قوله تعالى : { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } ، الآية نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدار ، قال ابن عباس : لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية ، قال النضر : لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ، أي : ما هذا إلا ما سطره الأولون في كتبهم ، فقال له عثمان بن مظعون رضي الله عنه : اتق الله ، فإن محمداً يقول الحق ، قال : فأنا أقول الحق ، قال عثمان : فإن محمداً يقول : لا إله إلا الله ، قال : وأنا أقول لا إله إلا الله ، ولكن هذه بنات الله ، يعني الأصنام ، ثم قال : اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك ، والحق نصب خبر كان ، وهو عماد وصلة .
قوله تعالى : { فأمطر علينا حجارةً من السماء } ، كما أمطرتها على قوم لوط .
قوله تعالى : { أو ائتنا بعذاب أليم } ، أي : ببعض ما عذبت به الأمم ، وفيه نزل : { سأل سائل بعذاب واقع } [ المعارج :1 ] . وقال عطاء : لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية ، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر . قال سعيد ابن جبير : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثةً صبراً من قريش : طعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث . وروى أنس رضي الله عنه : أن الذي قاله أبو جهل لعنه الله .
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الذي يدعو إليه محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم ، والجهل بما ينبغي من الخطاب .
فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على بصيرة ويقين منه ، قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحق معه : إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ، لكان أولى لهم وأستر لظلمهم .
فمنذ قالوا : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية ، علم بمجرد قولهم أنهم السفهاء الأغبياء ، الجهلة الظالمون ، فلو عاجلهم اللّه بالعقاب لما أبقى منهم باقية ، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين أظهرهم ، فقال : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فوجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب .
وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الأشهاد ، يدرون بقبحها ، فكانوا يخافون من وقوعها فيهم ، فيستغفرون اللّه [ تعالى فلهذا ] قال تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم ، بعد ما انعقدت أسبابه .
ثم تمضى السورة في حديثها عن رذائل مشركى قريش ، فتحكى لونا عجيبا من ألوان عنادهم ، وجحودهم للحق . فتقول : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . .
وقائل هذا القول : النضر بن الحارث صاحب القول السالف { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا . . . } ذكر ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير .
وأخرج البخارى عن أنس بن مالك أن قائل ذلك : أبو جهل بن هشام .
وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض : أأكرم الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء .
والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله ، وأن محمدا قد جاءهم بالحق . . بل أضافوا إلى ذلك قولهم : اللهم إن كان هذا الذي جاء به محمد بن قرآن وغيره وهو الحق المنزل من عندك ، فعاقبنا على إنكاره والكفر به ، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا . أو تنزل علينا عذابا أليما يقضى علينا .
قال الجمل : قوله : { هُوَ الحق } قرأ العامة " الحق " بالنصب على أنه خبر الكون ولفظ { هُوَ } للفصل . وقرأ الأعمش وزيد بن على " الحق " بالرفع ووجوهها ظاهر برفع لفظ " هو " على الابتداء ، والحق خبره ، الجملة خبر الكون .
وفى إطلاقهم { الحق } على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجعله من عند الله ؛ تهكم بمن يقول ذلك سواء أكان هذا القائل - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو المؤمنين .
وأل فيه للعهد : أي الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله .
وقوله : { مِّنَ السمآء } متعلق بمحذوف صفة لقوله { حِجَارَةً } وفائدة هذا الوصف الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيبا لظالمين .
قال صاحب الكشاف : وهذا أسلوب من الجحود بليغ . يعن إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر . . ومرادهم نفى كونه حقا ، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا ، فكان تعليق العذاب بكونه حقا ، مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قولك : إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة من السماء .
فإن قلت : ما فائدة قوله { مِّنَ السمآء } والأمطار لا تكون إلا منها ؟
قلت : كأنهم يريدون أن يقولوا : فامطر علينا السجيل وهى الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل .
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ، فقال الرجل : أجهل من قومى قومك ، فقد قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم إلى الحق : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء . . . } ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .
ولقد كان هذا الرجل حكيما في رده على معاوية ، لأنه كان الأولى بأولئك المشركين أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه . . ولكن العناد الجامع الذي استولى عليهم جعلهم يؤثرون الهلاك على الإِذعان للحق ويفضلون عبادة الأصنام على اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده .
. وهكذا النفوس عندما تنغمس في الأحقاد وتتمادى في الجحود . وتنقاد للأهواء والشهوات ، وتأخذها للأهواء والشهوات ، وتأخذها العزة بالإِثم . ترى الباطل حقا ، والحق باطلا ، وتؤثر العذاب وهى سادرة في باطلها ، على الخضوع للحق والمنطق والصواب .
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم ؛ فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه ؛ وإذا بهم يتمنون على الله - إن كان هذا هو الحق من عنده - أن يمطر عليهم حجارة من السماء ، أو أن يأتيهم بعذاب أليم . بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه :
( وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ) . .
وهو دعاء غريب ؛ يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق ، حتى ولو كان حقاً ! . إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق ، وأن يهديها إليه ، دون أن تجد في هذا غضاضة . ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة ، تأخذها العزة بالإثم ، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب ، على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه . . وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله [ ص ] ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس !
وقوله : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا من كثرة جهلهم وعُتُوِّهم وعنادهم وشدة تكذيبهم ، وهذا مما عِيبُوا به ، وكان الأولى لهم أن يقولوا : " اللهم ، إن كان هذا هو الحق من عندك ، فاهدنا له ، ووفقنا لاتباعه " . ولكن استفتحوا على أنفسهم ، واستعجلوا العذاب ، وتقديم العقوبة كما قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ العنكبوت : 53 ] ، { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ ص : 16 ] ، { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ } [ المعارج : 1 - 3 ] ، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة ، كما قال قوم شعيب له : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ الشعراء : 187 ] ، وقال هؤلاء : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
قال شُعْبَة ، عن عبد الحميد ، صاحب الزيّادي ، عن أنس بن مالك قال : هو أبو جهل بن هشام قال : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فنزلت { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الآية .
رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النضر ، كلاهما عن عُبَيد الله بن مُعَاذ ، عن أبيه ، عن شعبة ، به{[12903]}
وأحمد هذا هو : أحمد بن النضر بن عبد الوهاب . قاله الحاكم أبو أحمد ، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري ، والله أعلم .
وقال الأعمش ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قال : هو النضر بن الحارث بن كلدة ، قال : فأنزل الله : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعْ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِع } [ المعارج : 1 - 2 ] وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والسدي : إنه النضر بن الحارث - زاد عطاء : فقال الله تعالى : { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ ص : 16 ] وقال{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 94 ] وقال{ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [ المعارج : 1 ، 2 ] ، قال عطاء : ولقد أنزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله ، عز وجل .
وقال ابن مُرْدُوَيْه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث ، حدثنا أبو غسان حدثنا أبو تُمَيْلة ، حدثنا الحسين ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه قال : رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أُحُد على فرس ، وهو يقول : اللهم ، إن كان ما يقول محمد حقا ، فاخسف بي وبفرسي " .
وقال قتادة في قوله : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ } الآية ، قال : قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها{[12904]} فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها .
وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، حدثنا عِكْرِمة بن عمار ، عن أبي زُمَيْل سِمَاك الحنفي ، عن ابن عباس قال : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك{[12905]} فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : " قَدْ قد " ! ويقولون : لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . ويقولون : غفرانك ، غفرانك ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال ابن عباس : كان فيهم أمانان : النبي صلى الله عليه وسلم ، والاستغفار ، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار{[12906]}
وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو مَعْشَر ، عن يزيد بن رُومَان ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض : محمد أكرمه الله من بيننا : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فلما أمسوا ندموا على ما قالوا ، فقالوا : غفرانك اللهم ! فأنزل الله ، عز وجل : { وَمَا كَانَ اللَّهُ [ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ ] مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }{[12907]} إلى قوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } يقول : ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ، ثم قال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } يقول : وفيهم من قد سبق له من الله الدخولُ في الإيمان ، وهو الاستغفار - يستغفرون ، يعني : يصلون - يعني بهذا أهل مكة .
وروي عن مُجاهد ، وعِكْرِمَة ، وعطية العَوْفي ، وسعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّيّ نحو ذلك .
وقال الضحاك وأبو مالك : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } يعني : المؤمنين الذين كانوا بمكة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الغفار بن داود ، حدثنا النضر بن عَرَبي [ قال ]{[12908]} قال ابن عباس : إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم : فأمان قبضه الله إليه ، وأمان بقي فيكم ، قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }
قال{[12909]} أبو صالح عبد الغفار : حدثني بعض أصحابنا ، أن النضر بن عربي حدثه هذا الحديث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس .
وروى ابن مَرْدُوَيه وابن جرير ، عن أبي موسى الأشعري نحوًا من هذا{[12910]} وكذا رُوي عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرئ .
وقال الترمذي : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا ابن نُمَيْر ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن عباد بن يوسف ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل الله عليَّ أمانين لأمتي : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فإذا مضيت ، تركتُ فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة " {[12911]}
ويشهد لهذا{[12912]} ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دَرَاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان قال : وعزتك يا رب ، لا أبرح أغْوِي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم . فقال الرب : وعزتي وجلالي ، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني " .
ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[12913]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا رِشْدِين - هو ابن سعد - حدثني معاوية بن سعد التُّجيبي ، عمن حدثه ، عن فَضَالة بن عُبَيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله ، عز وجل " {[12914]}
{ وإذ قالوا اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } هذا أيضا من كلام ذلك القائل أبلغ في الجحود . روي أنه لما قال النضر أن هذا إلا أساطير الأولين قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ويلك إنه كلام الله " فقال ذلك . والمعنى إن كان هذا حقا منزلا فأمطر الحجارة علينا عقوبة على إنكاره ، أو ائتنا بعذاب أليم سواه ، والمراد منه التهكم وإظهار اليقين والجزم التام على كونه باطلا . وقرئ { الحق } بالرفع على أن { هو } مبتدأ غير فصل ، وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق به كونه حقا بالوجه الذي يدعيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو تنزيله لا الحق مطلقا لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل كأساطير الأولين .
وقوله { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية ، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره ، وفيه نزلت هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم ، لأن النضر كان فيهم موسوماً بالنبل والفهم مسكوناً إلى قوله ، فكان إذا قال قولاً قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبداً بعلمائهم وفقهائهم ، والمشار إليه بهذا هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد ، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة ، وعميت بصائرهم عن الهدى ، وصمموا على أن هذا ليس بحق ، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن ، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع{[5311]} ، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق ، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة ، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل ، ويجوز في العربية رفع { الحق } على أنه خبر { هو } والجملة خبر { كان } ، قال الزّجاج : ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز{[5312]} وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحقَّ » على أن يكون خبر «كان » ويكون هو فصلاً ، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بان الذي بعده خبر ليس بصفة . و { أمطر } إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة .
قال القاضي أبو محمد : ويعارض هذه قوله { هذا عارض ممطرنا }{[5313]} لأنهم ظنوها سحابة رحمة ، وقولهم { من السماء } مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّة ويمنه .
عطف على { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [ الأنفال : 30 ] أو على { قالوا قد سمعنا } [ الأنفال : 31 ] وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث صاحب المقالة السابقة ، وقالها أيضاً أبو جهل وإسناد القول إلى جميع المشركين للوجه الذي أسند له قولُ النضر { قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 31 ] فارجع إليه ، وكذلك طريق حكاية كلامهم إنما هو جار على نحو ما قررته هنالك من حكاية المعنى .
وكلامهم هذا جار مجرى القَسَم ، وذلك أنهم يقسمون بطريقة الدعاء على أنفسهم إذا كان ما حصل في الوجود على خلاف ما يحكونه أو يعتقدونه ، وهم يحسبون أن دعوة المرء على نفسه مستجابة ، وهذه طريقة شهيرة في كلامهم قال النابغة :
ما إنْ أتيتُ بشيء أنتَ تكرهه *** إذَنْ فلا رَفَعَتْ سَوطي إِليَّ يدي
وقال معدان بنُ جَواس الكِندي ، أو حُجَيّة بن المضرب السَّكوني :
إن كان ما بُلِّغْت عني فلامني *** صديقي وشَلَّتْ من يديّ الأنامل
وكَفّنْتُ وحدي مُنذراً برِدائِه *** وصادَفَ حَوْطاً من أعاديّ قاتل
بُقَّيْتُ وفْري وانحرفتُ عن العلا *** ولقيتُ أضيافي بوجهِ عبوسِ
إنْ لم أَشُنّ على ابن حرب غارة *** لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس
وقد ضَمّن الحريري في « المقامة العاشرة » هذه الطريقة في حكاية يمين وجّهها أبو زيد السروجي على غُلامه المزعوم لدى والي رَحبة مالك بن طوْق حتى اضطرَّ الغلامَ إلى أن يقول : « الاصطلاء بالبلية ، ولا الابتلاءُ بهذه الإِلِيّة » .
فمعنى كلامهم : إن هذا القرآن ليس حقاً من عندك فإن كان حقاً فأصبنا بالعذاب ، وهذا يقتضي أنهم قد جزموا بأنه ليس بحق وليسَ الشرط على ظاهره حتى يفيد ترددهم في كونه حقاً ولكنه كناية عن اليمين وقد كانوا لجهلهم وضلالهم يحسبون أن الله يتصدى لمخاطرتهم ، فإذا سألوه أن يمطر عليهم حجارة إن كان القرآن حقاً منه أمطر عليهم الحجارة وأرادوا أن يظهروا لقومهم صحة جزمهم بعدم حقية القرآن فأعلنوا الدعاء على أنفسهم بأن يصيبهم عذاب عاجل إن كان القرآن حقاً من الله ليستدلوا بعدم نزول العذاب على أن القرآن ليس من عند الله ، وذلك في معنى القسم كما علمت .
وتعليق الشرط بحرف { إن } لأن الأصل فيها عدم اليقين بوقوع الشرط ، فهم غير جازمين بأن القرآن حق ومنزل من الله بل هم موقنون بأنه غير حق واليقين بأنه غير حق أخص من عدم اليقين بأنه حق .
وضمير { هو } ضميرُ فصل فهو يقتضي تقوي الخبر أي : إن كان هذا حقاً ومن عندك بلا شك .
وتعريف المسند بلام الجنس يقتضي الحصر فاجتمع في التركيب تقو وحصر وذلك تعبيرهم يحكون به أقوال القرآن المنوهة بصدقه كقوله تعالى : { إن هذا لَهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] وهم إنما أرادوا إن كان القرآن حقاً ولا داعي لهم إلى نفي قوة حقيته ولا نفي انحصار الحقية فيه ، وإن كان ذلك لازماً لكونه حقاً ، لأنه إذا كان حقاً كان ما هم عليه باطلاً فصح اعتبار انحصار الحقية فيه انحصاراً إضافياً ، إلاّ أنه لا داعي إليه لولا أنهم أرادوا حكاية الكلام الذي يبطلونه .
وهذا الدعاء كناية منهم عن كون القرآن ليس كما يوصف به ، للتلازم بين الدعاء على أنفسهم وبين الجزم بانتفاء ما جعلوه سبب الدعاء بحسب عرف كلامهم واعتقادهم .
و { من عندك } حال من الحق أي منزلاً من عندك فهم يطْعنون في كونه حقاً وفي كونه منزلاً من عند الله .
وقوله : { من السماء } وصف لحجارة أي حجارةَ مخلوقة لعذاب مَن تصيبه لأن الشأن أن مطر السماء لا يكون بحجارة كقوله تعالى : { فصَب عليهم ربك سوط عذابٍ } [ الفجر : 13 ] ( والصب قريب من الأمطار ) .
وذكروا عذاباً خاصاً وهو مطر الحجارة ثم عمموا فقالوا : { أو ائِتنا بعذاب أليم } ويريدون بذلك كله عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالآخرة . ووصفوا العذاب بالأليم زيادة في تحقيق يقينهم بأن المحلوف عليه بهذا الدعاء ليس منزلاً من عند الله فلذلك عرضوا أنفسهم لخَطر عظيم على تقدير أن يكون القرآن حقاً ومنزلاً من عند الله .
وإذ كان هذا القول إنما يلزم قائله خاصة ومن شاركه فيه ونطقَ به مثل النضر وأبي جهل ومَن التزم ذلك وشارك فيه من أهل ناديهم ، كانوا قد عرضوا أنفسهم به إلى تعذيب الله إياهم انتصاراً لنبيه وكتابه ، وكانت الآية نزلت بعد أن حق العذاب على قائلي هذا القول وهو عذاب القتل المُهين بأيدي المسلمين يومَ بدر ، قال تعالى : { يُعذبْهُم الله بأيديكم ويُخْزِهم وينْصُرْكم عليهم } [ التوبة : 14 ] وكان العذاب قد تأخر عنهم زمناً اقتضته حكمة الله ، بين الله لرسوله في هذه الآية سبب تأخر العذاب عنهم حين قالوا ما قالوا ، وأيقظ النفوس إلى حلوله بهم وهم لا يشعرون .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد أيضا ما حلّ بمن قال:"اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ" إذ مكرت لهم، فأتيتهم بعذاب أليم. وكان ذلك العذاب: قتلهم بالسيف يوم بدر. وهذه الآية أيضا ذكر أنها نزلت في النضر بن الحارث...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكر نهاية سفههم وغاية جرأتهم على الله وبغضهم الحق مع علمهم أن الله هو الإله، وأنه قادر على إنزال العذاب، وله السلطان على إمطار الحجارة بقولهم (فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) فلم يبالوا هلاك أنفسهم لشدة سفههم وجرأتهم على الله وبغضهم الحق...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: أنهم قالوا ذلك عناداً للحق وبغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنهم قالوا ذلك اعتقاداً أنه ليس بحق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
دَلَّ سؤالهم العذابَ على تصميم عقدهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، واستيقنوا عند أنفسهم بأنه لا يُسْتَجَابُ فيهم ما يدعونه على أنفسهم. وفي هذا أظهر دليل على أن سكون النفس إلى الشيء ليس بعلم؛ لأنه كما يوجد مع العلم يوجد مع الجهل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... وهذا أسلوب من الجحود بليغ، يعني إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده نفي كونه حقاً، وإذا انتفى كونه حقاً لم يستوجب منكره عذاباً، فكان تعليق العذاب بكونه حقاً مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك: إن كان الباطل حقاً، فأمطر علينا حجارة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم، لأن النضر كان فيهم موسوماً بالنبل والفهم مسكوناً إلى قوله، فكان إذا قال قولاً قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبداً بعلمائهم وفقهائهم، والمشار إليه بهذا هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة، وعميت بصائرهم عن الهدى، وصمموا على أن هذا ليس بحق، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق..
وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل...
وقولهم {من السماء} مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّة ويمنه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا من كثرة جهلهم وعُتُوِّهم وعنادهم وشدة تكذيبهم، وهذا مما عِيبُوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا:"اللهم، إن كان هذا هو الحق من عندك، فاهدنا له، ووفقنا لاتباعه". ولكن استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا العذاب، وتقديم العقوبة كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53]، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16]، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 1 -3]، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة، كما قال قوم شعيب له: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187]، وقال هؤلاء: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذلك موضع عجب من عدم إعجال الضُلال بالعذاب وإمهالهم إلى أن أوقع بهم في غزوة بدر لا سيما مع قوله {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} بيّن السر في ذلك وإن بالغوا في استعجاله فقال: {وإذ قالوا} أي إرادة المكابرة بالتخييل إلى الناس أنهم على القطع من أنه باطل وإلا لما دعوا بهذا الدعاء {اللهم} أي يا من له تمام المُلك وعموم الملك {إن كان هذا} أي الأمر الذي أتانا به محمد {هو} أي لا ما نحن عليه {الحق} حال كونه منزلاً {من عندك}... ولعل تقييده بقوله: {من السماء} مع أن الإمطار لا يكون إلا منها -لإزالة وهم من يتوهم أن الإمطار مجاز عن مطلق الرجم وأنه إنما ذكر لبيان أن الحجارة المرجوم بها في الكثرة مثل المطر {أو ائتنا بعذاب أليم} أي غير الحجارة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والمعنى اللهم إن كان هذا القرآن وما يدعو إليه هو الحق منزلا من عندك ليدين به عبادك كما يدعي محمد صلى الله عليه وسلم فافعل بنا كذا وكذا- أي أنهم لا يتبعونه وإن كان هو الحق المنزل من عند الله لأنه نزل على محمد بن عبد الله الذي يلقبونه بابن أبي كبشة بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء أو بعذاب أليم آخر يأخذهم على اتباعه، ومن هذا الدعاء علم أن كفرهم عناد وكبرياء وعتو وعلو في الأرض لا لأن ما يدعوهم إليه باطل أو قبيح أو ضار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وكلامهم هذا جار مجرى القَسَم، وذلك أنهم يقسمون بطريقة الدعاء على أنفسهم إذا كان ما حصل في الوجود على خلاف ما يحكونه أو يعتقدونه، وهم يحسبون أن دعوة المرء على نفسه مستجابة، وهذه طريقة شهيرة في كلامهم... فمعنى كلامهم: إن هذا القرآن ليس حقاً من عندك فإن كان حقاً فأصبنا بالعذاب، وهذا يقتضي أنهم قد جزموا بأنه ليس بحق وليسَ الشرط على ظاهره حتى يفيد ترددهم في كونه حقاً ولكنه كناية عن اليمين وقد كانوا لجهلهم وضلالهم يحسبون أن الله يتصدى لمخاطرتهم، فإذا سألوه أن يمطر عليهم حجارة إن كان القرآن حقاً منه أمطر عليهم الحجارة وأرادوا أن يظهروا لقومهم صحة جزمهم بعدم حقية القرآن فأعلنوا الدعاء على أنفسهم بأن يصيبهم عذاب عاجل إن كان القرآن حقاً من الله ليستدلوا بعدم نزول العذاب على أن القرآن ليس من عند الله، وذلك في معنى القسم كما علمت. وتعليق الشرط بحرف {إن} لأن الأصل فيها عدم اليقين بوقوع الشرط، فهم غير جازمين بأن القرآن حق ومنزل من الله بل هم موقنون بأنه غير حق واليقين بأنه غير حق أخص من عدم اليقين بأنه حق...
وهذا الدعاء كناية منهم عن كون القرآن ليس كما يوصف به، للتلازم بين الدعاء على أنفسهم وبين الجزم بانتفاء ما جعلوه سبب الدعاء بحسب عرف كلامهم واعتقادهم... وذكروا عذاباً خاصاً وهو مطر الحجارة ثم عمموا فقالوا: {أو ائِتنا بعذاب أليم} ويريدون بذلك كله عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالآخرة. ووصفوا العذاب بالأليم زيادة في تحقيق يقينهم بأن المحلوف عليه بهذا الدعاء ليس منزلاً من عند الله فلذلك عرضوا أنفسهم لخَطر عظيم على تقدير أن يكون القرآن حقاً ومنزلاً من عند الله...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن هؤلاء المشركين لا يريدون الحق ليتبعوه، بل هم في ضلال، وإنهم يضلون ضلالا بعيدا، وقد حكى الله تعالى حالهم، ودعاءهم الساخر الماجن:
{وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
إن هذه الجملة السامية الحالية تنبئ عن أن هؤلاء قد أركست نفوسهم في الشرك إلى درجة أنهم يتمنون أن يعيشوا فيه، وألا يكفروا في تغير ما بأنفسهم.
يقول الله تعالى عنهم يقولون: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ} هذا أقصى أحوال الجحود والإنكار، حتى إنه ليتوقع شر ما يتمناه المرء إذا كان ذلك صدقا، فيقول: إن كان هذا هو الحق وحده ولا حق سواه، فخير لنا أن تنزل علينا حجارة من السماء أو تأتنا بعذاب أليم من جنس هذا العذاب، فهو ينكر أولا، ويعده شر الأحوال ثانيا، ويصر عن إنكاره، ولو بدت دلائل الحق ثالثا.
وفي ذلك فوق هذا الجحود الذي لا حد له سخرية وتهكم، وأنه يستحيل في نظره أن يكون حقا. وهنا إشارتان بيانيتان رائعتان:
الأولى – قولهم: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ}، فيها قصر الحق على هذا، وهو التوحيد، والإيمان بما جاب به محمد صلى اله عليه وآله وسلم، فالإنكار واقع على قصر الحق، وكأنهم يريدون أن يكون ما هم عليه حقا وهو الباطل الذي لا ريب فيه.
الإشارة الثانية – أنهم يقولون في الجواب المترتب على هذا الشرط، {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء}، فذكر السماء؛ لأنه المناسب للإمطار، وليكون أشد؛ لأنه يكون حجارة تنصب على الرؤوس انصبابا كانصباب الماء، ولأنه كما قال الزمخشري، يكون سجيلا، كالحجارة التي نزلت بأصحاب الفيل، التي حمى الله تعالى بها بيته الحرام من أبرهة الذي أراد هدم البيت.
وإن ذلك النص السامي، كما هو أقصى الجحود والتهكم هو أقصى ما يدل على الحمق والجهل...