6- فيا أيها المؤمنون ، إذا أردتم القيام إلى الصلاة ولم تكونوا متوضئين ، فتوضأوا بغسل وجوهكم وأيديكم مع المرافق ، وامسحوا رءوسكم - كلها أو بعضها - واغسلوا أرجلكم مع الكعبين . وإن كنتم جنباً عند القيام إلى الصلاة بسبب ملامسة أزواجكم ، فاغسلوا جميع أبدانكم بالماء ، وأن كنتم مرضى مرضاً يمنع من استعمال الماء ، أو كنتم مسافرين يتعسر عليكم وجود الماء ، أو عند رجوعكم من مكان قضاء الحاجة ، أو لامستم النساء ولم تجدوا ماء ، فعليكم بالتيمم بالتراب الطهور ، بمسح وجوهكم وأيديكم به . ما يريد الله فيما أمركم به أن يضيق عليكم ، ولكنه شرع ذلك لتطهيركم ظاهراً وباطناً وليتم نعمه عليكم بالهداية والبيان والتيسير ، لتشكروا الله على هدايته وتمام نعمته بالمداومة على طاعته{[50]} .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } . أي : إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] أي : إذا أردت القراءة وظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء عند كل مرة يريد القيام إلى الصلاة ، لكن علمنا ببيان السنة ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من الآية : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) . وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد .
أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنيفي ، أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري ، أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حكيم ، أنا أبو الموجه أنا عبدان ، أنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات الخمس بوضوء واحد ، ومسح على خفيه .
وقال زيد بن أسلم : معنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم . وقال بعضهم : هو أمر على طريق الندب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارتها وإن كان على طهر ، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات ) .
وروي عن عبد الله بن حنظلة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة ، طاهراً أو غير طاهر ، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة .
وقال بعضهم : هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ، فإن له أن يفعل بعد الحدث ما له من الأفعال غير الصلاة .
أخبرنا أبو القاسم الحنفي ، أنا أبو الحارث الطاهري ، أنا الحسن بن محمد بن حكيم ، أنا أبو الموجه ، أنا صدقة ، أنا ابن عيينة ، عن عمرو ابن دينار سمع سعيد بن الحويرث ، سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجع من الغائط ، فأتي بطعام ، فقيل له : ألا تتوضأ ؟ فقال : لم أصلي فأتوضأ . قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } . وحد الوجه من منابت شعر الرأس ، إلى منتهى الذقن طولاً ، وما بين الأذنين عرضاً ، يجب غسل جميعه في الوضوء ، ويجب أيضاً إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين ، وأهداب العينين ، والشارب ، والعذار ، والعنفقة . وإن كانت كثيفة وأما العارض واللحية ، فإن كانت كثيفة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء ، بل يجب غسل ظاهرها . وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذقن ؟ فيه قولان : أحدهما : لا يجب . وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه ، كذلك النازل عن حد الوجه في وجوب غسله . والقول الثاني : يجب إمرار الماء على ظاهره ، لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه ، والوجه ما يقع به المواجهة من هذا العضو ، ويقال في اللغة : بقل وجه فلان ، وخرج وجهه ، إذا نبتت لحيته .
قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } . أي : مع المرافق ، كما قال الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] أي : مع أموالكم ، وقال : { من أنصاري إلى الله } [ آل عمران : 52 ] وسورة [ الصف : 14 ] ، أي : مع الله . وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين ، وفي الرجل يجب غسل الكعبين ، وقال الشعبي ، ومحمد بن جرير : لا يجب غسل المرفقين والكعبين في غسل اليد والرجل ، لأن حرف " إلى " للغاية والحد ، فلا يدخل في المحدود ، قلنا : ليس هذا بحد ولكنه بمعنى " مع " كما ذكرنا . وقيل : الشيء إذا حد إلى جنسه يدخل فيه الغاية ، وإذا حد إلى غير جنسه لا يدخل . كقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] ، لم يدخل الليل فيه لأنه ليس من جنس النهار . قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } . اختلف العلماء في قدر الواجب من مسح الرأس ، قال مالك : يجب مسح جميع الرأس كما يجب مسح جميع الوجه في التيمم ، وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرأس ، وعند الشافعي رحمه الله : يجب قدر ما يطلق عليه اسم المسح . واحتج من أجاز مسح بعض الرأس مما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا يحيى بن حسان ، عن حماد بن زيد و ابن علية ، عن أيوب السختياني عن ابن سيرين ، عن عمرو بن وهب الثقفي ، عن المغيرة بن شعبة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته ، وعلى عمامته وخفيه ، فأجاز بعض أهل العلم المسح على العمامة بهذا الحديث ، وبه قال الأوزاعي وأحمد ، وإسحاق . ولم يجوز أكثر أهل العلم المسح على العمامة بدلاً من مسح الرأس . وقال في حديث المغيرة : إن فرض المسح سقط عنه بمسح الناصية ، وفيه دليل على أن مسح جميع الرأس غير واجب .
قوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } . قرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، ويعقوب ، وحفص ، ( وأرجلكم ) بنصب اللام ، وقرأ الآخرون ( وأرجلكم ) بالخفض ، فمن قرأ ( وأرجلكم ) بالنصب ، فيكون عطفاً على قوله : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } أي : واغسلوا أرجلكم ، ومن قرأ بالخفض ، فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنه يمسح على الرجلين . وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ، ومسحتان . ويروى ذلك عن عكرمة ، و قتادة . وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح ، قال : ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلاً ، ويلغي ما كان مسحاً ؟ وقال محمد بن جرير الطبري : يتخير المتوضئ بين المسح على الخفين ، وبين غسل الرجلين . وذهب جماعة من أهل العلم من الصحابة ، والتابعين ، وغيرهم : إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ ، لا على موافقة الحكم . كما قال تبارك وتعالى : { عذاب يوم أليم } فالأليم صفة العذاب ، ولكنه أخذ إعراب اليوم للمجاورة ، وكقولهم : " جحر ضب خرب " فالخرب نعت للحجر ، وأخذ إعراب الضب للمجاورة . والدليل على وجوب غسل الرجلين ما أخبرنا أبو سعيد أحمد ابن محمد بن العباس الحميدي الخطيب ، أنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، أنا يحيى بن محمد بن يحيى ، أنا الحجي ومسدد قالا : أخبرنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ، صلاة العصر ، ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادانا بأعلى صوته : " ويل للأعقاب من النار " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله ، أنا معمر ، حدثني الزهري ، عن عطاء بن زيد ، عن حمران مولى عثمان رضي الله عنه قال : أن عثمان رضي الله عنه توضأ ، فأفرغ على يديه ثلاثاً ، ثم تمضمض واستنشق ، واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً ، ثم غسل يده اليسرى إلى المرافق ثلاثاً ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ، ثم اليسرى ثلاثاً ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : " من توضأ وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين ، لا يحدث نفسه فيهما بشيء ، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقال بعضهم : أراد بقوله { وأرجلكم } المسح على الخفين كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه ، وليس المراد منه أنه لم يكن بينهما حائل ، ويقال : قبل فلان رأس الأمير ويده ، وإن كان العمامة على رأسه ، ويده في كمه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو نعيم أنا زكريا عن عامر ، عن عروة ، ابن المغيرة ، عن أبيه رضي الله عنهما قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال : أمعك ماء ؟ فقلت : نعم ، فنزل عن راحلته ، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ، ثم جاء ، فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ويديه ، وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة ، فغسل ذراعيه ، ثم مسح برأسه ، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما ، فإني أدخلتهما طاهرتين ، فمسح عليهما .
قوله تعالى : { إلى الكعبين } . فالكعبان هما العظمان الناتئان من جانب القدمين ، وهما مجمع مفصل الساق والقدم ، فيجب غسلهما مع القدمين كما ذكرنا في المرفقين . وفرائض الوضوء : غسل الأعضاء الثلاثة كما ذكر الله تعالى ، ومسح الرأس ، واختلف أهل العلم في وجوب النية : فذهب أكثرهم إلى وجوبها ، لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العبادات ، وذهب بعضهم إلى أنها غير واجبة ، وهو قول الثوري ، واختلفوا في وجوب الترتيب ، وهو أن يغسل أعضاءه على الولاء كما ذكر الله تبارك وتعالى ، فذهب جماعة إلى وجوبه ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق رحمهم الله ، ويروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه . واحتج الشافعي بقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ، [ البقرة : 158 ] وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا ، وقال : ( نبدأ بما بدأ الله به ) ، وكذلك هاهنا ، بدأ الله تعالى بذكر غسل الوجه فيجب علينا أن نبدأ فعلاً بما بدأ الله تعالى بذكره . وذهب جماعة إلى أن الترتيب سنة ، وقالوا الواوات المذكورة في الآية للجمع لا للترتيب ، كما قال الله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } [ التوبة : 60 ] الآية ، واتفقوا على أنه لا تجب مراعاة الترتيب في صرف الصدقات إلى أهل السهمين ، ومن أوجب الترتيب أجاب بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه راعى الترتيب بين أهل السهمين ، وفي الوضوء لم ينقل أنه توضأ إلا مرتباً كما ذكر الله تعالى ، وبيان الكتاب يؤخذ من السنة كما قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] ، لما قدم ذكر الركوع على السجود ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك ، فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة ، كذلك الترتيب هنا .
قوله تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } ، أي : اغتسلوا .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة ، بدأ فغسل يديه ، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ، ثم يفيض الماء على جلده كله .
قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ، فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب .
قوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم } ، بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم .
قوله تعالى : { من حرج } ، ضيق .
قوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } ، من الأحداث والجنابات والذنوب .
قوله تعالى : { وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } . قال محمد بن كعب القرظي : إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء . كما قال الله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] ، فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن حمران : أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ، ويديه ، ورجليه .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن حمران مولى عثمان ، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جلس على المقاعد يوماً ، فجاءه المؤذن فآذنه بصلاة العصر ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم قال : والله لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ، ثم قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من امرئ مسلم يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها } .
قال مالك : أراه يريد هذه الآية { أقم الصلاة لذكري } ، ورواه ابن شهاب ، وقال عروة : الآية { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } . [ البقرة : 159 ] .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا يحيى بن بكير ، أنا الليث ، عن خالد عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المجمر قال : رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد ، فتوضأ ، ثم قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع أن يطيل منكم غرته فليفعل ) .
{ 6 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ْ }
هذه آية عظيمة قد اشتملت على أحكام كثيرة ، نذكر منها ما يسره الله وسهله .
أحدها : أن هذه المذكورات فيها امتثالها والعمل بها من لوازم الإيمان الذي لا يتم إلا به ، لأنه صدرها بقوله { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ْ } إلى آخرها . أي : يا أيها الذين آمنوا ، اعملوا بمقتضى إيمانكم بما شرعناه لكم .
الثاني : الأمر بالقيام بالصلاة لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ }
الثالث : الأمر بالنية للصلاة ، لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ } أي : بقصدها ونيتها .
الرابع : اشتراط الطهارة لصحة الصلاة ، لأن الله أمر بها عند القيام إليها ، والأصل في الأمر الوجوب .
الخامس : أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت ، وإنما تجب عند إرادة الصلاة .
السادس : أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة ، من الفرض والنفل ، وفرض الكفاية ، وصلاة الجنازة ، تشترط له الطهارة ، حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء ، كسجود التلاوة والشكر .
السابع : الأمر بغسل الوجه ، وهو : ما تحصل به المواجهة من منابت شعر الرأس المعتاد ، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا . ومن الأذن إلى الأذن عرضا .
ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق ، بالسنة ، ويدخل فيه الشعور التي فيه . لكن إن كانت خفيفة فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة ، وإن كانت كثيفة اكتفي بظاهرها .
الثامن : الأمر بغسل اليدين ، وأن حدهما إلى المرفقين و " إلى " كما قال جمهور المفسرين بمعنى " مع " كقوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ْ } ولأن الواجب لا يتم إلا بغسل جميع المرفق .
العاشر : أنه يجب مسح جميعه ، لأن الباء ليست للتبعيض ، وإنما هي للملاصقة ، وأنه يعم المسح بجميع الرأس .
الحادي عشر : أنه يكفي المسح كيفما كان ، بيديه أو إحداهما ، أو خرقة أو خشبة أو نحوهما ، لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة ، فدل ذلك على إطلاقه .
الثاني عشر : أن الواجب المسح . فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم يكف ، لأنه لم يأت بما أمر الله به .
الثالث عشر : الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين ، ويقال فيهما ما يقال في اليدين .
الرابع عشر : فيها الرد على الرافضة ، على قراءة الجمهور بالنصب ، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين .
الخامس عشر : فيه الإشارة إلى مسح الخفين ، على قراءة الجر في { وأرجلكم ْ }
وتكون كل من القراءتين ، محمولة على معنى ، فعلى قراءة النصب فيها ، غسلهما إن كانتا مكشوفتين ، وعلى قراءة الجر فيها ، مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف .
السادس عشر : الأمر بالترتيب في الوضوء ، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة .
ولأنه أدخل ممسوحا -وهو الرأس- بين مغسولين ، ولا يعلم لذلك فائدة غير الترتيب .
السابع عشر : أن الترتيب مخصوص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية .
وأما الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه ، أو بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين ، فإن ذلك غير واجب ، بل يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه ، وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين والرجلين ، وتقديم مسح الرأس على مسح الأذنين .
الثامن عشر : الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة ، لتوجد صورة المأمور به .
التاسع عشر : الأمر بالغسل من الجنابة .
العشرون : أنه يجب تعميم الغسل للبدن ، لأن الله أضاف التطهر للبدن ، ولم يخصصه بشيء دون شيء .
الحادي والعشرون : الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة .
الثاني والعشرون : أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر ، ويكفي من هما عليه أن ينوي ، ثم يعمم بدنه ، لأن الله لم يذكر إلا التطهر ، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء .
الثالث والعشرون : أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناما ، أو جامع ولو لم ينزل .
الرابع والعشرون : أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللا ، فإنه لا غسل عليه ، لأنه لم تتحقق منه الجنابة .
الخامس والعشرون : ذكر مِنَّة الله تعالى على العباد ، بمشروعية التيمم .
السادس والعشرون : أن من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره غسله بالماء ، فيجوز له التيمم .
السابع والعشرون : أن من جملة أسباب جوازه ، السفر والإتيان من البول والغائط إذا عدم الماء ، فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به ، وباقيها يجوزه العدم للماء ولو كان في الحضر .
الثامن والعشرون : أن الخارج من السبيلين من بول وغائط ، ينقض الوضوء .
التاسع والعشرون : استدل بها من قال : لا ينقض الوضوء إلا هذان الأمران ، فلا ينتقض بلمس الفرج ولا بغيره .
الثلاثون : استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به{[255]} لقوله تعالى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ ْ }
الحادي والثلاثون : أن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض للوضوء .
الثاني والثلاثون : اشتراط عدم الماء لصحة التيمم .
الثالث والثلاثون : أن مع وجود الماء ولو في الصلاة ، يبطل التيمم لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء .
الرابع والثلاثون : أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء ، فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه ، لأنه لا يقال " لم يجد " لمن لم يطلب .
الخامس والثلاثون : أن من وجد ماء لا يكفي بعض طهارته ، فإنه يلزمه استعماله ، ثم يتيمم بعد ذلك .
السادس والثلاثون : أن الماء المتغير بالطاهرات ، مقدم على التيمم ، أي : يكون طهورا ، لأن الماء المتغير ماء ، فيدخل في قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ْ }
السابع والثلاثون : أنه لا بد من نية التيمم لقوله : { فَتَيَمَّمُوا ْ } أي : اقصدوا .
الثامن والثلاثون : أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره . فيكون على هذا ، قوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ْ } إما من باب التغليب ، وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين ، وإما أن يكون إرشادا للأفضل ، وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فهو أولى .
التاسع والثلاثون : أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس ، لأنه لا يكون طيبا بل خبيثا .
الأربعون : أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط ، دون بقية الأعضاء .
الحادي والأربعون : أن قوله : { بِوُجُوهِكُمْ ْ } شامل لجميع الوجه وأنه يعممه{[256]} بالمسح ، إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف ، وفيما تحت الشعور ، ولو خفيفة .
الثاني والأربعون : أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط ، لأن اليدين عند الإطلاق كذلك .
فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده الله بذلك ، كما قيده في الوضوء .
الثالث والأربعون : أن الآية عامة في جواز التيمم ، لجميع الأحداث كلها ، الحدث الأكبر والأصغر ، بل ولنجاسة البدن ، لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء ، وأطلق في الآية فلم يقيد [ وقد يقال أن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في الأحداث وهو قول جمهور العلماء ]{[257]}
الرابع والأربعون : أن محل التيمم في الحدث الأصغر والأكبر واحد ، وهو الوجه واليدان .
الخامس والأربعون : أنه لو نوى مَنْ عليه حدثان التيمم عنهما ، فإنه يجزئ أخذا من عموم الآية وإطلاقها .
السادس والأربعون : أنه يكفي المسح بأي شيء كان ، بيده أو غيرها ، لأن الله قال { فامسحوا ْ } ولم يذكر الممسوح به ، فدل على جوازه بكل شيء .
السابع والأربعون : اشتراط الترتيب في طهارة التيمم ، كما يشترط ذلك في الوضوء ، ولأن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين .
الثامن والأربعون : أن الله تعالى -فيما شرعه لنا من الأحكام- لم يجعل علينا في ذلك من حرج ولا مشقة ولا عسر ، وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم ، وليتم نعمته عليهم .
وهذا هو التاسع والأربعون : أن طهارة الظاهر بالماء والتراب ، تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد ، والتوبة النصوح .
الخمسون : أن طهارة التيمم ، وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة ، فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى .
الحادي والخمسون : أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحِكَم والأسرار في شرائع الله ، في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلما ، ويزداد شكرا لله ومحبة له ، على ما شرع من الأحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة .
وبعد أن بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على عباده فيما يتعلق بمطاعمهم . وفي ما يتعلق بما يحل لهم من النساء . أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم فيما يتعلق بعبادتهم التي من أهمها الوضوء ، والغسل . والصلاة . وأمرهم بالمحافظة على شرعه لهم من شرائع وأحكام فقال - تعالى - :
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - افتتح السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية .
فقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } طلب الله - تعالى - من عباده أن يفوا بعهد العبودية . فكأنما قيل : يا إلهنا العهد نوعان : عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإِحسان . فقال - تعالى - : نعم أنا أوفى أولا بعهد الربوبية والكرم .
معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا بالوفاء بعهد الربوبية والكرم .
معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية .
ولما كان أعظم الطاعات بعد الإِيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ - سبحانه - بذكر فرائض الوضوء فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } .
والمراد بالقيام إلى الصلاة إرادة القيام إليها ، والتهيؤ للدخول فيها من باب إطلاق المسبب وإرادة المسبب ، للإيجاز وللتنبيه على أن الشأن في المؤمنين أن يكونوا دائماً على ذكر من إرادتها ودم الإِهمال في أدائها .
وإنما قلنا المراد بالقيام إلى الصلاة إرادتها لأنه لو بقي الكلام على حقيقته للزم تأخير الوضوء عن الصلاة ، وهذا باطل بالإجماع .
وليس المراد بالقيام انتصاب القامة أو ما يشبه ذلك ، بل المراد به الاشتغال بأفعال الصلاة وأقوالها وكل ما يتعلق بذاتها .
قال الآلوسي ما ملخصه : وظاهر الآية يفيد وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم { الذين آمَنُواْ } من غير اختصاص بالمحدثين . لكن الإِجماع على خلاف ذلك ، فقد أخرج مسلم وغيره " أن النبي صلى الله عليه سلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد . فقال له عمر : يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه . فقال صلى الله عليه وسلم : " عمداً فعلته يا عمر " " .
يعني : بيانا للجواز . فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة ، والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون بقرينة دلالة الحال .
ولأنه اشتراط الحدث في البدل وهو التيمم ، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا .
وقوله - تعالى - { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } صريح في البدلية .
ويحكى عن داود الظاهري أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يتوضأون لكل صلاة ، ورد بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب وقد ورد : " من توضأ على طهر كتب الله - تعالى - له عشر حسنات " .
وقوله : { فاغسلوا } من الغسل وهو إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه وزاد بعضهم : مع الدلك .
وقوله : { وُجُوهَكُمْ } جمع وجه . وهو مأخوذ من المواجهة .
وحد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضاً .
والمرافق : جمع مرفق - كمنبر ومجلس - وهو ملتقى عظم العضد بعظم الذراع .
والكعبين : تثنية كعب . وهما الجزءان البارزان في أعلى القدم .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون حدثا أصغر ، فاغسلوا وجوهكم ، أي : فأسيلوا الماء على وجوهكم ، وأسيلوه أيضاً على أيديكم إلى المرافق وامسحوا بأيديكم المبللة بالماء رءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .
وهنا توسع الفقهاء وبعض المفسرين في ذكر مسائل تتعلق بهذه الآية نرى من الواجب الالمام بأهمها فنقول :
أولا : أخذ جمهور الفقهاء من قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا } إلخ أن الوضوء لابد فيه من القصد إليه وإرادته لأجل الصلاة لا لأجل أي شيء آخر كالنظافة وغيرها مما يشبهها ، وذلك لأن الوضوء عمل من الأعمال التي يقصد بها المسلم الطاعة لله ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيات " وعليه تكون النية ركنا من أركان الوضوء ، فإذا لم يقصد بوضوئه إرادة الصلاة وابتغاء رضاء الله ، لم تكن صلاته بهذا الوضوء صحيحة .
وقال الأحناف : إن النية في الوضوء ليست بفرض . لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة لذاتها .
وإنما هو وسيلة لغيره وهو الصلاة ، والنية إنما هي شرط في العبادة نفسها وهي الصلاة باعتبارها المقصد ، وليست شرطاً في الوسيلة وهي الوضوء .
وعليه فالوضوء يتحقق بغسل ما يجب غسله من الأعضاء المعروفة ، ومسح ما يجب مسحه منها ، وللمسلم أن يصلي بهذا الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل . قالوا : ومما يشهد بأن الوضوء وسيلة لعبادة ظاهر قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } فإنه يدل على أن الصلاة هي المقصودة وهي الغاية أما الوضوء فقد شرع ليكون سبيلا إليها .
ثانيا : قوله { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } اتفق الفقهاء على وجوب غسل الوجه إلا أنهم اختلفوا في دخول المضمضة والاستنشاق فيه .
فجمهور الفقهاء اتفقوا على أنهما لا يدخلان في غسل الوجه ، بل هما سنتان كان يفعلهما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل غسل الوجه .
وقال بعض الفقهاء : المضمضمة والاستنشاق داخلان في الغسل .
ثالثاً : أخذ كثير من الفقهاهء من قوله - تعالى - { إِلَى المرافق } . . و { إِلَى الكعبين } أن المرافق داخله مع اليدين في وجوب الغسل ، وأن الكعبين داخلان مع الرجلين في وجوب الغسل .
قالوا : لأن { إلى } هنا بمعنى مع ، ولأن بعض علماء اللغة وعلى رأسهم سيبوية قد قرروا أن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها دخل في الحد ، وإذا لم يكن من نوعه لم يدخل . وهنا ما بعد إلى من نوع ما قبلها فوجب دخوله في الحد .
ولأن جعل ما قبل المرفقين حدا ، لا يصلح أن يكون علامة واضحة على ذلك ، ومن شأن العلامات أن تكون واضحة وهذا لا يتأتى إلا بغسل المرفقين والكعبين .
وفضلا عن كل ذلك فالمعروف من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل المرفقين والكعبين .
قال القرطبي : وهذا هو الصحيح لما رواه الدارقطني عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه " .
ويرى بعض الفقهاء أن غسل المرفقين والكعبين مستحب ، لأن الغاية من قوله : { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } تحتمل أن تدخل المرافق والكعبين في الوجوب وتحتمل عدم الدخول ، ولا وجوب مع الاحتمال .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المسألة بقوله : قوله { إِلَى المرافق } تفيد معنى الغاية مطلقا . فأما دخولها في الحكم وخروجها ، فأمر يدور مع الدليل . فمما فيه دليل على الخروج قوله : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } لأن الإِعسار علة الإِنظار . وبوجود الميسرة تزول العلة . ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسراً وموسراً . وكذلك { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } لو دخل الليل لوجب الوصال في الصوم . ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظة القرآن من أوله إلى آخره - لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله . ومنه قوله - تعالى - : { مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } لوقووع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله .
وقوله { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل . وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها . " وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه " .
رابعا : أجمع الفقهاء على أن مسح الرأس من أركان الوضوء ، لقوله - تعالى - { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } إلا أنهم اختلفوا في مقدار المسح .
فال المالكية : يجب مسح جميع الرأس أخذا بالاحتياط ، وتبعهم في ذلك الحنابلة .
وقال الشافعية : يكفى مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين وقال الحنفية : يفترض مسح ربع الرأس .
ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء زائدة أو أصلية . فقال المالكيبة والحنابلة إن الباء كما تكون أصلية تكون - أيضاً - زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول واعتبارها هنا زائدة أولى ، لأن التركيب حينئذ يدل على مسح جميع الرأس ، ويكون البعض داخلا في ذلك .
وقال الأحناف والشافعية الباء هنا للتبعيض ، إلا أن البعض لم يقدره الشافعية بمقدار معين ، وقدره الأحناف بمقدار ربع الرأس أخذا من حديث المغيرة بن شعبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته " قالوا : والناصية تساوي ربع الرأس .
قال بعض العلماء : والسنة الصحيحة وردت بالبيان . وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقص العمامة . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر . وهذه هي التي استمر عليها صلى الله عليه وسلم فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي يداوم عليها . وهي مسح الرأس مقبلا ومدبراً . وإجراء غيرها في بعض الأحوال .
خامساً : قوله تعالى { وَأَرْجُلَكُمْ } وردت فيه قراءتان متواترتان .
إحداهما : بفتح اللام وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص الكسائي ويعقوب .
والثانية : بكسر اللام وهي قراءة الباقين .
أما قراءة النصب فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على قوله { وُجُوهَكُمْ } أو هو منصوب بفعل مقدر أي : وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .
وأما قراءة الجر فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على { بِرُؤُوسِكُمْ } .
قال القرطبي ما ملخصه : فمن قرأ بالنصب جعل العامل " اغسلوا " وبنى على ذلك أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح . وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم واللازم من قوله في غير ما حديث . وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته . " ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء " ثم إن الله حدهما فقال : { إِلَى الكعبين } كما قال في اليدين { إِلَى المرافق } فدل على وجوب غسلهما .
ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء . فقال ابن العربي : اتفقت العلماء على وجوب غسلهما ، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم . وتعلق الطبري بقراءة الخفض - أي قال بمسح الرجلين .
ثم قال : وقد قيل : إن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } بقراءة الخفض - معطوف على اللفظ دون المعنى - أي لفظ الرءوس - وهذا أيضاً يدل على الغسل ، فإن المراعي المعنى لا اللفظ وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب . وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال - تعالى - { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } بالجر لأن النحاس هو الدخان .
ثم قال : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين السغل ما قدمناه ، وما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم
" ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " فخوفنا ذكر النار على مخالفة مراد الله . ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب . ومعلوم أن المسح ليس من شأنه الاستيعاب . ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما فتبين بهذا الحديث بطلان من قال بالمسح . إذ لا مدخل بطونهما عندهم ، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح .
ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما . وحسبك بهذا احجة في الغسل مع ما بيناه فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح وأن العامل في قوله و { وَأَرْجُلَكُمْ } وقوله { فاغسلوا } والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما . تقول : أكلت الخبز واللبن . أي : وشربت اللبن .
وقد عقد الإِمام ابن كثير فصلا أورد فيه - عند تفسيره لهذه الآية - كثيراً من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين ، وجعل عنوانه : " ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لابد منه " .
ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين والسنن عن عثمان وعلى ابن عباس . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة ، وإما مرتين أو ثلاثاً . على اختلاف رواياتهم .
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .
وعن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجْلَ رَجل مثل الدرهم لم يغسله فقال : " ويل للأعقاب من النار " .
ثم قال ابن كثير : ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة . وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنه يجوز ذلك لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل . بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف .
ويرى الزمخشري أن قراءة الجر في قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } محمولة في المعنى على النصب ويكون السبب في عطفها على الرءوس المجرورة ، للإشارة إلى وجوب عدم الإِسراف في الماء . فقد قال : فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح ؟ قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها : فكانت مظنة للإِسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث المسموح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها .
وقد وضح هذا المعنى الشيخ ابن المنير بقوله : لم يوجه الزمخشري قراءة الجر بما يشفي الغليل . والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما مساس بالعضو ، فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم ، كقوله : متقلداً سيفاً ورمحاً .
وعلفتها تبنا وماء باردا . ونظائره كثيرة .
ثم يقال : ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب ؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة ؟ فيقال : فائدته الإِيجاز والاختصار . وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا : واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد ، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح ، ونبه بهذا التشريك - الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جداً . على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح . وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة وهذا تقرير كامل لهذا المقصود .
هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء سواء أكانت القراءة بالنصب أم بالجر . وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطا موسعا فليرجع إليها من شاء .
سادساً : أخذ الأحناف من هذه الآية الكريمة أن أركان الوضوء هي هذه الأربعة فحسب أي : غسل الوجه ، واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين إلى الكعبين .
وقد أضاف جمهور الفقهاء إلى ذلك النية - كما سبق أن أشرنا - كما أضافوا الترتيب بين الأركان بحيث يغسل الوجه أولا ثم اليدان ثم من بعدهما مسح الرأس ، ثم غسل الرجلين ، لأن هذه الأركان قد ذكرت بهذا الترتيب في القرآن فيجب التزامه . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالف هذا الترتيب ولو مرة واحدة فوجب اتباع ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم .
وقال الأحناف : الترتيب ليس فرضاً ، لأن العطف بين الأركان بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا .
كذلك أضاف بعض الفقهاء إلى أركان الوضوء الموالاة بمعنى أن يواصل المتوضئ الاشتغال بوضوئه ولا ينقطع عنه . وذهب بعضهم إلى أن ذلك سنة .
والذي تطمئن إليه النفس أن المتوضئ إذا انقطع وضوؤه بعمل أجنبي لمدة جفت معها أعضاء الوضوء وجب عليه استئناف الوضوء مبتدئأ بأوله . أما إذا قطع المتوضئ وضوء لفترة قصيرة بحيث بقيت آثار الوضوء ظارهة فإنه في هذه الحالة يجوز له الاستمرار فيه .
تلك هي بعض المسائل التي رأينا أن نتكلم عنها بإيجاز بمناسبة حديثنا عن هذه الآية الكريمة وهناك مسائل أخرى تتعلق بها تكفلت كتب الفروع بتفصيلها . وقد انتقلت الآية الكريمة بعد حديثها عن الوضوء إلى الحديث عن الاغتسال وموجبة فقال - تعالى - { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } .
والجنب من أصابته الجنابة بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما مما تتحقق معه الجنابة . وكلمة جنب من الألفاظ التي يستوي فيها الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث لجريانها مجرى المصدر ، فيقال : رجل جنب ، وامرأة جنب ، وهما جنب ، ورجال ونساء جنب . . واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة ، لأن الجنابة معنى شرعي يستلزم من السملم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يتطهر .
وقوله { فاطهروا } أصله فتطهروا فأدغمت التاء في الطاء فسكنت فأتى بالهمزة .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم الدخول في الصلاة فعليكم أن تتوضئوا قبل دخولكم فيها بأن تغسلوا وجوهكم وتغسلوا أيديكم إلى المرافق ، وتمسحوا برؤوسكم . وتغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، هذا إذا كنتم محدثين حدثاً أصغر وأردتم الصلاة أما إذا كنتم محدثين حدثا أكبر ، بأن كنتم جنبا بسبب خروج منى أو التقاء ختانين وأردتم الدخول في الصلاة فعليكم في هذه الحالة أن تتطهروا . أي : تغسلوا بالماء جميع بدنكم . لأن الأمر بالتطهر لما لم يتعلق بعضو دون عضو ، كان أمراً شاملا لتطهير جميع البدن ، بدليل أن الوضوء لما تعلق بعضو دون عضو نص الله - تعالى - في الآية على تلك الأعضاء التي أوجب غسلها .
وإنما حملت الطهارة هنا على الطهارة بالماء لأن الماء هو الأصل كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى - { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ولأنه - سبحانه - قد ذكر بعد هذه الحملة ما يحل محل الماء عند فقده .
والتعبير بقوله { فاطهروا } فيه إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء على الجسد كله ، وإيماء إلى أن النجاسة المعنوية قد عمت كل أجزاء الجسم ، فوجب أن تكون الطهارة عامة لكل أجزاء الجسم ولا شك أن الاغتسال بعد الجنابة أو الحيض أو النفاس فيه انتعاش الجسم بعد أن أصابه التعب والإِنهاك ، وفيه كذلك طهارة نفسية ، لأنه يبعث في الإِنسان حسن الاستعداد لذكر الله ، ولأداء تكاليفه .
قال الفخر الرازي : والدلك غير واجب في الغسل . وقال مالك : الدلك واجب وحجة غيره أن قوله { فاطهروا } أمر بتطهير البدن وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك . ثم قال : والشافعي قال : المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل - ومثله في ذلك الإِمام مالك .
وقال أبو حنيفة - والحنابلة - هما : واجبان لأن الآية تقول { فاطهروا } وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم . وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس ، ما عدا الأجزاء الباطنة التي لا يمكن تطهيرها . وداخل الفم والأنف يمكن تطيرهما . فوجب بقاؤهما تحت النص . ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " بلوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة " فقوله " بلوا الشعر " يدخل فيه الأنف . لأن داخله شعر . وقوله " وأنقوا البشرة " يدخل في الجلدة التي داخل الفم . وحجة الشافعي - ومالك قوله صلى الله عليه وسلم أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مجلس جماعة من أصحابه كانوا يتحدثون أمامه في أمر الغسل ، وكل يبين ما يعمله .
ثم شرع - سبحانه - في بيان الأعذار التي تبيح التيمم من أجل الطهارة عند العجز عن استعمال الماء فقال - تعالى - : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } .
والمراد بالمرضى في قوله - تعالى - { وَإِن كُنتُم مرضى } المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقاً كأن يكون اسعمال الماء يزيد المرض شدة ، أو يبطئ البرء .
وقوله { أَوْ على سَفَرٍ } في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله مرضي وليس المراد بالسفر هنا سفر القصر ، وإنما المراد السير خارج العمران سواء أوصل المسافر إلى مسافة القصر أم لا ، بخلافة في قوله - تعالى - في سورة البقرة : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فإن المراد به هناك سفر القصر ، إنما قيد الأمر هنا بالسفر مع أن المنظور إليه عدم الماء لأن السفر هو الذي يغلب فيه عدم الماء بخلاف الحضر ولو فرض عدم الماء في الحضر وجب التيمم على المحدث عند إرادة الصلاة عند الحنفية والمالكية والشافعية .
وقوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط } معطوف على ما قبله والغائط : من الغيط وهو المكان المنخفض من الأرض . وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس .
وفي إسناد المجيء إلى واحد من مبهم من المخاطبين ، سمو في التعبير . حيث تحاشى - سبحانه - التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو يستهجن التصريح به . وفي ذلك ما فيه من تعليم الناس الأدب في الخطاب ، والبعد عن الألفاظ التي تخدش الحياء ، ويمجها الذوق السليم .
والمراد بالملامسة في قوله تعالى { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } الجماع : فهو هنا كناية عما يكون بين الرجل والمرأة مما يوجب الاغتسال : وهي كناية قرآنية أراد - سبحانه - أن يعلم الناس منها حسن التعبير ، والبعد عن الألفاظ التي تتنافى مع آداب الإِسلام وتعاليمه السامية .
وإلى هذا الرأي اتجه كثير من الصحابة ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو موسى .
وتبعهم في ذلك كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والثوري فقد قالوا : لا ضوءو على من مس امرأة سواء أكان المس بشهوة أو بدونها . واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل نساءه ثم يصلي ولم يتوضأ وكان يقبلهن وهو صائم .
واستدلوا - أيضاً - بأن ظاهر مادة المفاعلة يكون في الفعل من الجانبين مقصوداً ، وذلك إنما يتأتى في الجماع دون اللمس باليد . وأيضاً فإن اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع كما في قوله - تعالى -
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } ويرى جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود أن المراد بالملامسة هنا اللمس باليد ، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء .
وقد سار الإِمام الشافعي على هذا الرأي فقال : إذا مس جسدها فعليه الوضوء سواء أكان المس بشهوة أم بغير شهوة .
ومن أدلته أن اللمس حقيقة في المس باليد ، وهو في الجماع مجاز أو كناية ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة ويرى الإِمام مالك أن اللمس إن كان بشهوة وتلذذ فعليه الوضوء ، وكاذا إذا مسته بشهوة وتلذذ ، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليهما .
وقد انتصر كل فريق لرأيه بصورة أوسع من ذلك في كتب الفروع . والذي نراه أولى بالصواب في هذ المسألة ما قاله الإِمام مالك - رحمه الله - لأنه بني رأيه على وجود الشهوة وعدمها . والفاء في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله { وَإِن كُنتُم مرضى } .
والضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ } يعودل لكل ما تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس وفيه تغليب للخطاب على الغيبة .
والمراد بعدم الوجدان في قوله هنا { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } ما هو أعم من الوجود الحسي أي : أن قوله : " فلم تجدوا ماء " كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا ، إذ أن الشيء المتعذر استعماله هو والمعدوم سواء .
وقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } جواب الشرط وهو قوله : { وَإِن كُنتُم مرضى } .
والمعنى : وإن كنتم - أيها المؤمنون - في حالة مرض يحول بينكم وبين استعمال الماء أو كنتم مستقرين على سفر ؛ أو كنتم محدثين حدثاً أصغر أو أكبر ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء تستعملونه لطهارتكم ، ولأداء ما كلفكم الله به من تكاليف ، أو وجدتموه ولكن منعكم مانع من استعماله ، أو كنتم في حاجة ماسة إليه ، فعليكم في هذه الأحوال أن تتيمموا صعيداً طيبا بدلا من الماء ، فإن الله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين } ومنهم من يرى أن الضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } يعود إلى الجميع ما عدا المرضي ، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله . وعلى هذا الرأي يكون المراد بعدم الوجدان ، عدم الوجدان الحسي .
والتيمم لغة القصد . يقال تيممت الشيء إذا قصدته .
ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به .
وأما الصعيد - بوزن فعيل - فيطلق على وجه الأرض البارز ترابا كان أو غيره . وقيل يطلق على التراب فحسب .
والطيب : الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر .
وقوله : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } بيان لكيفية التيمم .
أي : إذا لم تجدوا ماء للتطهر به ، أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله ، فاقصدوا ترابا طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم .
وقد استدل بعض الفقهاء بقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } على أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر ، لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب .
ويرى بعض آخر أن التيمم يجوز التراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض . متى كان طاهراً . قالوا : لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض . وهذه الصفة لا تختص بالتراب .
قال القرطبي - بعد أن ذكر آراء الفقهاء في ذلك - " وإذا تقرر هذا فالعم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن تيمم الرجل على تراب طاهر غير منقول ولا مغصوب . ومكان الإِجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب والصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره " .
كما استدل الأحناف والشافعية بقوله - تعالى - { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } على أن التيمم المطلوب شرعا هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير . والعضوان هما الوجه واليدان إلى المرفقين ، فقد جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " التيمم ضربتان ضربة للوجه . وضربة للذراعين إلى المرفقين " .
ويرى الحنابلة والمالكية أن العضوين هما الوجه واليدين إلى الرسغين . هذا ، وقد تكلمنا عن هذه المسألة وغيرها بصورة أوسع عند تفسينا لقوله - تعالى - في سورة النساء : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان بعض مظاهر رحمته بعباده ، ورعايته لمصالحهم فقال - تعالى { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
أي : ما يريد الله - تعالى - بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ومن الغسل بعد الجنابة ، ومن الأمر بالتيمم عند وجود أسبابه ، ما يريد - سبحانه - بذلك { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي ضيق ومشقة وعسر ، ولكن يريد بذلك ليطهركم .
أي : ليطهر نفوسكم من الأرجاس الحسية والمعنوية وليزيل عنها ما علق بها من ذنوب وأوساخ ، ويريد بذلك أيضاً { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بما شرع لكم من أحكام ميسرة ومن آداب عالية ، ومن تكاليف جليلة لكي تشكروه على نعمه وإحسانه وتشريعاته ، لأنكم متى شكرتموه زادكم من فضله ومننه .
وعبر - سبحانه - عن نفي الحرج بنفي إرادته ، مبالغة في بيان رأفته - سبحانه - بعباده ، ورعايته لمصالحهم . فكأنه - سبحانه - يقول : ما كان من شأن الله - تعالى - مع عباده أن يشرع لهم ما فيه مشقة أو حرج .
وقوله { لِيَجْعَلَ } يحتمل أن يكون الجعل بمعنى الخلق والإِِيجاد فيتعدى لواحد وهو قوله : { مِّنْ حَرَجٍ } وتكون { من } زائدة لتأكيد النفي وقوله { عَلَيْكُم } متعلق بالجعل . ويحتمل أن يكون بمعنى التصير فيكون قوله { عَلَيْكُم } هو المفعول الثاني ، وقوله : { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } استدراك قصد به بيان بعض مظاهر رحمته - سبحانه - بالمؤمنين ومحبته لسعادتهم ولتزكية نفوسهم وتطيرها من الذنوب والأدران كما قصد به حضهم على مداومة شكره حتى يزيدهم من فضله .
وقريب من معنى هذه الجملة قوله - تعالى - { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقوله تعالى - { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما أرادوا الدخول في الصلاة ، وما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما كانوا جنبا ، وما يجبع أن يفعلوه إذا ما فقدوا الماء أو عجزوا عن استعماله وكانوا يريدون الطهارو أو أداء ما علهيم من تكاليف ، كما بينت لهم حكمة الله في تشريعاته لهم ، ورعايته لمصالحهم حتى يشكروه على نعمه فيزيدهم منها .
وفي ظل الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء يجيء ذكر الصلاة ، وأحكام الطهارة للصلاة .
( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برؤوسكم ، وأرجلكم إلى الكعبين . وإن كنتم جنبا فاطهروا . وإن كنتم مرضى ، أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه . ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ، ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) . .
إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء . وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام . . إن هذا لا يجيء اتفاقا ومصادفة لمجرد السرد ، ولا يجيء كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه . . إنما هو يجيء في موضعه من السياق ، ولحكمته في نظم القرآن . .
إنها - أولا - لفتة إلى لون آخر من الطيبات . . طيبات الروح الخالصة . . إلى جانب طيبات الطعام والنساء . . لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع أنه متاع اللقاء مع الله ، في جو من الطهر والخشوع والنقاء . . فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة ؛ استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان . . والتي بها يتكامل وجود " الإنسان " .
ثم اللفتة الثانية . . إن إحكام الطهارة والصلاة ؛ كأحكام الطعام والنكاح ؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة ؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب . . . كبقية الأحكام التالية في السورة . . . كلها عبادة لله . وكلها دين الله . فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرا - في الفقة - على تسميته " بأحكام العبادات " ، وما اصطلح على تسميته " بأحكام المعاملات " . .
هذه التفرقة - التي اصطنعها " الفقة " حسب مقتضيات " التصنيف " و " التبويب " - لا وجود لها في أصل المنهج الرباني ، ولا في أصل الشريعة الإسلامية . . إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء . وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه ؛ وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع . لا ، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر . والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء .
كلها " عقود " من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء . وكلها " عبادات " يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله . وكلها " إسلام " وإقرار من المسلم بعبوديته لله .
ليس هنالك " عبادات " وحدها و " معاملات " وحدها . . إلا في " التصنيف الفقهي " . . وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي . . كلها " عبادات " و " فرائض " و " عقود " مع الله . والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله !
وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني ؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق .
( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة . . . ) . .
إن الصلاة لقاء مع الله ، ووقوف بين يديه - سبحانه - ودعاء مرفوع إليه ، ونجوى وإسرار . فلا بد لهذا الموقف من استعداد . لا بد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي . ومن هنا كان الوضوء - فيما نحسب والعلم لله - وهذه هي فرائضه المنصوص عليها في هذه الآية :
غسل الوجه . غسل الأيدي إلى المرافق . ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين . . وحول هذه الفرائض خلافات فقهية يسيره . . أهمها هل هذه الفرائض على الترتيب الذي ذكرت به ؟ أم هي تجزى ء على غير ترتيب ؟ قولان . .
هذا في الحدث الأصغر . . أما الجنابة - سواء بالمباشرة أو الاحتلام - فتوجب الاغتسال . .
ولما فرغ من بيان فرائض الوضوء ، والغسل ، أخذ في بيان حكم التيمم . وذلك في الحالات الآتية : حالة عدم وجود الماء للمحدث على الإطلاق . .
وحالة المريض المحدث حدثا أصغر يقتضي الوضوء ، أو حدثا أكبر يقتضي الغسل والماء يؤذيه . .
وحالة المسافر المحدث حدثا أصغر أو أكبر . .
وقد عبر عن الحدث الأصغر بقوله : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) . . والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه . . والمجيء من الغائط كناية عن قضاء الحاجة تبولا أو تبرزا .
وعبر عن الحدث الأكبر بقوله : ( أو لامستم النساء ) . . لأن هذا التعبير الرقيق يكفي في الكناية عن المباشرة . .
ففي هذه الحالات لا يقرب المحدث - حدثا أصغر أو أكبر - الصلاة ، حتى يتيمم . . فيقصد صعيدا طيبا . . أي شيئا من جنس الأرض طاهرا - يعبر عن الطهارة بالطيبة - ولو كان ترابا على ظهر الدابة ، أو الحائط . فيضرب بكفيه ، ثم ينفضهما ، ثم يمسح بهما وجهه ، ثم يمسح بهما يديه إلى المرفقين . . ضربة للوجة واليدين . أو ضربتين . . قولان . .
وهناك خلافات فقهية حول المقصود بقوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) . . أهو مجرد الملامسة ؟ أم هي المباشرة ؟ وهل كل ملامسة بشهوة ولذة أم بغير شهوة ولذة ؟ خلاف . .
كذلك هل المرض بإطلاقه يجيز التيمم ؟ أم المرض الذي يؤذيه الماء ؟ خلاف . .
ثم . . هل برودة الماء من غير مرض ؛ وخوف المرض والأذى يجيز التيمم . . الأرجح نعم . . وفي ختام الآية يجيء هذا التعقيب :
( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج . ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم ، لعلكم تشكرون ) . . والتطهير حالة واجبة للقاء الله - كما أسلفنا - وهو يتم في الوضوء والغسل جسما وروحا . فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه ؛ ويجزى ء في التطهر عند عدم وجود الماء ، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء . ذلك أن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت الناس ، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف . إنما يريد أن يطهرهم ، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة ؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة ، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها . .
فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم .
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا :
( ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) . .
تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء . فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد ، ليقول متفلسفة هذه الأيام : إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات ، كما كان العرب البدائيون ! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة ! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد ؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه . وجانب التطهر الروحي أقوى . لأنه عند تعذر استخدام الماء ، يستعاض بالتيمم ، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى . . وذلك كله فضلا على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات ، وجميع البيئات ، وجميع الأطور ، بنظام واحد ثابت ، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطور ؛ في صورة من الصور ، بمعنى من المعاني ؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال .
فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ولنحاول أن نكون أكثر أدبا مع الله ؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء .
كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها ، عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة ؛ وإزالة كل عائق يمنع منها . . فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان . . كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة ؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية . إذا يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر ، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها ؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء . . لقاء العبد بربه . . وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب . . إنها نداوة القلب ، واسترواح الظل ، وبشاشة اللقاء . .
قال كثيرون من السلف : قوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } معناه وأنتم مُحْدِثون .
وقال آخرون : إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ، وكلاهما قريب .
وقال آخرون : بل المعنى أعم من ذلك ، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ، ولكن هو في حق المحدث على سبيل الإيجاب ، وفي حق المتطهر على سبيل الندب والاستحباب . وقد قيل : إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ .
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن عَلْقَمَة بن مرثد ، عن سليمان بن بُرَيْدة{[9218]} عن أبيه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه ، وصلى الصلوات بوضوء واحد . فقال له عمر : يا رسول الله ، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله ؟ قال : " إني عمدًا فعلته يا عمر .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد{[9219]} ووقع في سنن ابن ماجه ، عن سفيان عن محارب بن دِثَار - بدل علقمة بن مرثد - كلاهما عن سليمان بن بُريدة{[9220]} به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي ، حدثنا الفضل بن المُبَشِّر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد ، فإذا بال أو أحدث ، توضأ ومسح بفضل طَهُوره الخفين . فقلت : أبا عبد الله ، شيء{[9221]} تصنعه برأيك ؟ قال : بل رأيت النبي{[9222]} صلى الله عليه وسلم يصنعه ، فأنا أصنعه ، كما رأيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9223]} يصنع . {[9224]}
وكذا رواه ابن ماجه ، عن إسماعيل بن تَوْبة ، عن زياد البكائي ، به{[9225]} وقال أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن{[9226]} إسحاق ، حدثني محمد بن يحيى بن حَبَّان الأنصاري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال : قلت له : أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر ، عَمَّن هو ؟ قال : حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب ؛ أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر بن الغسيل حدثها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر ، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة وَوُضِع عنه الوضوء ، إلا من حدث . فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك ، كان يفعله حتى مات . {[9227]}
وكذا رواه أبو داود ، عن محمد بن عَوْف{[9228]} الحِمْصِيّ ، عن أحمد بن خالد الذهني ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان ، عن عبد الله بن عبد الله{[9229]} بن عمر{[9230]} ثم قال أبو داود : ورواه إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق فقال : عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد .
وأيا ما كان فهو{[9231]} إسناد صحيح ، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حَبَّان ، فزال محذور التدليس . لكن قال الحافظ ابن عساكر : رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانة ، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان ، به ، والله{[9232]} أعلم . وفي فعل ابن عمر هذا ، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة ، دلالة على استحباب ذلك ، كما هو مذهب الجمهور . .
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا أزْهَر ، عن ابن عَوْن ، عن ابن سِيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى{[9233]} حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبَة ، سمعت مسعود بن علي الشيباني ، سمعت عِكْرِمة يقول : كان علي ، رضي الله عنه ، يتوضأ عند كل صلاة ، ويقرأ هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } الآية .
وحدثنا ابن المثنى ، حدثني وَهْب بن جرير ، أخبرنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة قال : رأيت عليًا صلى الظهر ، ثم قعد للناس في الرّحْبة ، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مسح برأسه ورجليه ، وقال{[9234]} هذا وضوء من لم يُحْدث .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم{[9235]} عن مغيرة ، عن إبراهيم ؛ أن عليًا اكتال{[9236]} من حُبٍّ ، فتوضأ وضوءا فيه تجوّز{[9237]} فقال : هذا وضوء من لم يحدث " . وهذه طرق جيدة عن علي [ رضي الله عنه ]{[9238]} يقوي بعضها بعضا .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن حُمَيْد ، عن أنس قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تَجَوّز ، خفيفا ، فقال{[9239]} هذا وضوء من لم يحدث . وهذا إسناد صحيح . {[9240]}
وقال محمد بن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة . .
وأما ما رواه أبو داود الطيالسي ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء . فهو غريب عن سعيد بن المسيب ، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد ، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن عامر الأنصاري ، سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت{[9241]} فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث .
وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عَمْرو بن عامر ، به . {[9242]}
وقال ابن جرير : حدثني أبو سعيد البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن هُرَيم ، عن عبد الرحمن بن زياد - هو الإفريقي - عن أبي غُطَيف ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من توضأ على طُهْر كتب{[9243]} له عشر حسنات " .
ورواه أيضا من حديث عيسى بن يونس ، عن الإفريقي ، عن أبي غطيف ، عن ابن عمر ، فذكره ، وفيه قصة . {[9244]}
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث الإفريقي ، به نحوه{[9245]} وقال الترمذي : وهو إسناد ضعيف .
قال ابن جرير : وقد قال قوم : إن هذه الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة ، دون غيرها من الأعمال ؛ وذلك لأنه عليه السلام{[9246]} كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ .
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان{[9247]} عن جابر ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم ، عن عبد الله بن عَلْقَمَة بن الفَغَواء ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ، ونسلم عليه فلا يرد علينا ، حتى نزلت آية الرخصة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } الآية .
ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم ، عن أبي كُرَيْب ، به{[9248]} نحوه . وهو حديث غريب جدًا ، وجابر هذا هو ابن يزيد{[9249]} الجعفي ، ضعفوه .
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن عبد الله بن أبي مُلَيكة ، عن عبد الله بن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء ، فَقُدِّم إليه طعام ، فقالوا : ألا نأتيك بوَضُوء فقال : " إنما أمرت بالوضوء إذا قُمْتُ إلى الصلاة .
وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن مَنِيع والنسائي عن زياد بن أيوب ، عن إسماعيل - وهو ابن علية - به{[9250]} وقال الترمذي : هذا حديث حسن .
وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن الحويرث ، عن ابن عباس قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء ، ثم إنه رجع فأتى بطعام ، فقيل : يا رسول الله ، ألا تتوضأ ؟ فقال : " لِمَ ؟ أأصلي{[9251]} فأتوضأ ؟ " . {[9252]} وقوله : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } قد استدل طائفة من العلماء بقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } على وجوب النية في الوضوء ؛ لأن تقدير الكلام : " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها " ، كما تقول العرب : " إذا رأيت الأمير فقم " أي : له . وقد ثبت في الصحيحين حديث : " الأعمال{[9253]} بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " . {[9254]} ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه ؛ لما ورد في الحديث من طرق{[9255]} جيدة ، عن جماعة من الصحابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " . {[9256]}
ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء{[9257]} ويتأكد ذلك عند القيام من النوم ؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا استيقظ أحدكم من نَوْمِه ، فلا يُدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا ، فإن أحدَكم لا يَدْرِي أين باتت يده " . {[9258]}
وحَدُّ الوجه عند الفقهاء : ما بين منابت شعر الرأس - ولا اعتبار بالصَّلع ولا بالغَمَم - إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، وفي النزعتين{[9259]} والتحذيف خلاف ، هل هما من الرأس أو الوجه ، وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان ، أحدهما : أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة . وروي في حديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مغطيا لحيته ، فقال : " اكشفها ، فإن اللحية من الوجه " {[9260]} وقال مجاهد : هي من الوجه ، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام إذا نبتت لحيته : طلع وجهه .
ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كَثَّة ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ، عن عامر بن شقيق بن جَمْرَة ، عن أبي وائل{[9261]} قال : رأيت عثمان توضأ - فذكر الحديث - قال : وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت .
رواه الترمذي ، وابن ماجه من حديث عبد الرزاق{[9262]} وقال الترمذي : حسن صحيح ، وحسنه البخاري .
وقال أبو داود : حدثنا أبو تَوْبَة الربيع بن نافع ، حدثنا أبو المَلِيح ، حدثنا الوليد بن زَوْرَانَ{[9263]} عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كَفًّا من ماء فأدخله تحت حنكه ، يخلل{[9264]} به لحيته ، وقال : " هكذا أمرني به ربي عز وجل .
تفرد به أبو داود{[9265]} وقد رُوي هذا{[9266]} من غير وجه عن أنس . قال البيهقي : وروينا في تخليل اللحية عن عمار ، وعائشة ، وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عن علي وغيره ، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر ، والحسن بن علي ، ثم عن النخعي ، وجماعة من التابعين . {[9267]}
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها : أنه كان إذا توضأ تمضمض{[9268]} واستنشق ، فاختلف الأئمة في ذلك : هل هما واجبان في الوضوء والغسل ، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ، رحمه الله ؟ أو مستحبان فيهما ، كما هو مذهب الشافعي ومالك ؟ لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه ابن خُزَيمة ، عن رفاعة بن رافع الزّرقي ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته : " توضأ كما أمرك الله " {[9269]} أو يجبان في الغسل دون الوضوء ، كما هو مذهب أبي حنيفة ؟ أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من توضأ فليستنثر " {[9270]} وفي رواية : " إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر " {[9271]} والانتثار : هو المبالغة في الاستنشاق .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ؛ أنه توضأ فغسل وجهه ، ثم أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر ، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا ، يعني أضافها إلى يده الأخرى ، فغسل بهما وجهه . ثم أخذ غرفة من ماء ، فغسل بها يده اليمنى ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ، ثم مسح رأسه ، ثم أخذ غرفة من ماء ، ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله اليسرى ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني يتوضأ .
ورواه البخاري ، عن محمد بن عبد الرحيم ، عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ، به{[9272]}
وقوله : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } أي : مع المرافق ، كما قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } [ النساء : 2 ]
وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي ، من طريق القاسم بن محمد ، عن{[9273]} عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جده ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه . ولكن القاسم هذا متروك الحديث ، وجده ضعيف{[9274]} والله أعلم .
ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد ليغسله مع ذراعيه ؛ لما روى البخاري ومسلم ، من حديث نُعَيم المُجْمِر ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أمتي يُدْعَوْن يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل " . {[9275]}
وفي صحيح مسلم : عن قُتَيْبَة ، عن خَلَف بن خليفة ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : سمعت خليلي{[9276]} صلى الله عليه وسلم يقول : " تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " . {[9277]}
وقوله : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } اختلفوا في هذه " الباء " هل هي للإلصاق ، وهو الأظهر أو للتبعيض ؟ وفيه نظر ، على قولين . ومن الأصوليين من قال : هذا مجمل فليرجع{[9278]} في بيانه إلى السنة ، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك ، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه ، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جد عمرو بن يحيى ، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بوضوء ، فأفرغ على يديه ، فغسل يديه مرتين مرتين ، ثم مضمض{[9279]} واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ، ثم مسح بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه . {[9280]}
وفي حديث عبد خير ، عن علي في صفة وضوء رسول الله{[9281]} صلى الله عليه وسلم نحو هذا ، وروى أبو داود ، عن معاوية والمقدام بن معد يكرب ، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله . {[9282]}
ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس ، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل ، لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن .
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس ، وهو مقدار الناصية .
وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ، لا يتقدر ذلك بحدٍّ ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه .
واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة ، قال : تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه ، فلما قضى حاجته قال : " هل معك ماء ؟ " فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة ، فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه{[9283]} فغسل ذراعيه ومسح بناصيته ، وعلى العمامة وعلى خفيه . . . وذكر باقي الحديث ، وهو في صحيح مسلم ، وغيره . {[9284]}
فقال لهم أصحاب الإمام أحمد : إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة ، ونحن نقول بذلك ، وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك أحاديث كثيرة ، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين ، فهذا{[9285]} أولى ، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة ، والله أعلم .
ثم اختلفوا في أنه : هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا ، كما هو المشهور من مذهب الشافعي ، أو إنما{[9286]} يستحب مسحة واحدة ، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه ، على قولين . فقال عبد الرزاق : عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن حُمْران بن أبان قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما ، ثم مضمض{[9287]} واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا ، ثم اليسرى ثلاثا مثل ذلك{[9288]} ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : " من تَوَضَّأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه ، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا{[9289]} وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكَة ، عن عثمان في صفة الوضوء : ومسح برأسه مرة واحدة{[9290]} وكذا من رواية عبد خير ، عن علي مثله .
واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، عن عثمان ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : توضأ ثلاثا ثلاثا .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد ، حدثنا عبد الرحمن بن وَرْدَان ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، حدثني حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ . {[9291]} فذكر نحوه ، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق ، قال فيه : ثم مسح رأسه ثلاثا ، ثم غسل رجليه ثلاثا ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا وقال : " من توضأ دون هذا كفاه .
تفرد به أبو داود{[9292]} ثم قال : وأحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة .
وقوله : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } قُرئ : { وَأَرْجُلَكُمْ } بالنصب عطفا على { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا وُهَيْب ، عن خالد ، عن عِكَرِمة ، عن ابن عباس ؛ أنه قرأها : { وَأَرْجُلَكُمْ } يقول : رجعت إلى الغسل .
وروي عن عبد الله بن مسعود ، وعُرْوَة ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، ومجاهد ، وإبراهيم ، والضحاك ، والسُّدِّي ، ومُقاتل بن حيان ، والزهري ، وإبراهيم التيمي ، نحو ذلك .
وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل ، كما قاله السلف ، ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب{[9293]} كما هو مذهب الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب ، بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ثم وجهه أجزأه ذلك ؛ لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء ، و " الواو " لا تدل على الترتيب . وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقا ، فمنهم من قال : الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة ؛ لأنه مأمور به بفاء التعقيب ، وهي مقتضية للترتيب ، ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولا ثم لا يجب الترتيب بعده ، بل القائل اثنان ، أحدهما : يوجب الترتيب ، كما هو واقع في الآية . والآخر يقول : لا يجب الترتيب مطلقا ، والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء ، فوجب{[9294]} الترتيب فيما بعده بالإجماع ، حيث لا فارق . ومنهم من قال : لا نسلم أن " الواو " لا تدل على الترتيب ، بل هي دالة - كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء . ثم نقول{[9295]} - بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي - : هي دالة على الترتيب شرعا فيما من شأنه أن يرتب ، والدليل على ذلك أنه{[9296]} صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت ، خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [ البقرة : 158 ] ثم قال : " ابدأ بما بدأ الله به " لفظ مسلم ، ولفظ النسائي : " ابدءوا بما بدأ الله به " . وهذا لفظ أمر ، وإسناده صحيح ، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به ، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعا ، والله أعلم .
ومنهم من قال : لما ذكر تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب ، فقطع النظير عن النظير ، وأدخل الممسوح بين المغسولين ، دل ذلك على إرادة الترتيب .
ومنهم من قال : لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ، ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " {[9297]} قالوا : فلا يخلو{[9298]} إما أن يكون توضأ مرتبا فيجب الترتيب ، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب ، ولا قائل به ، فوجب ما ذكره . {[9299]}
وأما القراءة الأخرى ، وهي قراءة من قرأ : { وَأَرْجُلِكُمْ }{[9300]} بالخفض . فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين ؛ لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس . وقد رُوي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح ، فقال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، حدثنا حُمَيْد قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ، إن الحجاج خَطَبَنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما عَرَاقيبهما{[9301]} فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله [ تعالى ]{[9302]} { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بَلَّهما{[9303]} إسناد صحيح إليه .
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سَهْل ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا حماد ، حدثنا عاصم الأحول ، عن أنس{[9304]} قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة الغسل{[9305]} وهذا أيضا إسناد صحيح .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا محمد بن قَيْس الخراساني ، عن ابن جُرَيْج ، عن عمرو بن دينار ، عن عِكرِمة ، عن ابن عباس قال : الوضوء غَسْلتَان ومسحتان . {[9306]}
وكذا روى سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا أبو مَعْمَر المِنْقَريّ ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } قال : هو المسح . ثم قال : وروي عن ابن عمر{[9307]} وعلقمة ، وأبي جعفر ، [ و ]{[9308]} محمد بن علي ، والحسن - في إحدى الروايات - وجابر بن زيد ، ومجاهد - في إحدى الروايات - نحوه .
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب ، قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه ، قال : وكان يقوله .
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح . ثم قال الشعبي : ألا ترى أن " التيمم " أنْ يمسح ما كان غسلا ويلغي{[9309]} ما كان مسحا ؟
وحدثنا ابن أبي زياد ، حدثنا يزيد ، أخبرنا إسماعيل ، قلت لعامر : إن ناسا يقولون : إن جبريل نزل بغسل الرجلين ؟ فقال : نزل جبريل بالمسح .
فهذه آثار غريبة جدًا ، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف ، لما سنذكره من السنة الثابتة{[9310]} في وجوب غسل الرجلين . وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام ، كما في قول العرب : " جُحْرُ ضَب خربٍ " ، وكقوله تعالى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } [ الإنسان : 21 ] وهذا سائغ ذائع ، في لغة العرب شائع . ومنهم من قال : هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان ، قاله أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله . ومنهم من قال : هي دالة على مسح الرجلين ، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف ، كما وردت{[9311]} به السنة . وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا ، لا بد منه للآية والأحاديث{[9312]} التي سنوردها .
ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي ، حيث قال : أخبرنا أبو علي الروذباري ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري ، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد الملك بن مَيْسَرَة ، سمعت النزال بن سَبْرَة يحدث عن علي بن أبي طالب ، أنه صلى الظهر ، ثم قعد في حوائج الناس في رَحَبَة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتي بكوز من ماء ، فأخذ منه حفنة واحدة ، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب{[9313]} فضله وهو قائم ، ثم قال : إن ناسا يكرهون الشرب قائما ، وإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9314]} صنع ما صنعتُ . وقال : " هذا وضوء من لم يحدث " .
رواه البخاري في الصحيح ، عن آدم ، ببعض معناه . {[9315]}
ومن أوجب{[9316]} من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف ، فقد ضل وأضل . وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا ، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث ، وأوجب مسحهما للآية ، فلم يحقق مذهبه في ذلك ، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دَلْك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء ؛ لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك ، فأوجب{[9317]} دَلْكَهما ليذهب ما عليهما ، ولكنه عَبَّر عن الدلك بالمسح ، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين{[9318]} غسل الرجلين ومسحهما ، فحكاه من حكاه كذلك ؛ ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور{[9319]} فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل ، سواء تقدمه أو تأخر عليه ؛ لاندراجه فيه ، وإنما أراد الرجلُ ما ذكرتهُ ، والله أعلم . ثم تأملت كلامه أيضًا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين ، في قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } خفضا على المسح وهو الدلك{[9320]} ونصبا على الغسل ، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه .
ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه :
قد تقدم في حديث أميري المؤمنين عثمان وعلي ، وابن عباس ومعاوية ، وعبد الله بن زيد بن عاصم ، والمقداد بن معد يكرب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين{[9321]} في وضوئه ، إما مرة ، وإما مرتين ، أو ثلاثا ، على اختلاف رواياتهم .
وفي حديث عمرو بن شُعَيْب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ، ثم قال : " هذا وُضُوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .
وفي الصحيحين ، من رواية أبي عَوَانة ، عن أبي بِشْر ، عن يوسف بن مَاهَك ، عن عبد الله بن عمرو قال : تَخَلَّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها ، فأدرَكَنا وقد أرْهَقَتْنَا الصلاةُ ، صلاةُ العصر ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : " أسبِغوا الوضوء وَيْلٌ للأعقاب من النار " . {[9322]}
وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة{[9323]} وفي صحيح مسلم عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار " . {[9324]}
وروى الليث بن سعد ، عن حَيْوة بن شُرَيْح ، عن عُقْبة بن مسلم ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء{[9325]} أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " وَيْلٌ للأعْقَاب وبُطون الأقدام من النار " . رواه البيهقي والحاكم{[9326]} وهذا إسناد صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق : أنه سمع سعيد بن أبي كرب - أو شعيب بن أبي كرب{[9327]} - قال : سمعت جابر بن عبد الله - وهو على جمل{[9328]} - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل للعراقيب من النار " . {[9329]}
وحدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب{[9330]} عن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجْل رَجُل منا مثْل الدرهم لم يغسله ، فقال : " ويل للعَقِبِ من النار " .
ورواه ابنُ ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن الأحْوص{[9331]} عن أبي إسحاق ، عن سعيد ، به نحوه{[9332]} وكذا رواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن سعيد بن أبي كرب{[9333]} عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله . ثم قال :
حدثنا{[9334]} علي{[9335]} بن مسلم ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضئون ، لم يصب أعْقابهم الماءُ ، فقال : " وَيْلٌ للعَراقِيبِ من النار " . {[9336]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا خَلَف بن الوليد ، حدثنا أيوب بن عُتْبة ، عن يحيى{[9337]} بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن مُعَيْقيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويل للأعقاب من النار " . تفرد به أحمد . {[9338]}
وقال ابن جرير : حدثني علي بن عبد الأعلى ، حدثنا المحاربي ، عن مُطَرَّح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال{[9339]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار " . قال : فما بقي في المسجد شَرِيف ولا وَضِيع ، إلا نظرت إليه يُقلب عُرْقوبيه ينظر إليهما " . {[9340]}
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، حدثني عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي أمامة - أو عن أخي أبي أمامة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر قومًا يتوضئون{[9341]} وفي عَقِب أحدهم - أو : كعب أحدهم - مثل موضع الدرهم - أو : موضع الظفر - لم يمسه الماء ، فقال : " ويل للأعقاب من النار " . قال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئًا لم يصبه{[9342]} الماء أعاد وضوءه " . {[9343]}
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة ، وذلك أنه لو كان فَرْض الرجلين مَسْحهما ، أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توَعّد على تركه ؛ لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل ، بل يجري{[9344]} فيه ما يجري{[9345]} في مسح الخف ، وهكذا وجه{[9346]} الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله .
وقد روى مسلم في صحيحه ، من طريق أبي الزبير ، عن جابر ، عن عمر بن الخطاب ؛ أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه{[9347]} فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ارجع فأحسن وضوءك " . {[9348]} وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني{[9349]} حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وَهْبٍ ، حدثنا جرير بن حازم : أنه سمع قتادة بن دعامة قال : حدثنا أنس بن مالك ؛ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ ، وترك على قدمه مثل موضع الظفر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارجع فأحسن وضوءك " .
وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف ، وابن ماجه ، عن حَرْمَلَة بن يحيى ، كلاهما عن ابن وَهْب به{[9350]} وهذا إسناد جيد ، رجاله كلهم ثقات ، لكن قال أبو داود : [ و ]{[9351]} ليس هذا الحديث بمعروف ، لم يروه إلا ابن وهب .
وحدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد{[9352]} أخبرنا يونس وحميد ، عن الحسن ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . بمعنى حديث قتادة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بَقيةُ ، حدثني بَحِير{[9353]} بن سعد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لُمْعَة قدر الدرهم لم يصبها الماء ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء .
ورواه أبو داود من حديث بقية{[9354]} وزاد : " والصلاة " . وهذا إسناد جيد قوي صحيح ، والله أعلم .
وفي حديث حُمْران ، عن عثمان ، في صفة وضوء النبي{[9355]} صلى الله عليه وسلم : أنه خلل بين أصابعه . وروى أهل السنن من حديث إسماعيل بن كثير ، عن عاصم بن لَقِيط بن صَبرةَ ، عن أبيه قال ، قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن الوضوء : فقال : " أسبغ الوضوء ، وخَلِّل بين الأصابع ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما " . {[9356]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، أبو عبد الرحمن المقري{[9357]} حدثنا عِكْرِمة بن عمار ، حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قال{[9358]} قال أبو أمامة : حدثنا عَمْرو بن عبسة{[9359]} قال : قلت : يا نبي الله ، أخبرني عن الوضوء . قال : " ما منكم من أحد يقرب وضوءه ، ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر{[9360]} إلا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره{[9361]} الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله ، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " . قال أبو أمامة : يا عمرو ، انظر ما تقول ، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أيعطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ فقال عمرو بن عَبْسة{[9362]} يا أبا أمامة ، لقد كبرت سنِّي ، وَرَقَّ عظمي ، واقترب أجلي ، وما بي حاجة أن أكذب على الله ، وعلى رسول الله{[9363]} صلى الله عليه وسلم [ و ]{[9364]} لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا ، لقد سمعته [ منه ]{[9365]} سبع مرات أو أكثر من ذلك . {[9366]}
وهذا إسناد صحيح ، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر ، وفيه : " ثم يغسل قدميه كما أمره الله " . فدل على أن القرآن يأمر بالغسل .
وهكذا روى أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن الحارث ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم .
ومن هاهنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير ، عن علي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما . إنما أراد غسلا خفيفًا وهما في النعلين ولا مانع من إيجاد الغسل والرِجل في نعلها ، ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين . وهكذا الحديث الذي أورده ابن جرير على نفسه ، وهو من روايته ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبَاطةَ قوم فبال قائما ، ثم دعا بماء فتوضأ ، ومسح على نعليه{[9367]} وهو حديث صحيح . وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات الحفاظ رووه عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه .
قلت : ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجليه خفان ، وعليهما نعلان .
وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى عن شُعْبَة ، حدثني يَعْلَى ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ، ثم قام إلى الصلاة . وقد رواه أبو داود عن مُسَدَّد وعباد بن موسى كلاهما ، عن هُشَيْم ، عن يعلى بن عَطاء ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم فبال ، وتوضأ{[9368]} ومسح على نعليه وقدميه .
وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ومن طريق هشيم{[9369]} ثم قال : وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث ؛ إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية متعارضة ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل{[9370]} المستفيض القاطع عُذْر من انتهى إليه وبلغه .
ولما كان القرآن آمرًا بغسل الرجلين - كما في قراءة النصب ، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليها - توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين ، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب ، ولكن لم يصح إسناده ، ثم الثابت عنه خلافه ، وليس كما زعموه ، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة .
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زياد بن عبد الله بن عُلاثة ، عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري ، عن مجاهد ، عن جرير بن عبد الله البَجَلي قال : أنا أسلمت بعد نزول{[9371]} المائدة ، وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت . تفرد به أحمد . {[9372]}
وفي الصحيحين ، من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن هَمَّام قال : بال جرير ، ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل : تفعل هذا ؟ فقال : نعم ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ، ثم توضأ ومسح على خفيه . قال الأعمش : قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث ؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة . لفظ مسلم . {[9373]}
وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولا منه وفعلا كما هو مقرر في كتاب " الأحكام الكبير " ، وما{[9374]} يحتاج إلى ذكره هناك ، من تأقيت المسح أو عدمه أو التفصيل فيه ، كما هو مبسوط في موضعه . وقد خالفت الروافض ذلك كله بلا مستند ، بل بجهل وضلال ، مع أنه ثابت في صحيح مسلم ، من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه . كما ثبت في الصحيحين عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها . وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين ، مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت عليه الآية الكريمة ، وهم مخالفون لذلك كله ، وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر ، ولله الحمد .
وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين ، فعندهم أنهما في ظهر القدم ، فعندهم في كل رجل كعب ، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم . قال{[9375]} الربيع : قال الشافعي : لم أعلم مخالفًا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان ، وهما مجمع مفصل الساق والقدم . هذا لفظه . فعند الأئمة ، رحمهم الله ، [ أن ]{[9376]} في كل قدم كعبين كما هو المعروف عند الناس ، وكما دلت عليه السنة ، ففي الصحيحين من طريق{[9377]} حُمْران عن عثمان ؛ أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ، واليسرى مثل ذلك .
وروى البخاري تعليقًا مجزوما به ، وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه ، من رواية أبي القاسم الحسيني بن الحارث الجدلي ، عن النعمان بن بشير قال : أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال : " أقيموا صفوفكم - ثلاثا - والله لتقيمُن صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين قلوبكم " . قال : فرأيت الرجل يُلْزِق كعبه بكعب صاحبه ، وركبته بركبة صاحبه ، ومَنْكبِه بمنكبه . لفظ ابن خزيمة . {[9378]}
فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه إلا والمراد به العظم الناتئ في الساق ، حتى يحاذي كعب الآخر ، فدل ذلك على ما ذكرناه ، من أنهما العظمان الناتئان عند مَفْصِل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن موسى ، أخبرنا شريك ، عن يحيى بن عبد الله بن الحارث التيمي - يعني الجابر - قال : نظرت في قتلى أصحاب زيد ، فوجدت الكعب فوق ظهر القدم ، وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم ، تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه .
وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } كل ذلك قد تقدَّم الكلام عليه في تفسير آية النساء ، فلا حاجة بنا إلى إعادته ؛ لئلا يطول الكلام . وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك ، لكن البخاري روى هاهنا حديثا خاصا بهذه الآية الكريمة ، فقال :
حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثنا ابن وَهْبٍ ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه ، عن أبيه ، عن عائشة : سقطت قلادة لي بالبيداء ، ونحن داخلون المدينة ، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل ، فثَنَى رأسه في حِجْري راقدًا ، أقبل أبو بكر فلَكَزَني لكزة شديدة ، وقال : حَبَسْت الناس في قلادة ، فَبى الموتُ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أوجعني ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح ، فالتمس الماء فلم يوجَد ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } هذه الآية ، فقال أسَيْد بن الحُضَير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ، ما أنتم إلا بركة لهم . {[9379]}
وقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } أي : فلهذا سهل عليكم ويسَّر ولم يعسِّر ، بل أباح التيمم عند المرض ، وعند فقد الماء ، توسعة عليكم ورحمة بكم ، وجعله في حق من شرع الله يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه ، كما تقدم بيانه ، وكما هو مقرر في كتاب " الأحكام الكبير " .
وقوله : { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لعلكم تشكرون نعمَه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة ، وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء ، بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة ، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن ، عن عقبة بن عامر قال : كانت علينا رعاية الإبل ، فجاءت نَوْبَتي فَرَوَّحتها بعَشِيّ ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس ، فأدركت من قوله : " ما من مسلم يتوضأ فيحسن وُضُوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقْبلا عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة " . قال : قلت : ما أجود هذه ! فإذا قائل بين يدي يقول : التي قبلها أجود منها . فنظرت فإذا عمر ، رضي الله عنه ، فقال : إني قد رأيتك جئت آنفا قال : " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو : فيسبغ - الوضوء ، يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء " . لفظ مسلم . {[9380]}
وقال مالك : عن سُهَيل{[9381]} بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توَضّأ العبد المسلم - أو : المؤمن - فغسل وجهه ، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء - أو : مع آخر قطر الماء - فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء - أو : مع آخر قطْر الماء - فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - أو : مع آخر قطْر الماء - حتى يخرج نقيا من الذنوب " .
رواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن مالك ، به . {[9382]}
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن كعب بن مُرَّة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه - أو : ذراعيه - إلا خرجت خطاياه منهما ، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه ، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه ، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه " . {[9383]}
هذا لفظه . وقد رواه الإمام أحمد ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن منصور ، عن سالم ، عن مرة بن كعب ، أو كعب بن مرة السلمي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وإذا توضأ العبد فغسل يديه ، خرجت{[9384]} خطاياه من بين يديه ، وإذا غسل وجهه خرجت{[9385]} خطاياه من وجهه ، وإذا غسل ذراعيه خرجت{[9386]} خطاياه من ذراعيه ، وإذا غسل رجليه خرجت{[9387]} خطاياه من رجليه " . قال شعبة : ولم يذكر مسح الرأس . وهذا إسناد صحيح . {[9388]}
وروى ابن جرير من طريق شَمِر بن عطية ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قام إلى الصلاة ، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه " . {[9389]}
وروى مسلم في صحيحه ، من حديث يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن أبي مالك الأشعري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الطَّهور شَطْر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله{[9390]} تملآن ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة بُرهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حُجَّة لك أو عليك ، كل الناس يَغْدُو ، فبائع نفسه فَمعتِقهَا ، أو مُوبِقُهَا " . {[9391]}
وفي صحيح مسلم ، من رواية سِمَاك بن حَرْب ، عن مُصْعب بن سعد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صدقة من غُلُول ، ولا صلاة بغير طهور " . {[9392]}
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، سمعت أبا المَلِيح الهُذَلي يحدث عن أبيه قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ، فسمعته يقول : " إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور ، ولا صدقة من غُلُول " .
وكذا رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث شعبة . {[9393]}
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا أردتم القيام كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } عبر عن إرادة الفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها ، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، أو إذا قصدتم الصلاة لأن التوجه إلى الشيء والقيام إليه قصد له ، وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا ، والإجماع على خلافه لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه : صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا فعلته " فقيل مطلق أريد به التقييد ، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين . وقيل الأمر فيه للندب . وقيل كان ذلك أول الأمر ثم نسخ وهو ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : " المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " . { فاغسلوا وجوهكم } أمروا الماء عليها ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك . { وأيديكم إلى المرافق } الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل : { إلى } بمعنى مع كقوله تعالى : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أو متعلقة بمحذوف تقديره : وأيديكم مضافة إلى المرافق ، ولو كان كذلك لم يبق لمعنى التحديد ولا لذكره مزيد فائدة ، لأن مطلق اليد يشتمل عليها . وقيل : إلى تفيد الغاية مطلقا وأما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج ولم يكن في الآية ، وكانت الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطا . وقيل إلى من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية لقوله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } لكن لما لم تتميز الغاية ها هنا عن ذي الغاية وجب إدخالها احتياطا . { وامسحوا برؤوسكم } الباء مزيدة . وقيل للتبعيض ، فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل ، ووجهه أن يقال إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل : وألصقوا المسح برؤوسكم ، وذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما لو قيل : وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله : { فاغسلوا وجوهكم } واختلف العلماء في قدر الواجب . فأوجب الشافعي رضي الله تعالى عنه : أقل ما يقع عليه الاسم أخذا باليقين . وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : مسح ربع الرأس ، لأنه عليه الصلاة والسلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع . ومالك رضي الله تعالى عنه : مسح كله أخذا بالاحتياط . { وأرجلكم إلى الكعبين } نصبه نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب عطفا على وجوهكم ويؤيده : السنة الشائعة ، وعمل الصحابة ، وقول أكثر الأئمة ، والتحديد ، إذ المسح لم يحد . وجره الباقون على الجوار ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى : { عذاب يوم أليم } { وحور عين } بالجر
في قراءة حمزة والكسائي ، وقولهم جحر ضب خرب . وللنحاة باب في ذلك ، وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلا يقرب من المسح ، وفي الفصل بينه وبين أخويه إيماء على وجوب الترتيب . وقرئ بالرفع على { وأرجلكم } مغسولة . { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فاغتسلوا . { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } سبق تفسيره ، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة . { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم تضييقا عليكم . { ولكن يريد ليطهركم } لينظفكم ، أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب ، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء . فمفعول { يريد } في الموضعين محذوف واللام للعلة . وقيل مزيدة والمعنى : ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم ، ولكن يريد أن يطهركم وهو ضعيف لأن أن لا تقدر بعد المزيدة . { وليتم نعمته عليكم } ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين ، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه . { لعلكم تشكرون } نعمته . والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى : طهارتان أصل وبدل ، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب ، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود ، وأن آلتهما مائع وجامد ، وموجبهما حدث أصغر وأكبر ، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر ، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة .
لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة رضي الله عنها فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء ، لكن من حيث كان الوضوء متقرراً عندهم مستعملاً فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوة ، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة فأقام رسول الله بالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير ، وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح فيما روي ، وفيها كان قول عبد الله بن أبي ابن سلول { لئن رجعنا إلى المدينة } [ المنافقون : 8 ] القصة بطولها ، وفيها وقع حديث الإفك{[4460]} ، ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام جاءت العبارة { إذا قمتم } ، واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله { إذا قمتم } فقالت طائفة : هذا لفظ عام في كل قيام سواء كان المرء على طهور أو محدثاً فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وروي أن علي بن أبي طالب كان يفعل ذلك ويقرأ الآية ، وروي نحوه عن عكرمة ، وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة ، وروي أن عمر بن الخطاب توضأ وضوءاً فيه تجوز ثم قال هذا وضوء من لم يحدث{[4461]} . وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث{[4462]} .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : فكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر وغيره يتوضؤون لكل صلاة انتداباً إلى فضيلة وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد في حديث سويد بن النعمان وفي غير موطن إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد{[4463]} إرادة البيان لأمته وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ، »{[4464]} وقال : إنما رغبت في هذا ، وقالت فرقة : نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان لا يعمل عملاً إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال ، قال ذلك علقمة بن الفغواء وهو من الصحابة{[4465]} ، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وقال زيد بن أسلم والسدي : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم .
قال القاضي أبو محمد : والقصد بهذا التأويل أن تعم الأحداث بالذكر ، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو في نفسه حدث ، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير تقديره { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } من النوم { أوجاء أحد منكم من الغائط أولا مستم النساء } يعني الملامسة الصغرى { فاغتسلوا } فتمت أحكام المحدث حدثاً أصغر ثم قال : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } فهذا حكم نوع آخر ، ثم قال للنوعين جميعاً { وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً } وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمه الله وغيره ، وقال جمهور أهل العلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين{[4466]} وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير بل يترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله : { فاطهروا } ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ، ثم ذكر بعد ذلك بقوله : { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة الصغرى في قوله محدثين ، ثم ذكر بعد ذلك بقوله : { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد ، ليذكر الجُنب العادم للماء كما ذكر الواجد ، وهذا هو تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى وغيرهم .
وقوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } الغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها ، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء أو التقليل منه ، وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه وإمرار اليد عليه ، والوجه ما واجه الناظر وقابله ، وحدّه في ذي اللحية فقيل : حده من اللحية إلى ما قابل آخر الذقن ، وقيل بل حده فيها آخر الشعر ، واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين روي تخليلها عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس ذكره الطبري{[4467]} ، واختلف في حده عرضاً فهو في المرأة والأمرد من الأذن إلى الأذن وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال فقيل : من الشعر إلى الشعر يعني شعر العارضين وقيل : من الأذن إلى الأذن ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه وقيل : يغسل ذلك بنفسه ليس من الوجه ولا من الرأس ، وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر فهو من الرأس ، واختلف في المضمضة والاستنشاق فجمهور الأمة يرونها سنة ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء ، وقال حماد بن أبي سليمان وقتادة وعطاء والزهري وابن أبي ليلى وابن راهويه : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة ، وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه .
وقوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحياناً ليطيل الغرة ، وحَّد الله تعالى موضع الغسل منه { إلى المرافق } يقال في واحدها مرفق ومرفق ، وكسر الميم وفتح الفاء أشهر ، واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا فقالت طائفة لا تدخل لأن إلى غاية تحول بين ما قبلها وما بعدها ، وقالت طائفة تدخل المرافق في الغسل لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل ، ومثل أبو العباس المبرد في ذلك بأن تقول : اشتريت الفدان إلى حاشيته أو بأن تقول اشتريت الفدان إلى الدار وبقوله : { أتموا الصيام إلى الليل }{[4468]} .
قال القاضي أبو محمد : وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد { إلى } ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها ، وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل . والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس رضي الله عنه ، روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد ، وروي عنه أنهما داخلان .
وقوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين ثم يرسل ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين ، واختلف في مسح الرأس في مواضع منها هيئة المسح فقالت طائفة منها مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه ، وقالت فرقة يبدأ من مؤخر الرأس حتى يجيء إلى المقدم ثم يرد إلى المؤخر ، وقالت فرقة : يبدأ من وسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ثم يرد فيصيب باطن الشعر فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمرّ يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس ثم يرد فيصيب باطنه ويقف عند وسط الرأس ، وقالت فرقة يمسح رأسه من هنا وهنا على غير نظام ولا مبدأ محدود حتى يعمه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قول بالعموم واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن فالجمهور على أنه سنة وقيل : هو فرض ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح فقالت جماعة : الواجب من مسح الرأس عمومه ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه وقال محمد بن مسلمة أن مسح ثلثي الرأس وترك الثلث أجزأ وقال أبو الفرج المالكي : وروي عن مالك أنه إن مسح الثلث أجزأ لأنه كثير في أمور من الشرع وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأ .
قال القاضي أبو محمد : وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس ، وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث في بعضها ذكر الناصية وفي بعضها ذكر مقدم الرأس ، إلا ما روي عن إبراهيم والشعبي قالا : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه ، وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط ، وقال أصحاب الرأي : إن مسح بثلاث أصابع أجزأه وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزىء وقال قوم : يجزىء من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها ، وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه ، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس ما العضو الذي يمسح به ؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعاً وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة ، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس فالمشهور أن ذلك يجزىء وقيل لا يجزىء .
قال القاضي أبو محمد : ويترجح أنه لا يجزىء لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي أن لا يختلف في الاجزاء ، ومن مواضع الخلاف عدد المسحات ، فالجمهور على مرة واحدة ويجزىء ذلك عند الشافعي وثلاثاً أحب إليه وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين ، وروي عن أنس أنه قال يمسح الرأس ثلاثاً ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء وميسرة ، والباء في قوله { برؤوسكم } مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس ، والمعنى عنده وامسحوا رؤوسكم ، وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس كان المعنى أوجدوا مسحاً برؤوسكم فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك ، ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثاراً وأقيسة بحسب اجتهاد العلماء رحمهم الله .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وأرجلِكم » خفضاً وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصباً ، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض ، وروى عنه حفص النصب ، وقرأ الحسن والأعمش «وأرجلُكم » بالرفع المعنى فاغسلوها ، ورويت عن نافع ، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين ، فكل من قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح ، وهنا هو الجمهور وعليه علم فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو اللازم من قوله صلى الله عليه وسلم وقد رأى قوماً يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته ، «ويل للأعقاب من النار »{[4469]} ، ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين ، واختلفوا ، فقالت فرقة منهم ، الفرض في الرجلين المسح لا الغسل وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه «فاغسلوا » بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك أنس بن مالك فقال صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى : { فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم }{[4470]} قال وكان أنس إذا مسح رجليه بَّلهما وروي أيضاً عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح على رجليه وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح .
وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح ثم قال : «ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلاً ويلغى ما كان مسحاً » وروي عن أبي جعفر أنه قال : امسح على رأسك وقدميك ، وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين ، وكل من ذكرنا فقراءته «وأرجلِكم » بكسر اللام ، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم ، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح . وذهب قوم ممن يقرأ بكسر اللام إلى أن المسح في «الرجلين » هو الغسل ، وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي ، وقال أبو عبيدة وغيره في تفسير قوله تعالى : { فطفق مسحاً }{[4471]} : إنه الضرب ، ويقال : مسح علاوته{[4472]} إذا ضربه ، قال أبو علي : فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل ، ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل ، أن الحد قد وقع فيهما ب { إلى } كما وقع في الأيدي وهي مغسولة ولم يقع في الممسوح حد .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه ، فكان الوضوء مغسولين ُحَّد أحدهما وممسوحين حَُّد أحدهما ، وقال الطبري رحمه الله : إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما ثم يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلاً ماسحاً ، قال : ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضىء أن يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقد جوز ذلك قوم منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار . وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزىء . وروي ذلك عن الضحاك وهو يقرأ بكسر اللام{[4473]} .
والكلام في قوله { إلى الكعبين } كما تقدم في قوله { إلى المرافق } واختلف اللغويون في { الكعبين } فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل . وهذان هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت ، واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا كما تقدم في المرفق . وقال قوم الكعب هو العظم الناتىء في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل .
قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم أحداً جعل حد الوضوء إلى هذا ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام .
قال الشافعي رحمه الله لم أعلم مخالفاً في أن { الكعبين } هما العظمان في مجمع مفصل الساق ، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال : الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي { إلى المرافق } أي في كل يد مرفق ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب فلما كان في كل رجل كعبان خصا بالذكر ، وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان ، وقال ابن عبد الحكم ليس بفرض مع الذكر ، وقال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان ، وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واختلف فيه ، فقال الأبهري : الترتيب سنة ، وظاهر المذهب أن التنكيس{[4474]} للناسي مجزىء ، واختلف في العامد فقيل : يجزىء ويرتب في المستقبل ، وقال أبو بكر القاضي وغيره : لا يجزىء لأنه عابث .
وقوله تعالى : { وإن كنتم جنباً } الجنب مأخوذ من جنب امرأة في الأغلب ، ومن المجاورة والقرب قيل { والجار الجنب } [ النساء : 36 ] ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه ، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون { الجار الجنب } [ النساء : 36 ] هو البعيد الجوار ويكون مقابلاً للصاحب بالجنب و «اطهروا » أمر بالاغتسال بالماء ، ولذلك رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وغيرهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، وقال جمهورالناس : بل هذه العبارة هي لواجد الماء ، وقد ذكر الجنب أيضاً بعد في أحكام عادم الماء بقوله تعالى : { أو لامستم النساء } إذ الملامسة هنا الجماع ، والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء وتمر اليد مع ذلك عليه ، هذا ينغمس الرجل في الماء دون تدلك ، وقد تقدم في سورة النساء تفسير قوله عز وجل : { وإن كنتم مرضى } إلى قوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وقراءة من قرأ «من الغيط » .
وقوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلاً مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة فإنها تجيء مؤتنفة ، من تطهير المؤمنين وإتمام النعم عليهم ، وتعدية ( أراد ) وما تصرف منه بهذه اللام عرف في كلام العرب ، ومنه قول الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل{[4475]}
قال سيبويه وسألته رحمه الله عن هذا فقال ، المعنى إرادتي لأنسى ، ومن ذلك قول قيس بن سعد :
أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود{[4476]}
ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام ، وما قال الخليل لسيبويه أخصر وأحسن ، ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن من تصير زائدة في الواجب وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة [ من ] وإن لم يكن النفي واقعاً على الفعل الواقع على الحرج ، ولهذا نظائر ، والحرج : الضيق ، والحرجة : الشجر الملتف المتضايق ، ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل إنه كان في مثل الحرج من الرماح ، ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم«دين الله يسر »{[4477]} وقوله «بعثت بالحنيفية السمحة »{[4478]} وجاء لفظ الآية على العموم والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم والرخصة فيه وزوال الحرج في تحمل الماء أبداً ولذلك قال أسيد : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر .
وقوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } الآية ، إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى ، و { لعلكم } : ترجّ في حق البشر ، وقرأ سعيد بن المسيب «يطْهركم » بسكون الطاء وتخفيف الهاء .
إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص : من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً ، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع ، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيراً بنعمة عظيمة من نعم التّشريع : وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء ، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل ، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين ، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة ، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ . وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى } في سورة النّساء ( 43 ) الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء ، أم آية سورة المائدة . وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم ، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم ، وكذلك اختار الواحدي في « أسباب النّزول » ، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة : أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية ، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم ، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة ، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهواً من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمان بن القاسم وأبِيهِ ، أراد أن يذكر آية { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنباً إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا } ، وهي آية النّساء ( 43 ) ، فذكر آية { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية . فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية { يأيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة } قد نزلت قبل نزول سورة المائدة ، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة ، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة ، والأرجح عندي : أن يكون ما في حديث البخاري وهماً من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة .
فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفاً عن الوضوء بنصّ القرآن ؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآنٍ فيه ولكنّه كان مشروعاً بالسنّة . ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعاً من قبل ذلك ، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء . قال أبو بكر ابن العربي في « الأحكام » « لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية ، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولاً قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا : إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة ، معناه كان بالسنّة . فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضاً .
وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّماً له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اهـ .
وفي « سيرة ابن إسحاق » ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اهـ . وقولهم : الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود . وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة . قال بعض علمائنا : ولذلك قالوا في حديث عائشة : فنزلت آية التّيمّم ؛ ولم يقولوا : آية الوضوء ؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية .
فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة ، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك ، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن . وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل ، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء ؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة ، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء . ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا { فاطَّهّروا } ، وقوله هنالك { تغتسلوا } [ النساء : 43 ] ، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضاً عن الوضوء .
ومعنى { إذا قمتم إلى الصّلاة } إذا عزمْتم على الصّلاة ، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل ، قال الشاعر :
فقام يذود النّاس عنها بسيفه *** وقال ألا لا من سبيل إلى هند
وعلى العزم على الفعل ، قال النابغة :
أي عزموا رأيهم فقالوا . والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب ( إلى ) لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلّوا .
وروى مالك في « الموطّأ » عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم ، وهو مروي عن السديُّ . فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية ، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة .
وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط ب { إذا قمتم } فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة . والأمر ظاهر في الوجوب . وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف ؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري ، ولم يذكر ذلك ابن حزم في « المحلّى » ولم أره لغير الطبرسي .
وقال بريدة بن أبي بردة : كان الوضوء واجباً على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد ، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد . وقال بعضهم : هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه ، كيفَ وهي مصدّرة بقوله : { يأيّها الّذين آمنوا } . والجمهور حملوا الآية على معنى « إذا قمتُم محدثين » ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء ( 43 ) المصدّرة بقوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - إلى قوله- ولا جُنباً } الآية . وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضاً على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصّاً به غير داخل في هذه الآية ، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة ؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة . وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره . والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء . وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها ؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط ، هو القيام إلى الصّلاة ، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله : { وإنْ كنتم مرضى -إلى قوله- أو جاء أحد منكم من الغائط -إلى قوله- فلم تجدوا ماء فتيمّموا } فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء ، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات ، إمّا مانِعٍ من أصل الوضوء وهو المرض والسفر ، وإمَّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ، فإن وجد الماء فالوضوء وإلاّ فالتيمّم ، فمفهوم الشرط وهو قوله : { وإن كنتم مرضى } ومفهوم النّفي وهو { فلم تجدوا ماء } تأويل بَيِّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل ، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب .
وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة . وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو ، ولذلك اقتصر على قوله : { وأيديكم } في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء . وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة ، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما .
وقد اختلف الأيمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة ، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود . وفي « المدارك » أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها . ثمّ قال للسائل بعد أيّام : قرأت « كتاب سيبويه » فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود . وفي مذهب مالك : قولان في دخول المرافق في الغسل ، وأوْلاهما دخولهما . قال الشيخ أبو محمد : وإدخالهما فيه أحوط لزوال تَكلُّف التحديد . وعن أبي هريرة : أنّه يغسل يديه إلى الإبطين ، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغُرّة يوم القيامة . وقيل : تكره الزيادة .
وقوله : { وأرجلكم } قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوبُ بالنّصب عطفاً على { وأيديكم } وتكون جملة { وامسحوا برؤوسكم } معترضة بين المتعاطفين . وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي ، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة ؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضاً للوسخ ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتُفرز الفضلات بكثرة حركة المشي ، ولذلك كان النّبيء صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها ، وقد نادَى بأعلى صوته للذي لم يُحسن غسل رجليه " وَيْلٌ للأعقاب من النّار "
وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بخفض { وأرجلكم } . وللعلماء في هذه القراءة تأويلات : منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكمَ الرجلين المسح دون الغسل ، وروي هذا عن ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة . وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوماً بالأهواز فذكر الوضوء فقال : « إنَّه ليس شيء من ابن آدم أقربَ مِن خبثه مِن قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما » فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق اللّهُ وكذب الحجّاج قال الله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم } . ورويت عن أنس رواية أخرى : قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل ، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسحُ الرجلين منسوخاً بالسنّة ، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضّؤون وأعقابهم تلوح ، فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النّار » مرّتين . وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلاّ الإمامية من الشيعة ، قالوا : ليس في الرجلين إلاّ المسح ، وإلاّ ابن جرير الطبري : رأى التخيير بين الغسل والمسح ، وجعَل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح .
واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء . ومن الذين قرأوا بالخفض من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل ، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مراداً هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح .
وجملة { وإن كنتم جنباً فاطّهروا إلى قوله وأيديكم منه } مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا .
وجملة { مَا يريد الله ليجعل عليكم من حرج } تعليل لرخصة التيمّم ، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق .
واللام في { ليجعل } داخلة على أن المصدرية محذوفةً وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر ، وهي لام زائدة على الأرجح ، وتسمّى لام أَنْ . وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يُريد الله ليبيّن لكُم } في سورة النّساء ( 26 ) ، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود .
والحرج : الضيق والشدّة ، والحَرَجَة : البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق ، والجمع حَرَج . والحَرج المنفي هنا هو الحرج الحِسّي لو كلّفوا بطَهارة الماء مع المرض أو السفر ، والحرجُ النفسي لو مُنِعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفرٍ أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها .
وقوله : { ولكن يريد ليطهّركم } إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف ، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة ؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار : منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة ؛ ومنها ما لا يعلمه إلاّ الله ، ككون الظهر أربع ركعات ، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكمَ منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم ، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم ، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثُمّ يقضون الجميع . فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جُعل التّيمّم بدلاً عن الوضوء ، كما تقدّم في سورة النساء .
وقوله { وليتمّ نعمته عليكم } أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام ، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكيّة والتطهير مع التيْسير في أحوال كثيرة . فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن ، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم .
وقوله : { لعلّكم تشكرون } أي رجاء شكركم إيّاه . جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول .