قوله تعالى : { وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال } . قال الحسن : هو يوم بدر ، وقال مقاتل : يوم الأحزاب ، وقال سائر المفسرين : هو يوم أحد ، وقال مجاهد والكلبي والواقدي : غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة رضي الله عنها يمشي على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح . قال محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما :إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول -ولم يدعه قط قبلها-فاستشاره ، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي . وقال بعض أصحابه : يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أني رأيت في منامي بقراً مذبوحة فأولتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولتها هزيمةً ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة - وكان يعجبه أن يدخلوا عليه بالمدينة- فيقاتلوا في الأزقة . فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حبهم للقاء القوم ، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته ، فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا ، وقالوا : بئس ما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ! فقاموا واعتذروا إليه وقالوا : اصنع ما رأيت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل ، وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس ، فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعدما صلى بأصحابه الجمعة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم ، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة فكان من حرب أحد ما كان فذلك قوله تعالى( وإذ غدوت من أهلك ) أي واذكر إذا غدوت من اهلك تبوىء : تنزل المؤمنين مقاعد للقتال : أي مواطن ومواضع للقتال ، يقال بوأت القوم إذا وطنتهم ، وتبوؤوا هم إذا تواطئوا قال الله تعالى( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) وقال ( أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) وقيل تتخذ معسكراً .
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
هذه الآيات نزلت في وقعة " أُحد " وقصتها مشهورة في السير والتواريخ ، ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع ، وأدخل في أثنائها وقعة " بدر " لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم ، ورد كيد الأعداء عنهم ، وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا لا يتخلف مع الإتيان بشرطه ، فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين ، وأن الله نصر المؤمنين في " بدر " لما صبروا واتقوا ، وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الإخلال بالتقوى ما صدر ، ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون ، فيخف عنهم البلاء ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه الذي هو في الحقيقة خير لهم ، كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا يسيرا ، وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } وحاصل قضية " أحد " وإجمالها أن المشركين لما رجع فلهم من " بدر " إلى مكة ، وذلك في سنة اثنتين من الهجرة ، استعدوا بكل ما يقدرون عليه من العدد بالأموال والرجال والعدد ، حتى اجتمع عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم ، ثم وجهوا من مكة للمدينة في ثلاثة آلاف مقاتل ، حتى نزلوا قرب المدينة ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر رأيهم على الخروج ، وخرج في ألف ، فلما ساروا قليلا رجع عبد الله بن أبي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته ، وهمت طائفتان من المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله ، فلما وصلوا إلى أحد رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعهم وأسندوا ظهورهم إلى أحد ، ورتب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا من أصحابه في خلة في جبل " أحد " وأمرهم أن يلزموا مكانهم ولا يبرحوا منه ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم ، فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم ، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ، فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجبل ، قال بعضهم لبعض : الغنيمة الغنيمة ، ما يقعدنا هاهنا والمشركون قد انهزموا ، ووعظهم أميرهم عبد الله بن جبير عن المعصية فلم يلتفتوا إليه ، فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إلا نفر يسير ، منهم أميرهم عبد الله بن جبير ، جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم ، فجال المسلمون جولة ابتلاهم الله بها وكفر بها عنهم ، وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة ، فحصل ما حصل من قتل من قتل منهم ، ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل " أحد " وكف الله عنهم أيدي المشركين وانكفأوا إلى بلادهم ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة قال الله تعالى { وإذ غدوت من أهلك } والغدو هاهنا مطلق الخروج ، ليس المراد به الخروج في أول النهار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إلا بعدما صلوا الجمعة { تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أي : تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به ، وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال ، وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه ، وسداد نظره وعلو همته ، حيث يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه { والله سميع } لجميع المسموعات ، ومنه أنه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه { عليم } بنيات العبيد ، فيجازيهم عليها أتم الجزاء ، وأيضا فالله سميع عليم بكم ، يكلؤكم ، ويتولى تدبير أموركم ، ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى لموسى وهارون { إنني معكما أسمع وأرى } .
والآن فلنول وجوهنا شطر القرآن الكريم ، لنتدبر حديثه الحكيم عن هذه الغزوة ، ولنستمع إليه بقلوب واعية ، وآذان متفتحة ، وهو يبدأ حديثه عنها فيقول : { وَإِذْ غَدَوْتَ . . . } .
فى هذه الآيات الكريمة التى بدأت السورة بها حديثها عن غزوة أحد ، تذكير للمؤمنين بما وقع فيها حتى يعتبروا ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا .
وقوله - تعالى - : { غَدَوْتَ } من الغدو وهو الخروج فى أول النهار ، يقال : غدا يغدو من باب سما يسمو .
و { مِنْ } فى قوله : { مِنْ أَهْلِكَ } للابتداء ، والمراد بأهله ، زوجه عائشة - رضى الله عنها - فقد كان خروجه لغزوة أحد من بيتها . والكلام على حذف مضاف يدل عليه فعل { غَدَوْتَ } والتقدير : من بيت أهلك .
وقوله : { تُبَوِّىءُ } أصله من التبوء وهو اتخاذ المنزل . يقال : بوأته ، وبوأت له منزلا ، أى : أنزلته فيه . والمراد به هنا تنظيم المؤمنين وتسويتهم للقتال ، حتى يكونوا صفا واحداً كأنهم بنيان مرصوص .
والعامل فى { وَإِذْ } فعل مضمر تقديره ، واذكر .
والمعنى : واذكر لهم يا محمد ليعتبروا ويتعظوا وقت خروجك مبكراً من حجرة زوجتك عائشة إلى غزوة أحد .
وقوله : { تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى تنزلهم وتسوى لهم بالتنظيم والترتيب مواطن وأماكن للقتال ، بحيث يكونون فى أحسن حال ، وأكمل استعداد لملاقاة أعدائهم .
قال الجمل : " ويستعمل الفعل { غَدَوْتَ } بمعنى صار عند بعضهم ، فيكون ناقصاً يرفع الاسم وينصب الخبر . . . وهذا المعنى ممكن هنا ، فالمعنى عليه ، وإذ غدوت أى صرت تبوىء المؤمنين أى تنزلهم فى منازل للقتال ، وهذا أظهر من الآخر ، لأن المذكور فى القصة أنه سار من عند أهله بعد صلاة الجمعة وبات فى شعب أحد ، وأصبح ينزل أصحابه فى منازل القتال ويدبر لهم أمر الحرب " .
فالجملة الكريمة تشير إلى ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه قبل أن تبدأ المعركة ، فقد اهتم بتنظيم صفوفهم ، وبرسم الخطة الحكيمة التى تكفل لهم النصر ، وأمر الجيش كله ألا يتحرك للقتال إلا عندما يأذن له بذلك ، ولقد حدث أن بعض المسلمين من الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرحت خيولها وإبلها فى زروع المسلمين ، وقال للنبى صلى الله عليه وسلم " أترعى زروع بنى قيلة - يعنى الأنصار - ولما تضارب " ؟ ؟ إلا أن النبى صلى الله عليه وسلم نهاهم عن القتال إلا بعد إذنه .
وجملة { تُبَوِّىءُ } حال من فاعل " غدوت " .
والفعل { تُبَوِّىءُ } يحتاج لمفعولين :
أولهما : قوله : { المؤمنين } .
وثانيهما : قوله : { مَقَاعِدَ } وقوله : { لِلْقِتَالِ } متعلق بقوله : { تُبَوِّىءُ } .
والمراد بقوله : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى مراكز وأماكن ومواقف للقتال بحيث يعرف كل مؤمن مكانه وموقفه فينقض منه على خصمة إلا أن القرآن الكريم عبر عن هذه الأماكن والمراكز والمواقف بالمقاعد . للإشارة إلى وجوب الثبات فيها كما يثبت القاعد فى مكانه ، وأن عليهم ألا يبرحوا أماكنهم إلا بإذن قائدهم صلى الله عليه وسلم .
وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لبيان أنه مطلع على كل شىء ، وعلى ما كان يجرى بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه من مشاورات ومناقشات .
فهو - سبحانه - { سَمِيعٌ } لما نطقت به ألسنتهم { عَلِيمٌ } بما تخفيه صدورهم ، وسيجازى المؤمنين الصادقين بما يستحقون من ثواب ، وسيجازى غيرهم من ضعاف الإيمان والمنافقين بما يستحقون من عقاب .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة غرس الرهبة فى قلوب المؤمنين ، حتى لا يعودوا إلى مثل ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد . حيث خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ، والله سميع عليم . إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ، والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره - وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم . ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو ، واستحضار المشهد الأول بهذا النص ، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته ؛ وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور - الذي يعرفونه - من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور . وأولها حقيقة حضور الله - سبحانه - معهم ، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم . وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي . وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة ، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي . والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي ، بكل تكاليفه ، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها ، وبكل حيويتها كذلك :
( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال . . والله سميع عليم . . ) . .
والإشارة هنا إلى غدو النبي [ ص ] من بيت عائشة - رضي الله عنها - وقد لبس لأمته ودرعه ؛ بعد التشاور في الأمر ، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها . وما أعقب هذا من تنظيم الرسول [ ص ] للصفوف ، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل . . وهو مشهد يعرفونه ، وموقف يتذكرونه . . ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه :
ويا له من مشهد ، الله حاضره ! ويا له من موقف ، الله شاهده ! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به ، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور . والسرائر مكشوفة فيه لله . وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر .
ثم شَرَعَ تعالى في ذكر قصة أحد ، وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين ، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين ، وبيان صَبْر الصابرين ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وغير واحد . وعن الحسن البصري : المراد بذلك يوم الأحزاب . رواه ابن جرير ، وهو غريب لا يُعَوَّل{[5612]} عليه .
وكانت وقعةُ أحد يومَ السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة . قال [ قتادة ]{[5613]} لإحدى عشرة ليلة خَلَتْ من شَوَّال . وقال عِكْرِمة : يوم السبت للنصف من شوال ، فالله أعلم .
وكان سببها أن المشركين حين قُتل من قتل من أشرافهم يوْمَ بَدْر ، وسَلمَت العيرُ بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سُفْيان ، فلما رجع قفَلُهُم{[5614]} إلى مكة قال أبناء من قُتل ، ورؤساء من بقي لأبي سفيان : ارصد هذه الأموال لقتال محمد ، فأنفقوها في ذلك ، وجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في قريب من ثلاثة آلاف ، حتى نزلوا قريبًا من أحد تِلْقاء المدينة ، فصلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعة ، فلما فَرَغَ منها صَلى على رجل من بني النجار ، يقال له : مالك بن عَمْرو ، واستشار{[5615]} الناس : أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة ؟ فأشار عبد الله بن أُبيّ بالمقام بالمدينة ، فإن أقاموا أقاموا بشِرِّ مَحْبس{[5616]} وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمَتَه وخرج عليهم ، وقد نَدم بعضهم وقالوا : لعلنا استكرَهْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن شئت أن نمكث ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لأمَتَه أنْ يَرْجِعَ حَتى يَحْكُمَ اللهُ لَه " .
فسار ، عليه السلام{[5617]} في ألف من أصحابه ، فلما كان بالشَّوط رجع عبد الله بن أبيّ في ثُلُث الجيش مُغْضَبا ؛ لكونه لم يرجع إلى قوله ، وقال هو وأصحابه : لو نعلم اليوم قتالا لاتبعناكم ، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم .
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا حتى نزل الشِّعْب من أُحُد في عَدْوَةِ الوادي . وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال : " لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حتى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ " .
وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه ، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جُبَيْر أخا بني عَمْرو بن عوف ، والرماة يومئذ خمسون رجلا فقال لهم : " انْضَحُوا الخَيْلَ عَنَّا ، وَلا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ . والْزَمُوا مَكَانَكُمْ إنْ كَانَتِ النَّوْبَةُ لَنَا أوْعَلَيْنَا ، وإنْ رَأيْتُمُونَا تَخَطَّفُنا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ " .
وظاهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين درعين ، وأعطى اللواء مُصْعَب بن عُمَير أخا بني عبد الدار . وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغِلْمان يومئذ وأرجأ آخرين ، حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين .
وتعبَّأت قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فَرَس قد جَنَبوها {[5618]}فجعلوا على مَيْمَنة الخيل خالد بن الوليد : وعلى الميسرة عِكْرِمة بن أبي جَهْل ، ودفعوا إلى بني عبد الدار اللواء . ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات ، إن شاء الله تعالى .
ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي : بَيّن لهم منازلهم ونجعلهم{[5619]} مَيْمَنة ومَيْسَرة وحيث أمرتهم { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لما تقولون ، عليم بضمائركم .
وقد أورد ابن جرير هاهنا سؤالا حاصله : كيف يقولونَ : إن النبي صلى الله عليه وسلم سار{[5620]} إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة ، وقد قال الله [ تعالى ]{[5621]} { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } ؟ ثم كان جوابه عنه : أن غدوه ليبوئهم{[5622]} مقاعد ، إنما كان يوم السبت أول النهار .
ذهب الطبري رحمه الله إلى أن هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من الآيات والظاهر أنها استقبال أمر آخر ، لأن تلك مقاولة في شأن منافقي اليهود ، وهذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد ، فالعامل في { إذ } فعل مضمر تقديره واذكر ، وقال الحسن : هذا الغدو المذكور في هذه الآية «لتبويء المؤمنين » الذي كان في غزوة الأحزاب .
قال القاضي أبو محمد : وخالفه الناس ، والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل ، وقصدوا المدينة ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر ، فنزلوا عند أحد يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، على رأس أحد وثلاثين شهراُ من الهجرة ، وأقاموا هنالك يوم الخميس ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يدير وينتظر أمر الله تعالى ، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستشارهم وأخبرهم أنه كان يرى بقرة تذبح وثلماً في ذباب سيفه ، وأنه يدخل يده في درع حصينة ، وأنه تأولها المدينة ، وقال لهم ، أرى أن لا نخرج إلى هؤلاء الكفار ، فقال له عبد الله بن أبي بن سلول : أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس ، فإن هم أقاموا أقاموا بشر محبس وإن انصرفوا مضوا خائبين ، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام ، فوالله ما حاربنا قط عدواً في هذه المدينة إلا غلبناه ، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا ، فوافق هذا الرأي رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار ، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر : يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا ، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس صلاة الجمعة وقد جشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب ، فدخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه ، فندم اولئك القوم وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سلاحه ، قالوا : يا رسول الله أقم إن شئت ، فإنّا لا نريد أن نكرهك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ثم خرج بالناس ، وسار حتى قرب من عسكر المشركين ، هناك وبات تلك الليلة ، وقد غضب عبد الله بن أبي بن سلول وقال : أطاعهم وعصاني ، فلما كان في صبيحة يوم السبت ، اعتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السير إلى مناجزة المشركين ، فنهض وهو في ألف رجل ، فانعزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل من الناس ، من منافق ومتبع ، وقالوا : نظن أنكم لا تلقون قتالاً ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سبعمائة ، فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف ، ورأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين ، وكادوا أن يجبنوا ويفشلوا فعصمهم الله تعالى ، وذمر{[3474]} بعضهم بعضاً ، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين ، فتصافَّ الناس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر على الرماة عبد الله بن جبير ، وكانوا خمسين رجلاً ، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين ، وأسند هو إلى الجبل ، فلما أضرمت الحرب انكشف المشركون وانهزموا ، وجعل نساء المشركين تبدو خلاخلهن وهن يسندن في صفح{[3475]} جبل ، فلما رأى الرماة ذلك قالوا : الغنيمة الغنيمة أيها المسلمون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهم : لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير ، فقال لهم عبد الله بن جبير وقوم منهم : اتقوا الله واثبتوا كما أمركم نبيكم ، فعصوا وخالفوا وزالوا متبعين ، وكان خالد بن الوليد قد تجرد في جريدة خيل وجاء من خلف المسلمين حيث كان الرماة ، فحمل على الناس ووقع التخاذل وصيح في المسلمين من مقدمتهم ومن ساقتهم ، وصرخ صارخ : قتل محمد ، فتخاذل الناس واستشهد من المسلمين نيف على سبعين ، قال مكي : قال مالك رحمه الله : قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة ، ومن الأنصار سبعون وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى الجبل وتجاوز الناس ، هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآية ، وأمر «أحد » بطوله وما تخلله من الأفعال والأقوال ، مستوعب في كتب السير ، وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره وحكى مكي عن السدي ما يظهر منه أن القتال كان يوم الجمعة ، وحكى عنه الطبري ، أن نزول أبي سفيان بأحد كان في الثالث من شوال ، وذلك كله ضعيف ، وقال النقاش ، وقعة «أحد » في الحادي عشر من شوال ، وذلك خطأ ، قال الطبري وغيره : فغدو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلى التدبير مع الناس واستشارتهم هو الذي عبر عنه بقوله تعالى : { تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال } .
قال القاضي : ولا سيما أن غدو النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ورأيه أن لا يخرج الناس ، فكان لا يشك في نفسه أن يقسم أقطار المدينة على قبائل الأنصار ، وقال غير الطبري : بل نهوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة ، هو غدوه ، وبوأ المؤمنين في وقت حضور القتال ، وقيل ذلك في ليلته ، وسماه «غدواً » إذ كان قد اعتزم التدبير ، والشروع في الأمر من وقت الغدو .
قال القاضي أبو محمد : ولا سيما أن صلاة الجمعة ربما كانت قبل الزوال ، حسبما وردت بذلك أحاديث{[3476]} ، فيجيء لفظ الغدو متمكناً ، وقيل إن «الغدو » المذكور هو «غدوة » يوم السبت إلى القتال ، ومن حيث لم يكن في تلك الليلة موافقاً للغدو فهو كأنه كان في أهله وبوأ المسلمين بأمره الرماة وبغير ذلك من تدبيره مصاف الناس و { تبوىء } معناه : تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها ويثبتون تقول : تبوأت مكان كذا ، إذا حللته حلولاً متمكناً تثبت فيه ، ومنه قوله تعالى : { نتبوأ من الجنة حيث نشاء }{[3477]} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار »{[3478]} ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل مرفل ]
كم صاحب ليَ صالحٍ . . . بَوَّأْتُهُ بيديَّ لحْدا{[3479]}
وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مَنْزلاً . . . بِشَرْقِيّ أجْيَادِ الصَّفَا والْمحَرَّمِ{[3480]}
وقوله تعالى : { مقاعد } جمع مقعد وهو مكان القعود ، وهذا بمنزلة قولك مواقف ، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان{[3481]} يجولون ، وقوله : { والله سميع } أي ما تقول ويقال لك وقت المشاورة وغيره .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَإذْ غَدَوتَ مِن أهْلِكَ تُبَوّئ المُؤمِنِينَ}: وإن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم أيها المؤمنون كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئا، ولكن الله ينصركم عليهم إن صبرتم على طاعتي، واتباع أمر رسولي، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة. وإن أنتم خالفتم أيها المؤمنون أمري، ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه، وخالفتم أمري، وأمر رسولي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحد، واذكروا ذلك اليوم إذ غدا نبيكم يبوّئ المؤمنين فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم، إن صبروا على أمره، واتقوا محارمه، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحد، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنازعوا الرأي بينهم. وأخرج الخطاب في قوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ} على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بمعناه الذين نهاهم أن يتخذ الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين، فقد بيّن إذا أن قوله: «وإذ» إنما جرّها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت.
وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عزّ وجلّ بقوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّئ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ}؛
فقال بعضهم: عَنَى بذلك يَوْمَ أحد...
وقال آخرون: عَنَى بذلك يوم الأحزاب...
وأولى هذين القولين بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: يوم أحد، لأن الله عزّ وجلّ يقول في الآية التي بعدها: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنكُمْ أنْ تَفْشَلا} ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عنى بالطائفتين بنو سلمة وبنو حارثة، ولا خلاف بين أَهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد دون يوم الأحزاب.
فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما راح إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس... قيل: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رَواحا فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدهم للقتال عند خروجه، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوه وذلك أن المشركين نزلوا منزلهم من أحد فيما بلغنا يوم الأربعاء، فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة بعد ما صلى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال...
فإن قال: وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعد للقتال غدوّا قبل خروجه، وقد علمت أن التبوئة اتخاذ الموضع؟ قيل: كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضته عدوّه عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم بيوم أو يومين. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أُحُدا، قال فيما:
حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط عن السديّ لأصحابه: «أشِيرُوا عَليّ ما أصْنَع؟»فقالوا: يا رسول الله اخرج إلى هذه الأكلب. فقالت الأنصار: يا رسول الله ما غلبنا عدوّ لنا أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره فقال: يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة، فيقاتلوا في الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاريّ، فقال: يا رسول الله، لا تحرمني الجنة، فوالذي بعثك بالحقّ لأدخلنّ الجنة! فقال له: «بم؟» قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأني لا أفرّ من الزحف. قال: «صَدَقْتَ؟» فقتل يومئذٍ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه وقد لبس السلاح، ندموا، وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه! فقاموا واعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما رأيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَنْبَغِي لِنَبِيّ أنْ يَلْبَسَ لأُمَتَهُ فَيَضَعَها حتى يُقاتِلَ».
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني ابن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي قَدْ رأيْتُ بَقَرا فأوّلْتُها خَيْرا، ورأيْتُ فِي ذُبابِ سَيْفِي ثَلْما، ورأيْتُ أنّي أدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فأوّلْتُها المَدِينَةَ فإنْ رأيْتُمْ أنْ تُقيمُوا بالمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فإنْ أقامُوا أقامُوا بِشَرّ مُقامٍ، وَإنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنا قاتَلْناهُمْ فِيها». وكان رأي عبد الله بن أبيّ ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أن لا يخرج إليهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنّا عنهم وضعفنا! فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول: يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه! فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشرّ محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا. فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أمرهم حبّ لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس لأمته.
فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعد للقتال، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا على ما وصفه الذين حكينا قولهم يقال منه: بوّأت القوم منزلاً وبوّأته لهم فأنا أبوّئهم المنزل تبوئة، وأبوئ لهم منزلاً تبوئة. وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود: «وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّئ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ» وذلك جائز، كما يقال: رَدِفَكَ وَردِفَ لك... والمقاعد: جمع مقعد وهو المجلس. فتأويل الكلام: واذكر إذ غدوت يا محمد من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرا وموضعا لقتال عدوّهم. وقوله: {وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يعني بذلك تعالى ذكره: والله سميع لما يقول المؤمنون لك، فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم من قول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة، وقول من قال لك: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، على ما قد بينا قبل، ومما تشير به عليهم أنت يا محمد. عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوّك، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة، وغير ذلك من أمرك وأمورهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: {تبوئ} قيل: تهيئ للمؤمنين أمكنة القتال، وقيل، {تبوئ} تنزل المؤمنين، وقيل: {تبوئ} للمؤمنين تتخذ للمؤمنين مقاعد لقتال المشركين، وقيل: {تبوئ}: توطن، وقيل: تستعد للقتل، كله يرجع إلى واحد. ثم اختلف في أي حرب كان؟ وفي أي يوم؟ قال أكثر أهل التفسير: كان ذلك يوم أحد، وقيل: إنه كان يوم الخندق، وقيل: كان يوم الأحزاب، فلا يعلم ذلك إلا بخبر يصح أنه كان يوم كذا، لكن في ذلك أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر، ويختارون لهم المقاعد، وعليهم تعاهد أحوالهم ورفع الخلل والضياع عنهم ما احتمل وسعهم، وعليهم طاعة الأئمة وقبول الإشارة من الإمام وذلك في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} ذكر مقاعد القتال في هذه الآية، لكن الذي لزم من ذلك في آية أخرى ذكر الصف بقوله جل وعلا {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} وذكر في الآية الأخرى الثبات بقوله جل وعلا {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} [الأنفال: 45]. والأصل أنهم أمروا بالثبات، فالأحسن أن يختار لهم أمكنة لهم بها معونة على الثبات، والله أعلم، بقوله جل وعلا: {إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} {ومن يولهم يومئذ دبره إلا محترفا لقتال أو متحيزا} [الأنفال: 15 و 16] فيه رخصة الحملة على العدو وباجتهاد إن كان فيها تولي الأدبار، ويحتمل أن يكون أراد بالمقاعد الأماكن والمواطن للقتال والحرب، والله أعلم. وقوله تعالى: {والله سميع عليم} يحتمل {سميع} لمقالتكم {عليم} بسرائركم، ويحتمل {سميع} بذكركم الله والدعاء له، لأنهم أمروا بالذكر لله والثبات للعدو بقوله جل وعلا: {فأثبتوا واذكروا الله كثيرا} [الأنفال: 45] و {عليم} بثوابكم، ويحتمل قوله: {سميع عليم} البشارة من الله جلا وعلا بالنصر لهم والأمن من ضرر يلحقهم كقوله تعالى جل وعلا لموسى وهارون: {فقولا له قولا لينا} الآية {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} [طه: 44 و 45]، ثم قال جل وعلا: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] أمنهما من عدوهما بقوله جل وعلا: {أسمع وأرى} فعلى ذلك يحتمل ذا في قوله جل وعلا: {سميع عليم} ويكون {سميع} أي أسمع دعاءكم بمعنى أجيب، وأعلم ما به نصركم وظفركم، والله أعلم...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وإذ غدوت} يعني يوم أحد {من أهلك} من منزل عائشة رضي الله عنها {تبوئ} تهيء للمؤمنين {مقاعد} مراكز ومثابت {للقتال والله سميع} لقولكم {عليم} بما في قلوبكم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(والله سميع عليم) أي: سميع بما قاله المنافقون، عليم بما أضمروا؛ فيكون على وجه التهديد...
اعلم أنه تعالى لما قال: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} [آل عمران: 120] أتبعه بما يدلهم على سنة الله تعالى فيهم في باب النصرة والمعونة ودفع مضار العدو إذا هم صبروا واتقوا، وخلاف ذلك فيهم إذا لم يصبروا فقال: {وإذ غدوت من أهلك} يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين للقتال فلما أطاعوا أمر الرسول غلبوا واستولوا على خصومهم، وذلك يؤكد قولنا، وفيه وجه آخر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء المنافقين بطانة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{والله سميع عليم}... جاءت هاتان الصفتان هنا لأنّ في ابتداء هذه الغزوة مشاورة ومجاوبة بأقوال مختلفة، وانطواء على نيات مضطربة حسبما تضمنته قصة غزوة أُحد.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم شَرَعَ تعالى في ذكر قصة أحد، وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وبيان صَبْر الصابرين، فقال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وغير واحد. وعن الحسن البصري: المراد بذلك يوم الأحزاب. رواه ابن جرير، وهو غريب لا يُعَوَّل عليه.
وكانت وقعةُ أحد يومَ السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة. قال [قتادة] لإحدى عشرة ليلة خَلَتْ من شَوَّال. وقال عِكْرِمة: يوم السبت للنصف من شوال، فالله أعلم.
وكان سببها أن المشركين حين قُتل من قتل من أشرافهم يوْمَ بَدْر، وسَلمَت العيرُ بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سُفْيان، فلما رجع قفَلُهُم إلى مكة قال أبناء من قُتل، ورؤساء من بقي لأبي سفيان: ارصد هذه الأموال لقتال محمد، فأنفقوها في ذلك، وجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في قريب من ثلاثة آلاف، حتى نزلوا قريبًا من أحد تِلْقاء المدينة، فصلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعة، فلما فَرَغَ منها صَلى على رجل من بني النجار، يقال له: مالك بن عَمْرو، واستشار الناس: أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة؟ فأشار عبد الله بن أُبيّ بالمقام بالمدينة، فإن أقاموا أقاموا بشِرِّ مَحْبس وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمَتَه وخرج عليهم، وقد نَدم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرَهْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن شئت أن نمكث؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لأمَتَه أنْ يَرْجِعَ حَتى يَحْكُمَ اللهُ لَه".
فسار، عليه السلام في ألف من أصحابه، فلما كان بالشَّوط رجع عبد الله بن أبيّ في ثُلُث الجيش مُغْضَبا؛ لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالا لاتبعناكم، ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم.
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا حتى نزل الشِّعْب من أُحُد في عَدْوَةِ الوادي. وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: "لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حتى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ".
وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جُبَيْر أخا بني عَمْرو بن عوف، والرماة يومئذ خمسون رجلا فقال لهم: "انْضَحُوا الخَيْلَ عَنَّا، وَلا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكُمْ. والْزَمُوا مَكَانَكُمْ إنْ كَانَتِ النَّوْبَةُ لَنَا أوْعَلَيْنَا، وإنْ رَأيْتُمُونَا تَخَطَّفُنا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ".
وظاهَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، وأعطى اللواء مُصْعَب بن عُمَير أخا بني عبد الدار. وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغِلْمان يومئذ وأرجأ آخرين، حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين.
وتعبَّأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فَرَس قد جَنَبوها 59 فجعلوا على مَيْمَنة الخيل خالد بن الوليد: وعلى الميسرة عِكْرِمة بن أبي جَهْل، ودفعوا إلى بني عبد الدار اللواء. ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الآيات، إن شاء الله تعالى.
ولهذا قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي: بَيّن لهم منازلهم ونجعلهم مَيْمَنة ومَيْسَرة وحيث أمرتهم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: سميع لما تقولون، عليم بضمائركم.
وقد أورد ابن جرير هاهنا سؤالا حاصله: كيف يقولونَ: إن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة، وقد قال الله [تعالى] {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}؟ ثم كان جوابه عنه: أن غدوه ليبوئهم مقاعد، إنما كان يوم السبت أول النهار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ما تضمنته هذه الآية من الإخبار ومن الوعد ومن الوعيد منطوقاً ومفهوماً محتاجاً إلى الاجتلاء في صور الجزئيات ذكرهم سبحانه وتعالى بالوقائع التي شوهدت فيها أحوالهم من النصر عند العمل بمنطوق الوعد من الصبر والتقوى وعدمه عند العمل بالمفهوم، وشوهدت فيها أحوال عدوهم من المساءة عند السرور والسرور عند المساءة، وذلك غني عن دليل لكونه من المشاهدات، مشيراً إلى ذلك بواو العطف على غير مذكور، مخاطباً لأعظم عباده فطنة وأقربهم إليه رتبة، تهييجاً لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل من غير أدنى وقوف مع المألوف فقال تعالى: {وإذ} أي اذكر ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين صبرتم واتقيتم فنصرتم، وحين ساءهم نصركم في كل ذلك في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، ثم في بدر، ثم في غزوة بني قينقاع ونحو ذلك، واذكر إذ لم يصبر أصحابك فأصيبوا، وإذ سرتهم مصيبتكم في وقعة أحد إذ {غدوت} أي يا خاتم الأنبياء وأكرم المرسلين! {من أهلك} أي بالمدينة الشريفة صبيحة يوم الجمعة إلى أصحابك في مسجدك لتستشيرهم في أمر المشركين. وقد نزلوا بأحد في أواخر يوم الأربعاء، أو في يوم الخميس لقتالكم. وبنى من {غدوت} حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه فقال: {تبوئ} أي تنزل {المؤمنين} أي صبيحة يوم السبت، وعبر بقوله: {مقاعد} إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم تقدم إلى كل أحد بالثبات في مركزه، وأوعز إليه في أن لا يفعل شيئاً إلا بأمره لا سيما الرماة، ثم ذكر علة ذلك فقال: {للقتال}. ولما كان التقدير: وتتقدم إليهم بأبلغ مقال في تشديد الأقوال والأفعال، أشار تعالى إلى أنه وقع في غضون ذلك منه ومنهم كلام كثير خفي وجلي بقوله: {والله} أي والحال أن الملك الأعظم الذي أنتم في طاعته {سميع} أي لأقوالكم {عليم} أي بنياتكم في ذلك وغيره فاحذروه، ولعله خص النبي صلى الله عليه وسلم بلذيذ الخطاب في التذكير تحريضاً لهم مع ما تقدمت الإشارة إليه على المراقبة تعريضاً لهم بأنهم خفوا مع الذين ذكرهم أمر بعاث حتى تواثبوا حين تغاضبوا إلى السلاح -كما ذكر في سبب نزول قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: 100]، فوقفوا عن نافذ الفهم وصافي الفكر خفة إلى ما أراد بهم عدوهم فاقتضى هذا التحذير كله، ويؤيد ذلك إقباله في الخطاب عليهم عند نسبة الفشل إليهم- كما يأتي قريباً، ولعله إنما خص هذه الغزوة بالذكر دون ما ذكرت أن واو عطفها دلت عليه مما أيدوا فيه بالنصر لأن الشماتة بالمصيبة أدل على البغضاء والعداوة من الحزن بما يسر، ودل ذكرها على المحذوف لأن المدعي فيما قبلها شيئان: المساءة بالحسنة، والفرح والمسرة بالمصيبة، فإذا برهن المتكلم على الثاني علم ولا بد أنه حذف برهان الأول، وأنه إنما حذفه- وهو حكيم -لنكتة، وهي هنا عدم الاحتياج إلى ذكره لوضوحه بدلالة السياق مع واو العطف عليه، وما تقدم من كونه غير صريح الدلالة في أمر البغض على أنه تعالى قد ذكر بدراً- كما ترى -بعد محكمة ستذكر، وأطلق سبحانه وتعالى- كما عن الطبري وغيره -التبوء على ابتداء القتال بالاستشارة... ولما كان رجوع عبد الله بن أبي المنافق... من الأدلة على أن المنافقين فضلاً عن المصارحين بالمصارمة متصفون بما أخبر الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء مع أنه كان سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد في غاية المناسبة، ولذلك افتتحها سبحانه وتعالى بقوله- مبدلاً من {إذ غدوت} دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا تألوهم خبالاً وغير ذلك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد.
وجه اتصالها بما قبلها هو أنه تعالى نهاهم في تلك عن اتخاذ بطانة من الأعداء المعروفين بالعداوة لهم وأعلمهم ببغضهم إياهم وإن خادعهم أفراد منهم بدعوى الإيمان وأنهم إن يصبروا ويتقوا ما يجب اتقاؤه لا يضرهم كيدهم شيئا؛ وبعد هذا البيان ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أُحد وما كان فيها من كيد المنافقين إذ قالوا ما قالوا أولا وآخرا وإذا خرجوا انشقوا ورجعوا ليخذلوا المؤمنين ويوقعوا الفشل فيهم، ومن كيد المشركين وتألبهم الذي لم يكن له من دافع إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم وإلا التقوى ومنها –بل أهمها- طاعة الرسول فيما أمر به هؤلاء الرماة، وذكرهم أيضا بوقعة بدر إذ نصرهم على قلتهم بصبرهم وتقواهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال} أي: تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به، وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال، وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه، وسداد نظره وعلو همته، حيث يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
من معركة الجدل والمناظرة، والبيان والتنوير، والتوجيه والتحذير -فيما سبق من السورة- ينتقل السياق إلى المعركة في الميدان.. معركة أحد.. وغزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده؛ إنما كانت معركة كذلك في الضمير.. كانت معركة ميدانها أوسع الميادين. لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانبا واحدا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه.. ميدان النفس البشرية، وتصوراتها ومشاعرها، وأطماعها وشهواتها، ودوافعها وكوابحها، على العموم.. وكان القرآن هناك. يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال! وكان النصر أولا، وكانت الهزيمة ثانيا، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة.. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن؛ واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين. وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وانطلاق الجماعة المسلمة -بعد ذلك- متحررة من كثير من غبش التصور، وتميع القيم، وتأرجح المشاعر، في الصف المسلم. وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك. ووضوح تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه، والحركة به، ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة، والاستعداد بالتجرد، والاستعداد بالتنظيم، والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه. وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث، ومن وراء التوجيهات القرآنية بعد الأحداث، أكبر وأخطر -بما لا يقاس- من حصيلة النصر والغنيمة.. لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة.. وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة.. كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة. وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة. وكان تدبير الله العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر.. كان تدبير الله العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة، تدبيرا كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية، والوعي والنضح، والتمحيص والتميز، والتنسيق والتنظيم. وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن. ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة! لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر:ميدان النفس، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة. وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله، عن علم وعن حكمة، وعن خبرة، وعن بصيرة. وكان ما شاءه الله وما دبره. وكان فيه الخير العظيم، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير. ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض مشاهدها ووقائعها، والتوجيهات المباشرة على هذه المشاهد والوقائع.. وبين التوجيهات الأخرى المتعلقة بتصفية النفوس، وتخليصها من غبش التصور، وتحريرها من ربقة الشهوات، وثقلة المطامع، وظلام الأحقاد، وظلمة الخطيئة، وضعف الحرص والشح. والرغبات الدفينة. ولعل مما يلفت النظر أكثر، الكلام -في صدد التعقيب على معركة حربية- عن الربا والنهي عنه، وعن الشورى والأخذ بها، على الرغم مما كان للشورى من معقبات ظاهرية في النتائح السيئة للمعركة! ثم.. سعة المساحة التي يعمل فيها المنهج القرآني في النفس البشرية، وفي الحياة الإنسانية، وتعدد نقط الحركة فيها، وتداخلها، وتكاملها العجيب.. ولكن الذين يدركون طبيعة هذا المنهج الرباني لا يعجبون لشيء من ذلك الازدواج وهذه السعة، وهذا التداخل، وهذا التكامل. فالمعركة الحربية في الحركة الإسلامية ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد، وتدبير حربي فحسب.. فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن المعركة الكبرى في عالم الضمير، وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة.. إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير، وخلوصه، وتجرده، وتحرره من الأوهاق والقيود التي تطمس على شفافيته، وتقعد به دون الفرار إلى الله! وكذلك هي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع التنظيمية التي تقوم عليها حياة الجماعة المسلمة، وفق منهج الله القويم. المنهج الذي يقوم على الشورى في الحياة كلها -لا في نظام الحكم وحده- وعلى النظام التعاوني لا النظام الربوي. والتعاون والربا لا يجتمعان في نظام! والقرآن كان يعالج الجماعة المسلمة، على إثر معركة لم تكن -كما قلنا- معركة في ميدان القتال وحده. إنما كانت معركة في الميدان الأكبر. ميدان النفس البشرية، وميدان الحياة الواقعية.. ومن ثم عرج على الربا فنهى عنه؛ وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه؛ وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة؛ وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار؛ فجعلها كلها مناط الرضوان. كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول [ص] ولين قلبه للناس. وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات. وعلى الأمانة التي تمنع الغلول. وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات.. عرج على هذا كله. لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع؛ الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها. معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير. الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة. وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله. ورده كله إلى محور واحد:محور العبادة لله، والعبودية له، والتوجه إليه في حساسية وتقوى. وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها، في كل حال من أحوالها. وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج. وإلى وحدة النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله، وتأثير كل حركة من حركات النفس، وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية. وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة. فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في ""أحد "":إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب. والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين. والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي. وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك. كذلك كان من الحقائق التي اتكأ عليها السياق من بدئه إلى نهايته.. حقيقة قدر الله. ورد الأمر إليه جملة. وتصحيح التصور في هذه النقطة تصحيحا حاسما جازما. وفي الوقت ذاته تقرير سنة الله في ترتيب العواقب التي تحل بالبشر على ما يصدر من سعيهم ونشاطهم، وخطئهم وإصابتهم، وطاعتهم ومعصيتهم، وتمسكهم بالمنهج وتفريطهم فيه. واعتبارهم بعد هذا كله ستارا للقدرة، وأداة للمشيئة، وقدرا من قدر الله يحقق به ما يشاء سبحانه. ثم.. في النهاية.. إشعار الجماعة المسلمة أن ليس لها من أمر النصر شيء. إنما هو تدبير الله لتنفيذ قدره، من خلال جهادها. وأجرها هي على الله. وليس لها من ثمار النصر شيء من أشياء هذه الأرض. ولا لحسابها الخاص يؤتيها الله النصر إذ يشاء. إنما لحساب الأهداف العليا التي يشاؤها الله. وكذلك الهزيمة. فإنها حين تقع بناء على جريان سنة الله، وفق ما يقع من الجماعة المسلمة من تقصير وتفريط، إنما تقع لتحقيق غايات يقدرها الله بحكمته وعلمه؛ لتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، وتجلية الحقائق، وإقرار القيم، وإقامة الموازين، وجلاء السنن للمستبصرين.. ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي؛ ما لمم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني، في الانتصار على النفس، والغلبة على الهوى، والفوز على الشهوة. وتقرير الحق الذي إراده الله في حياة الناس. ليكون كل نصر نصرا لله ولمنهج الله. وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله. وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية. ولا خير فيها للحياة ولا للبشرية. إنما الخير أن ترتفع راية الحق لذاتالحق. والحق واحد لا يتعدد. إنه منهج الله وحده. ولا حق في هذا الكون غيره. وانتصاره لا يتم حتى يتم أولا في ميدان النفس البشرية. وفي نظام الحياة الواقعية. وحين تخلص النفس من حظ ذاتها في ذاتها، ومن مطامعها وشهواتها، ومن أدرانها وأحقادها، ومن قيودها وأصفادها. وحين تفر إلى الله متحررة من هذه الأثقال والأوهاق. وحين تنسلخ من قوتها ومن وسائلها ومن أسبابها، لتكل الأمر كله إلى الله، بعد الوفاء بواجبها من الجهد والحركة. وحين تحكم منهج الله في الأمر كله، وتعد هذا التحكيم هو غاية جهادها وانتصارها. حين يتم هذا كله يحتسب الانتصار في المعركة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية انتصارا. في ميزان الله. وإلا فهو انتصار الجاهلية على الجاهلية، الذي لا وزن له عند الله ولا قيمة! ومن ثم كان ذلك الازدواج، وكان ذلك الشمول، في التعقيب على المعركة التي دارت يوم أحد، في ذلك الميدان الفسيح، الذي يعد ميدان القتال جانبا واحدا من جوانبه الكثيرة.
... المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة، لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان، وإلا مخالفة عن الأمر، وإلا حركة من الهوى، وإلا لفتة من الشهوة! والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة! والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة، وفي تاريخ النفاق والهزيمة! وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك، كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين.. وهذه وتلك انشأت -وفق سنة الله وقدره- هذه النتائج التي ذاقها المسلمون؛ وهذه التضحيات الجسام، التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله [ص] والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف، ويرونها أشد ما نالهم من الآلام. وقد دفعوا الثمن غاليا ليتلقوا الدرس عاليا، وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف، وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها:مهمة القيادة الراشدة للبشرية، وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية.. فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن. إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض؛ ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب؛ ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه.. وهو لا يعرض الحوادث عرضا تاريخيا مسلسلا بقصد التسجيل؛ إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث؛ ورسم سمات النفوس، وخلجات القلوب، وتصوير الجو الذي صاحبها؛ والسنن الكونية التي تحكمها؛ والمبادىء الباقية التي تقررها. وبذلك تستحيل الحادثة محورا أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات، والنتائج والاستدلالات. يبدأ السياق منها؛ ثم يستطرد حولها؛ ثم يعود إليها؛ ثم يجول في أعماق الضمائر، وفي أغوار الحياة؛ ويكرر هذا مرة بعد مرة، حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادىء، لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها، ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها. وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر، فجلاها. ونقاها، وأراحها في مواضعها، فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقا، ولا تحس فيها لبسا ولا دخلا.. وينظر الإنسان في رقعة المعركة، وما وقع فيها -على سعته وتنوعه- ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني، وما تناوله من جوانب؛ فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك، وأبقى على الزمن، وألصق بالقلوب، وأعمق في النفوس، وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية، وحاجات الجماعة الإسلامية، في كل موقف تتعرض له في هذا المجال، على تتابع الأجيال. فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة، والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة، والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة، والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان..
وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان، في أي زمان وفي أي مكان.. وسنعرض لها متجمعة -إن شاء الله- بعد استعراضها متفرقة في النصوص..
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره -وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم. ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو، واستحضار المشهد الأول بهذا النص، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته؛ وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور- الذي يعرفونه -من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور. وأولها حقيقة حضور الله- سبحانه -معهم، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم. وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي. وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي. والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي، بكل تكاليفه، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها، وبكل حيويتها كذلك:
(وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.. والله سميع عليم..).. والإشارة هنا إلى غدو النبي صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة- رضي الله عنها -وقد لبس لأمته ودرعه؛ بعد التشاور في الأمر، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها. وما أعقب هذا من تنظيم الرسول صلى الله عليه وسلم للصفوف، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل.. وهو مشهد يعرفونه، وموقف يتذكرونه.. ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه: ويا له من مشهد، الله حاضره! ويا له من موقف، الله شاهده! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور. والسرائر مكشوفة فيه لله. وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنَّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين، المنافقين، ولمَّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحداً، ودخيلتهما سواء، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحُد...