائرهم ، وصاروا لا يؤثر فيهم الابتلاء بالخير أو الشر ، فقال - تعالى - : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا . . . } .
أى : ولو رحمنا هؤلاء المشركين الذين تنكبوا الصراط المستقيم وكشفنا ما بهم من ضر .
أى : من سوء حال بسبب ما نزل بهم من قحط وجدب وفقر .
{ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أى : لتمادوا فى طغيانهم ، وتجاوزوا الحدود فى كفرهم وضلالهم ، وفى تحيرهم وترددهم بدون تمييز بين الحق والباطل .
والتعبير بقوله - تعالى - { لَّلَجُّواْ } يشعر بأنهم لقسوة قلوبهم ، صاروا لا تؤثر فيهم المصائب بل يزدادون بسببها طغياناً وكفراً ، إذ الفعل " لجوا " مأخوذ من اللجاج . هو التمادى والعناد فى ارتكاب المنهى عن ارتكابه .
يقال : لج فلان فى الأمر يلج لججا ولجاجة . إذا لازمه وواطب عليه . ومنه " اللَّجة " - بفتح اللام - لكثرة الأصوات . ولُجة البحر - بضم اللام - لتردد أمواجه . . .
وقوله : { يَعْمَهُونَ } من العمه ، بمعنى التردد والتحير ، وهو للقلوب بمنزلة العمى للعيون .
وهو مأخوذ من قولهم : أرض عمهاء ، إذا لم يكن فيها علامات ترشد إلى الخروج منها .
هؤلاء الذين لايؤمنون بالآخرة ، والذين تنكبوا الطريق ، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ، ولا الابتلاء بالنقمة . فإن أصابتهم النعمة حسبوا : ( أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات )وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم ، ولم تستيقظ ضمائرهم ، ولم يرجعوا إلى الله يتضرعون له ليكشف عنهم الضر ، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون .
( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون . ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون . حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ) . .
وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس ، القاسية قلوبهم ، الغافلين عن الله ، المكذبين بالآخرة ، ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
والاستكانة والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله ، والشعور بأنه الملجأ والملاذ . والقلب متى اتصل بالله على هذا النحو رق ولان ، واستيقظ وتذكر ، وكانت هذه الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة والزلل ، وأفاد من المحنة و انتفع بالبلاء . فأما حين يسدر في غيه ، ويعمه في ضلاله ، فهو ميؤوس منه لا يرجى له صلاح ، وهو متروك لعذاب الآخرة ، الذي يفاجئه ، فيسقط في يده ، ويبلس ويحتار ، وييأس من الخلاص .
وقوله : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } : يخبر تعالى عن غلظهم{[20619]} في كفرهم بأنه لو أراح عللهم وأفهمهم القرآن ، لما انقادوا له ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، وقال : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [ الأنعام : 27 - 29 ] ، فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ، لو كان كيف يكون{[20620]} .
[ و ]{[20621]} قال الضحاك ، عن ابن عباس : كل ما فيه " لو " ، فهو مما لا يكون أبدا .
و { لجوا في طغيانهم } ، وهذه الآية نزلت في المرة التي أصابت قريشاً فيها السنون المجدية والجوع الذي دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «اللهم سبعاً كسني يوسف » الحديث{[8529]} .
عطف على جملة { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون } [ المؤمنون : 64 ] وما بينهما اعتراضات باستدلال عليهم وتنديم وقطع لمعاذيرهم ، أي ليسوا بحيث لو استجاب الله جؤارهم عند نزول العذاب بهم وكشف عنهم العذاب لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والأعمال السيئة لأنها صارت سجية لهم لا تتخلف عنهم . وهذا في معنى قوله تعالى : { إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون } [ الدخان : 15 ] .
و { لو } هنا داخلة على الفعل الماضي المراد منه الاستقبال بقرينة المقام إذ المقام للإنذار والتأييس من الإغاثة عند نزول العذاب الموعود به ، وليس مقام اعتذار من الله عن عدم استجابته لهم أو عن إمساك رحمته عنهم لظهور أن ذلك لا يناسب مقام الوعيد والتهديد . وأما مجيء هذا الفعل بصيغة المضي فذلك مراعاة لما شاع في الكلام من مقارنة ( لو ) لصيغة الحاضر لأن أصلها أن تدل على الامتناع في الماضي ولذلك كان الأصل عدم جزم الفعل بعدها .
واللجاج بفتح اللام : الاستمرار على الخصام وعدم الإقلاع عن ذلك . يقال : لجّ يلِجّ ويلَجّ بكسر اللام وفتحها في المضارع على اختلاف حركة العين في الماضي .
والطغيان : أشد الكبر . والعمه : التردد في الضلالة . و { في طغيانهم } متعلق ب { يعمهون } قدم عليه للاهتمام بذكره ، وللرعي على الفاصلة . و ( في ) للظرفية المجازية المراد منها معنى السببية وتقدم قوله تعالى : { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } في سورة البقرة ( 15 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر} يعني: الجوع الذي أصابهم بمكة سبع سنين، لقولهم في حم الدخان: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} [الدخان:12] فليس قولهم باستكانة ولا توبة، ولكنه كذب منهم، كما كذب فرعون وقومه حين قالوا لموسى: {لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك} [الأعراف:134] فأخبر الله، عز وجل، عن كفار مكة، فقال سبحانه: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر} {للجوا في طغيانهم يعمهون}، يقول: لتمادوا في ضلالتهم يترددون فيها وما آمنوا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرَ" يقول تعالى: ولو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب وضرّ الجوع والهزال "لَلَجّوا فِي طُغْيانهِمْ "يعني في عتوّهم وجرأتهم على ربهم. "يَعْمَهُونَ" يعني: يتردّدون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر الضر، ولم يذكر أي شيء كان. وليس لنا أن نقول كان الجوع، أو كذا إلا بثبت. وفيه وجهان من المعتبر: أحدهما: أن دفع المحن من البلايا والشدائد إنما يكون برحمة منه وفضل لا على ما قاله بعض الناس بالاستحقاق حين ذكر أن رحمته تكشف ذلك عنهم. والثاني: فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر أنه، وإن كشف ذلك الضر عنهم لجوا في طغيانهم، فكشف عنهم ذلك، فلجوا في طغيانهم على ما أخبر. فدل أنه بالله عرف ذلك، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أخبر عن صادق علمه بهم، وذلك صادر عن سابق حُكْمِه فيهم، فقال: لو كشفنا عنهم في الحال لم يفوا بما يعدون من أنفسهم من الإيمان في المآل، ولقد عَلِمَ أنهم سيكفرون، وحَكَمَ عليهم بأنهم يكفرون؛ إذ لا يجوز أن يكون حُكْمُه فيهم بخلافِ عِلْمه بهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: لو كشف الله عنهم هذا الضرّ وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب؛ لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإفراطهم فيها، ولذهب عنهم هذا الإبلاس وهذا التملق بين يديه ويسترحمونه...
أما قوله تعالى: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر} ففيه وجوه؛
أحدها: المراد ضرر الجوع وسائر مضار الدنيا.
وثانيها: المراد ضرر القتل والسبي.
وثالثها: أنه ضرر الآخرة وعذابها فبين أنهم قد بلغوا في التمرد والعناد المبلغ الذي لا مرجع فيه إلى دار الدنيا، وأنهم {لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} لشدة لجاجهم فيما هم عليه من الكفر.
أما قوله تعالى: {للجوا في طغيانهم يعمهون} فالمعنى لتمادوا في ضلالهم وهم متحيرون.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أراح عللهم وأفهمهم القرآن، لما انقادوا له ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 27 -29]، فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون، لو كان كيف يكون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولو رحمناهم} أي عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى {وكشفنا} أي بما لنا من العظمة {ما بهم من ضر} وهو الذي عرض جؤارهم بسببه {لَلَجّوا} أي تمادوا تمادياً عظيماً {في طغيانهم} الذي كانوا عليه قبل الجؤار وهو إفراطهم في منابذة الحق والاستقامة {يعمهون} أي يفعلون من التحير والتردد فعل من لا بصيرة له في السير المنحرف عن القصد، والجائر عن الاستقامة، قال ابن كثير: فهذا من باب علمه بما لا يكون لو كان كيف كان يكون، قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما فيه "لو "فهو مما لا يكون أبداً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس، القاسية قلوبهم، الغافلين عن الله، المكذبين بالآخرة، ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله [صلى الله عليه وسلم].
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي ليسوا بحيث لو استجاب الله جؤارهم عند نزول العذاب بهم وكشف عنهم العذاب لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والأعمال السيئة لأنها صارت سجية لهم لا تتخلف عنهم. وهذا في معنى قوله تعالى: {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون} [الدخان: 15].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن من شأن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يكون إحساسه خاضعا للساعة التي يكون فيها لا ينفذ ببصيرته إلى ما وراءها فيقول في كل شيء: ما هي إلا حياتنا الدنيا، ولا يفكر إلا في الحالة التي تظله. ومن شأنه أنه إذا نالته شدة أحس بسلطان الله تعالى، وأنه كاشف الضر، فإذا زال عنه الضر عاد إلى كفره... ومعنى الآية: لو غمرناهم برحمتنا في وقت شدتهم، فأزلنا عنهم الغم، وكشفنا الضر من مرض أو بلاء لاستمروا لاجين في ظلمهم الطاغي يعمهون.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وهذه الآيات استمرار للحملة الإنذارية والتنديدية السابقة على الكفار: فهم مصرون على عنادهم وجحودهم في حالتي سرائهم وضرائهم. فإذا كانوا في حالة اليسر والرغد حسبوا ذلك اختصاصا وتكريما من الله، ودليلا على أنهم على حق في تقليدهم فظلوا معرضين عن الاستجابة إلى دعوة الله ورسالة رسوله. وهذا ما أشارت إليه الآيات [55-56] وإذا أصيبوا ببلاء ثم كشفه الله عنهم رحمة بهم تمادوا في طغيانهم وإعراضهم... وسيظلون على موقفهم إلى أن يفتح الله عليهم بابا ذا عذاب شديد. غير أن هذا الباب حينما يفتح عليهم يكون وقت الندم والتوبة قد فات، وأصبحوا في موقف اليائس من رحمة الله.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
إشارة على أن الشأن في المكذبين الضالين، الفارغة قلوبهم من الإيمان واليقين، ان يكونوا مصرين على الطغيان والضلال، غارقين في أوحال أودية العناد والخبال، فلا نعمة الله عليهم ورحمته بهم، إن كشف عنهم الضر، تردهم إلى الصواب، ولا مقدمات المحن والبلايا إن ابتلاهم بها تسوقهم على خشيته والضراعة إليه، لينقذهم من العذاب.