قوله تعالى : { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } ، قيل : هذا عند السد ، يقول : تركنا يأجوج ومأجوج ، أي : يدخل ، بعضهم في بعض ، كموج الماء ، ويختلط بعضهم ببعض لكثرتهم . وقيل : هذا عند قيام الساعة ، يدخل الخلق بعضهم في بعض ، ويختلط إنسيهم بجنيهم حيارى . { ونفخ في الصور } ، لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة ، { فجمعناهم جمعاً } ، في صعيد واحد .
{ 99 ْ } { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ْ }
يحتمل أن الضمير ، يعود إلى يأجوج ومأجوج ، وأنهم إذا خرجوا على الناس -من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها- يموج بعضهم ببعض ، كما قال تعالى { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ْ } ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة ، وأنهم يجتمعون فيه فيكثرون ويموج بعضهم ببعض ، من الأهوال والزلازل العظام ، بدليل قوله : { ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا ْ } أي : إذا نفخ إسرافيل في الصور ، أعاد الله الأرواح إلى الأجساد ، ثم حشرهم وجمعهم لموقف القيامة ، الأولين منهم والأخرين ، والكافرين والمؤمنين ، ليسألوا ويحاسبوا ويجزون بأعمالهم ، فأما الكافرون -على اختلافهم- فإن جهنم جزاؤهم ، خالدين فيها أبدا .
وقوله : { وتركنا } بمعنى جعلنا وصيرنا ، والضمير المضاف فى قوله { بعضهم } يعود إلى يأجوج ومأجوج ، والمراد { بيومئذ } : يوم تمام بناء السد الذى بناه ذو القرنين .
وقوله - سبحانه - { يموج } من الموج بمعنى الاضطراب والاختلاط يقال : ماج البحر إذا اضطرب موجه وهاج واختلط . ويقال : ماج القوم إذا اختلط بعضهم ببعض وتزاحموا حائرين فزعين .
والمعنى وجعلنا وصيرنا بمقتضى حكمتنا وإرادتنا وقدرتنا ، قبائل يأجوج ومأجوج يموج بعضهم فى بعض . أى : يتزاحمون ويضطربون من شدة الحيرة لأنهم بعد بناء السد ، صاروا لا يجدون مكانا ينفذون منه إلى ما يريدون النفاذ إليه ، فهم خلفه فى اضطراب وهرج .
ويجوز أن يكون المراد بيومئذ : يوم مجئ الوعد بخروجهم وانتشارهم فى الأرض ، وهذا الوعد قد صرحت به الآية السابقة فى قوله - تعالى - { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } فيكون المعنى : وتركنا قبائل يأجوج ومأجوج ، يوم جاء وعد الله بجعل السد مدكوكا ومتساويا مع الأرض ، يموج بعضهم فى بعض ، بعد أن خرجوا منتشرين فى الأرض ، وقد تزاحموا وتكاثروا واختلط بعضهم ببعض .
قال الفخر الرازى : " اعلم أن الضمير فى قوله { بعضهم } يعود إلى يأجوج ومأجوج . وقوله : { يومئذ } فيه وجوه :
الأول : أن يوم السد ماج بعضهم فى بعض خلفه لما منعوا من الخروج .
الثانى : أنه عند الخروج يموج بعضهم فى بعض . قيل : إنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين فى البلاد .
الثالث : أن المراد من قوله { يومئذ } يوم القيامة .
وكل ذلك محتمل ، إلا أن الأقرب أن المراد به : الوقت الذى جعل الله فيه السد دكا فعنده ماج بعضهم ونفخ فى الصور ، وصار ذلك من آيات القيامة " .
وقال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } الضمير فى { تركنا } لله - تعالى - أى : تركنا الجن والإِنس يوم القيامة يموج بعضهم فى بعض .
وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج { يومئذ } أى : يوم كمال السد يموج بعضهم فى بعض ، واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم فى بعض .
وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السدِّ يموجون فى الدنيا مختلطين لكثرتهم . فهذه أقوال ثلاثة : أظهرها أوسطها وأبعدها آخرها . وحسن الأول ، لأنه تقدم ذكر القيامة فى تأويل قوله - تعالى - { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } .
وقوله - سبحانه - { وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } بيان لعلامة من علامات قيام الساعة .
والنفخ لغة : إخراج النفس من الفم لإِحداث صوت معين . والصور : القرن الذى ينفخ فيه إسرافيل - عليه السلام - نفخة الصعق والموت ، ونفخة البعث والنشور ، كما قال - تعالى - : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }
والمعنى : وتركنا يأجوج ومأجوج يموج بعضهم فى بعض . وأمرنا إسرافيل بالنفخ فى الصور ، فجمعناهم وجميع الخلائق جمعا تاما ، دون أن نترك أحدا من الخلائق بدون إعادة إلى الحياة ، بل الكل مجموعون ليوم عظيم هو يوم البعث والحساب .
والمراد بالنفخ هنا : النفخة الثانية التى يقوم الناس بعدها من قبورهم للحساب ، كما أشارت إلى ذلك آية سورة الزمر السابقة .
وفى التعبير بقوله : { فجمعناهم جمعا } . أى : جمعناهم جمعا تاما كاملا لا يشذ عنه أحد ، ولا يفلت منه مخلوق ، كما قال - سبحانه - : { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } هذا ، وهنا مسألة تكلم عنها العلماء ، وهى وقت خروج يأجوج ومأجوج .
فمنهم من يرى أنه لا مانع من أن يكونوا قد خرجوا ، بدليل ما جاء فى الحديث الصحيح من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ويل للعرب من شر قد اقترب . فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج مثل هذا ، وحلق أى بين أصابعه " .
ولأن الآيات الكريمة تقول : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ . . } ووعد الله لا مانع من أن يكون قد أتى .
قال الشيخ القاسمى : " والغالب أن المراد بخروجهم هذا خروج المغول التتار . وهم من نسل يأجوج ومأجوج - وهو الغزو الذى حصل منهم للأمم فى القرن السابع الهجرى . وناهيك بما فعلوه إذ ذاك فى الأرض من فساد . . " .
وقال الشيخ المراغى عند تفسير قوله - تعالى - : { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } وقد جاء وعده - تعالى - بخروج جنكيز خان وسلائله فعاثوا فى الأرض فساداً . . وأزالوا معالم الخلافة من بغداد . . .
وقال صاحب الظلال : وبعد ، فمن يأجوج ومأجوج ؟ وأين هم الآن ؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون ؟
كل هذه أسئلة تصعب الإِجابة عليها على وجه التحقيق ، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد فى القرآن ، وفى بعض الأثر الصحيح .
والقرآن يذكر فى هذا الموضع ما حكاه من قول ذى القرنين : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } وهذا النص لا يحدد زمانا ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ، ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار وانساحوا فى الأرض . ودمروا الممالك تدميرا .
وفى موضع آخر من سورة الأنبياء : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ واقترب الوعد الحق } وهذا النص - أيضاً - لا يحدد زمانا معينا لخروجهم ، فاقتراب الوعد الحق ، بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء فى القرآن : { اقتربت الساعة وانشق القمر } والزمان فى الحساب الإِلهى غيره فى حساب البشر ، فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون .
وإذا فمن الجائز أن يكون السد قد فتح ما بين : { اقتربت الساعة } ، ويومنا هذا .
وتكون غارات المغول والتتار التى اجتاحت الشرق ، هى انسياح يأجوج ومأجوج . . وكل ما نقوله ترجيح لا يقين .
هذه بعض حجج القائلين بأنه لا مانع من أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا .
وهناك فريق آخر من العلماء ، يرون أن يأجوج ومأجوج لم يخرجوا بعد ، وأن خروجهم إنما يكون قرب قيام الساعة .
ومن العلماء الذين أيدوا ذلك صاحب أضواء البيان ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه :
اعلم أن هذه الآية : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ } وآية الأنبياء : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } قد دلتا فى الجملة على أن السد الذى بناه ذو القرنين ، دون يأجوج ومأجوج ، إنما يجعله الله دكا عند مجئ الوقت الموعود بذلك فيه . وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة . . لأن المراد بيومئذ فى قوله { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } أنه يوم مجئ وعد ربى بخروجهم وانتشارهم فى الأرض .
وآية الأنبياء تدل فى الجملة على ما ذكرنا هنا . وذلك يدل على بطلان قول من قال : إنهم " روسيا " وأن السد فتح منذ زمن طويل .
والاقتراب الذى جاء فى قوله - تعالى - { اقتربت الساعة } وفى الحديث : " ويل للعرب من شر قد اقترب " لا يستلزم اقترانه من دك السد ، بل يصح اقترابه مع مهلة .
وهذه الآيات لا يتم الاستدلال بها على أن يأجوج ومأجوج لم يخرجوا بعد - إلا بضميمة الأحاديث النبوية لها .
ومن ذلك ما رواه الإِمام مسلم فى صحيحه فى ذلك ، وفيه : خروج الدجال وبعث عيسى ، وقتله للدجال . . ثم يبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون .
فينحاز عيسى ومن معه من المؤمنين إلى الطور . . ثم يرسل الله على يأجوج ومأجوج النغف فى رقابهم فيموتون .
وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبى صلى الله عليه وسلم بأن الله يوحى إلى عيسى ابن مريم بخروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال فمن يدعى أنهم " روسيا " وأن السد قد اندك منذ زمان ، فهو مخالف لما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها ، ولا شك أن كل خبر يخالف الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو باطل ، لأن نقيض الخبر الصادق . كاذب ضرورة كما هو معلوم .
ولم يثبت فى كتاب الله ولا فى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شئ يعارض هذا الحديث الذى رأيت صحة سنده ، ووضوح دلالته على المقصود . . .
والذى يبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب أضواء البيان ، أقرب إلى الحق والصواب للأسباب التى ذكرها ، ولقرينة تذييل الآيات التى تحدثت عن يأجوج ومأجوج عن أهوال يوم القيامة .
ففى سورة الكهف يقول الله - تعالى - فى أعقاب الحديث عنهم { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } .
وفى سورة الأنبياء يقول الله - تعالى - : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ واقترب الوعد الحق . . } وفضلا عن كل ذلك فإن الحديث الذى رواه الإِمام مسلم عنهم ، صريح فى أن خروجهم سيكون من علامات الساعة ، والله - تعالى - أعلم .
ثم نعود إلى سياق السورة . فنجده يعقب على ذكر ذي القرنين للوعد الحق بمشهد من مشاهد القيامة .
( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ، ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ؛ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ، الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ، وكان لا يستطيعون سمعا ) .
وهو مشهد يرسم حركة الجموع البشرية من كل لون وجنس وأرض . ومن كل جيل وزمان وعصر ، مبعوثين منشرين . يختلطون ويضطربون في غير نظام وفي غير انتباه ، تتدافع جموعهم تدافع الموج وتختلط اختلاط الموج . . ثم إذا نفخة التجمع والنظام : ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا فإذا هم في الصف في نظام !
وقوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ] }{[18534]} أي : الناس يومئذ أي : يوم يدك{[18535]} هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم ، وهكذا قال السدي في قوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال : ذاك حين يخرجون على الناس . وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال ، كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ]{[18536]} عند قوله : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } [ الأنبياء : 96 ، 97 ] وهكذا قال هاهنا : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } قال ابن زيد في قوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال : هذا أول يوم القيامة ، { وَنُفِخَ{[18537]} فِي الصُّورِ } على أثر ذلك { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } .
وقال آخرون : بل المراد بقوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } أي : يوم القيامة يختلط الإنس والجن .
وروى ابن جرير ، عن محمد بن حميد ، عن يعقوب القمي{[18538]} عن هارون بن عنترة ، عن شيخ من بني فزارة{[18539]} في قوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال : إذا ماج الإنس والجن قال إبليس : أنا أعلم لكم علم هذا الأمر . فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا{[18540]} الأرض ، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة بطنوا{[18541]} الأرض فيقول : " ما من محيص " . ثم يظعن يمينًا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة بطنوا{[18542]} الأرض فيقول : " ما من محيص " فبينما هو كذلك ، إذ عرض له طريق كالشراك ، فأخذ عليه هو وذريته ، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار ، فأخرج الله خازنًا من خزان النار ، فقال : يا إبليس ، ألم تكن لك المنزلة عند ربك ؟ ! ألم تكن في الجنان ؟ ! فيقول : ليس هذا يوم عتاب ، لو أن الله فرض عليّ فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه . فيقول : فإن الله قد فرض عليك فريضة . فيقول : ما هي ؟ فيقول : يأمرك أن تدخل النار . فيتلكأ عليه ، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار . فتزفر النار{[18543]} زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مُرسل إلا جثا لركبتيه{[18544]}
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به . رواه من وجه آخر عن يعقوب ، عن هارون عن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال : الجن الإنس ، يموج بعضهم في بعض .
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني{[18545]} ، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا المغيرة بن مسلم ، عن أبي إسحاق ، عن وهب بن جابر ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا ، وإن من ورائهم ثلاث أمم : تاويل ، وتايس{[18546]} ومنسك " . {[18547]} هذا حديث غريب بل منكر ضعيف .
وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبيه ، عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعًا : " إن يأجوج ومأجوج لهم نساء ، يجامعون ما شاؤوا ، وشجر يلقحون ما شاؤوا ، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا " {[18548]}
وقوله : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } : والصور كما جاء في الحديث : " قرن ينفخ " فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل ، عليه السلام ، كما قد تقدم في الحديث بطوله ، والأحاديث فيه كثيرة .
وفي الحديث عن عطية ، عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعًا : " كيف أنعم ، وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن ، وحنى جبهته واستمع متى يؤمر " . قالوا : كيف نقول ؟ قال : " قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا " {[18549]}
وقوله { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } أي : أحضرنا الجميع للحساب { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [ الواقعة : 49 ، 50 ] ، { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [ الكهف : 47 ]
والضمير في { تركنا } لله عز وجل ، وقوله { يومئذ } يحتمل أن يريد به يوم القيامة لأنه قد تقدم ذكره ، فالضمير في قوله { بعضهم } على ذلك لجميع الناس ، ويحتمل أن يريد بقوله { يومئذ } يوم كمال السد ، فالضمير في قوله { بعضهم } على ذلك
{ يأجوج ومأجوج } [ الكهف : 94 ] ، واستعارة «الموج » لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض كالمولهين من هم وخوف ونحوه ، فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض ، وقوله { ونفخ في الصور } إلى آخر الآية معني به يوم القيامة بلا احتمال لغيره ، فمن تأول الآية كلها في يوم القيامة ، اتسق تأويله ، ومن تأول الآية إلى قوله { يموج في بعض } في أمر يأجوج ومأجوج ، تأول القول وتركناهم يموجون دأباً على مر الدهر وتناسل القرون منهم فنائهم ، ثم { نفخ في الصور } فيجتمعون ، و { الصور } : في قول الجمهور وظاهر الأحاديث الصحاح ، هو القرن الذي ينفخ فيه للقيامة ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنا الجبهة وأصغى بالأذن متى يؤمر » ، فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «قولوا حسبنا الله وعلى الله توكلنا ، ولو اجتمع أهل منى ما أقلوا ذلك القرن »{[7903]} ، وأما «النفخات » ، فأسند الطبري إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « » الصور «قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام{[7904]} لرب العالمين » ، وقال بعض الناس «النفخات » اثنتان : نفخة الفزع ، وهي نفخة الصعق ، ثم الأخرى التي هي للقيام ، وملك الصور هو إسرافيل ، وقالت فرقة { الصور } جمع صورة ، فكأنه أراد صور البشر والحيوان نفخ فيها الروح ، والأول أبين وأكثر في الشريعة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وتركنا عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الذي وعدناهم، بأنا ندكّ الجبال ونَنْسِفها عن الأرض نسفا، فنذرها قاعا صفصفا، بعضهم يموج في بعض، يقول: يختلط جنهم بإنسهم...
"وَنُفِخَ فِي الصّورِ"... عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أعرابيا سأله عن الصّور، قال: «قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ»...
حدثنا محمد بن الحارث القنطري، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: كنت في جنازة عمر بن ذرّ فلقيت مالك بن مغول، فحدثنا عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ وَحَنى الجَبْهَةَ، وأصْغَى بالأذُنُ مَتى يُوءْمَرُ» فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «قُولُوا حَسْبُنا اللّهُ وَعَلى اللّهِ تَوَكّلْنا، ولوِ اجْتَمَعَ أهْلُ مِنًى ما أقالُوا ذلكَ القَرْنَ» كذا قال، وإنما هو ماأقلوا...
وقوله: "فَجَمَعْناهُمْ جَمْعا "يقول: فجمعنا جميع الخلق حينئذ لموقف الحساب جميعا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وتَرَكْنا بَعْضُهم يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ} أي يَجُولُ بعضُهم في بعضٍ. ثم يَحتمِل قولُه: {يَمُوجُ في بَعْضٍ} عند السّدّ الذي بَناه ذو القرنين يَمُوجُون عندما فُتح ذلك السّدُّ. أو يذكر هذا لكثرتِهم وازدحامِهم، والله أعلم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والضمير في {تَرَكْنَا} لله عز وجل... واستعارةُ «المَوْجِ» لهم عبارةٌ عن الحَيْرة وتَرَدُّدِ بعضِهم في بعضٍ كالمُوَلَّهِين مِن هَمٍّ وخوفٍ ونحوِه، فشَبَّهَهم بمَوْج البحرِ الذي يَضطرِب بعضُه في بعضٍ... ومَن تَأَوَّلَ الآيةَ إلى قوله {يَمُوجُ في بعضٍ} في أمْر يأجوجَ ومأجوجَ... ثم {نُفِخَ في الصُّورِ} فيَجْتَمِعون...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" فجَمَعْناهم جَمْعاً "يعني الجِنَّ والإِنْسَ في عَرَصَات القيامةِ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ونُفِخَ في الصُّورِ} أي النَّفْخةَ الثانيةَ لقوله: {فجَمَعْناهم} ويجوز أن تكون هذه الفاءُ الفصيحةَ فيكون المُرادُ النَّفْخةَ الأولى، أو ونُفِخَ في الصُّور فماتَ الخلائقُ كلُّهم، فبَلِيَتْ أجسامُهم، وتفَتَّتَتْ عِظامُهم، كما كان مَن تَقَدَّمَهُمْ، ثم نُفِخَ فيه النَّفخةَ الثانيةَ فجَمعْناهم مِن التُّراب بعد تمزُّقهم فيه، وتفرُّقِهم في أقطار الأرض بالسُّيول والرياح وغير ذلك {جَمْعاً} فأقَمْناهم دَفْعةً واحدةً كلَمْحِ البَصَرِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو مشهد يرسم حركة الجموع البشرية من كل لون وجنس وأرض. ومن كل جيل وزمان وعصر، مبعوثين منشرين. يختلطون ويضطربون في غير نظام وفي غير انتباه، تتدافع جموعهم تدافع الموج وتختلط اختلاط الموج.. ثم إذا نفخة التجمع والنظام: ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا فإذا هم في الصف في نظام!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
التَّرْكُ: حقيقتُه مُفارقةُ شيءٍ شيئاً كان بِقُرْبِه، ويُطلَق مجازاً على جَعْل الشيءِ بِحالةٍ مُخالِفةٍ لحالةٍ سابقةٍ تمثيلاً لحال إِلْفائِه على حالةٍ، ثم تغييرِها بحالِ مَن كان قُرْبَ شيءٍ ثم ذَهَبَ عنه، وإنما يكون هذا المجازُ مُقَيَّداً بحالةٍ كان عليها مفعول تَرك، فيفيد أن ذلك آخِرُ العَهْد، وذلك يَستتبِع أنه يدوم على ذلك الحال الذي تركه عليها بالقرينة...
وجملة {يَمُوجُ} حالٌ من {بَعْضَهم} أو مفعولٌ ثانٍ لـ {تَرَكْنَا} على تأويله بـ (جَعَلْنا)، أي جَعَلْنا ياجوجَ وماجوجَ يومئذٍ مُضطرِبِين بينهم فصار فسادُهم قاصراً عليهم ودُفِع عن غيرهم...
لأنهم إذا لم يَجدوا ما اعتادوه من غَزْو الأُممِ المجاوِرة لهم رَجَعَ قَوِيُّهُم على ضعيفِهم بالاعتداء...
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهم جَمْعاً} تَخَلُّصٌ من أغراض الاعتبار بما في القصة من إقامة المصالح في الدنيا على أيدي مَن اختارَه اللهُ لإقامتها من خاصّةِ أوليائه، إلى غرض التذكيرِ بالموعظة بأحوال الآخِرة، وهو تَخَلُّصٌ يُؤْذِنُ بتشبيه حال تموُّجِهم بحال تموُّجِ الناسِ في المَحْشَر، تذكيراً للسامعين بأْمر الحَشْر وتقريباً بحُصوله في خيال المشركين. فإن القادر على جمْع أُمّةٍ كاملةٍ وراء هذا السّدِّ، بفِعْل مَن يَسَّرَه لذلك مِن خَلْقِه، هو الأقْدَر على جَمْع الأُممِ في الحَشْر بقُدرته، لأنّ مُتَعَلّقات القدرة ِفي عالَم الآخِرة أَعْجَبُ. وقد تَقدَّم أنّ من أهم أغراضِ هذه السورة إثباتَ البَعْثِ. واستعمل الماضي موضعَ المضارعِ تنبيهاً على تحقيق وقوعِه...
والنَّفْخُ في الصُّور تمثيليّةٌ مكنيّةٌ تشبيهاً لحال الدّاعي المُطاعِ وحالِ المَدعُوِّ الكثيرِ العدد السريعِ الإجابة، بِحال الجُندِ الذين ينفِّذون أمرَ القائد بالنَّفِير فيَنفُخون في بُوقِ النَّفِير، وبِحال بقيّةِ الجندِ حين يَسمعون بوقَ النَّفِير فيُسرِعون إلى الخروج. على أنه يجوز أن يكون الصُّورُ من مَخلوقات الآخِرةِ. والحالةُ المُمَثَّلة حالةٌ غريبةٌ لا يَعلَم تفصيلَها إلا اللهُ تعالى...
وتأكيدُ فِعْلَي {جَمَعْناهم} و {عَرَضْنا} بمَصدَرَيْهِما لِتَحَقُّق أنه جَمْعٌ حقيقيٌّ وعرضٌ حقيقيٌّ ليسا من المجاز، وفي تنكير الجَمْعِ والعَرْضِ تهويلٌ...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{يَوْمَئِذٍ} أي في الدنيا، حيث الاختبارُ، والتدافُع بين الحق والباطل والخيرِ والشر، والصلاحِ والفساد.
{يَمُوجُ في بعضٍ}، أي أن بعضهم يتدافَع مع البعض تَدافُعَ الأمواجِ وهي مصطحبة فيتدافع الأخيارُ مع الأشرار تَدافُعَ الأمواج ِيَدفَع بعضُها بعضاً، وهي تعلو وتنخفض. حتى يُدْعَوْا جميعا إلى الله تعالى، وعَبّر عن ذلك بقوله: {ونُفِخَ في الصُّورِ فجَمَعْناهم جَمْعاً}...
{فجَمَعْناهم جَمْعاً}... ذكر المصدر لتأكيد أن البعث يَعُمُّ الجميعَ، ولا يَتخَلَّفُ عنه أحدٌ...