{ 11 - 31 } { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ }
هذه الآيات ، نزلت في الوليد بن المغيرة ، معاند الحق ، والمبارز لله ولرسوله بالمحاربة والمشاقة ، فذمه الله ذما لم يذمه{[1281]} غيره ، وهذا جزاء كل من عاند الحق ونابذه ، أن له الخزي في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أخزى ، فقال : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } أي : خلقته منفردا ، بلا مال ولا أهل ، ولا غيره ، فلم أزل أنميه وأربيه{[1282]} .
ثم ذكر - سبحانه - جانبا من قصة زعيم من زعماء المشركين . افترى الكذب على الله - تعالى - وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فكانت عاقبته العذاب المهين ، فقال - تعالى - : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً . وَبَنِينَ شُهُوداً . وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلاَّ . . . } .
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت فى شأن الوليد بن المغيرة المخزومى ، وذكروا فى ذلك روايات منها : أن المشركين عندما اجتمعوا فى دار الندوة ، ليتشاوروا فيما يقولونه فى شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وفى شأن القرآن الكريم - قبل أن تقدم عليهم وفود العرب للحج . فقال بعضهم : هو شاعر ، وقال آخرون بل هو كاهن . . أو مجنون . . وأخذ الوليد يفكر ويرد عليهم ، ثم قال بعد أن فكر وقدر : ما هذا الذى يقوله محمد صلى الله عليه وسلم إلا سحر يؤثر ، أما ترونه يفرق بين الرجل وامرأته ، وبين الأخ وأخيه . .
قال الآلوسى : نزلت هذه الآيات فى الوليد بن المغيرة المخزومى ، كما روى عن ابن عباس وغيره . بل قيل : كونها فيه متفق عليه . . وقوله : { وَحِيداً } حال من الياء فى { ذَرْنِي } أى : ذرنى وحدى معه فأنا أغنيك فى الانتقام منه ، أو من التاء فى خلقت أى : خلقته وحدى ، لم يشركنى فى خلقه أحد ، فأنا أهلكه دون أن أحتاج إلى ناصر فى إهلاكه ، أو من الضمير المحذوف العائد على " مَن " أى : ذرنى ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد .
. وكان الوليد يلقب فى قومه بالوحيد . . لتفرده بمزايا ليست فى غيره - فتهكم الله - تعالى - به وبلقبه ، أو صرف هذا اللقب من المدح إلى الذم .
أى : اصبر - أيها الرسول الكريم - على ما يقوله أعداؤك فيك من كذب وبهتان ، واتركنى وهذا الذى خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد ثم أعطيته الكثير من النعم ، فلم يشكرنى على ذلك .
والتعبير بقوله { ذَرْنِي } للتهديد والوعيد ، وهذا الفعل يأتى منه الأمر والمضارع فحسب ، ولم يسمع منه فعل ماض .
والخطاب للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومعناه خل بيني وبين هذا الذي خلقته وحيدا مجردا من كل شيء آخر مما يعتز به من مال كثير ممدود وبنين حاضرين شهود ونعم يتبطر بها ويختال ويطلب المزيد . خل بيني وبينه ولا تشغل بالك بمكره وكيده . فأنا سأتولى حربه . . وهنا يرتعش الحس ارتعاشة الفزع المزلزل ؛ وهو يتصور انطلاق القوة التي لا حد لها . . قوة الجبار القهار . . لتسحق هذا المخلوق المضعوف المسكين الهزيل الضئيل ! وهي الرعشة التي يطلقها النص القرآني في قلب القارئ والسامع الآمنين منها . فما بال الذي تتجه إليه وتواجهه !
ويطيل النص في وصف حال هذا المخلوق ، وما آتاه الله من نعمه وآلائه ، قبل أن يذكر إعراضه وعناده . فهو قد خلقه وحيدا مجردا من كل شيء حتى من ثيابه ! ثم جعل له مالا كثيرا ممدودا . ورزقه بنين من حوله حاضرين شهودا ، فهو منهم في أنس وعزوة . ومهد له الحياة تمهيدا ويسرها له تيسيرا . . ( ثم يطمع أن أزيد ) . . فهو لا يقنع بما أوتي ، ولا يشكر ويكتفي . . أم لعله يطمع في أن ينزل عليه الوحي وأن يعطى كتابا كما سيجيء في آخر السورة : ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ) . . فقد كان ممن يحسدون الرسول[ صلى الله عليه وسلم ] على إعطائه النبوة .
ذرني ومن خلقت وحيدا نزلت في الوليد بن المغيرة و وحيدا حال من الياء أي ذرني وحدي معه فإني أكفيكه أو من التاء أي ومن خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد أو من العائد المحذوف أي من خلقته فريدا لا مال له ولا ولد أو ذم فإنه كان ملقبا به فسماه الله به تهكما أو إرادة أنه وحيد ولكن في الشرارة أو عن أبيه فإنه كان زنيما .
قوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } وعيد محض ، المعنى أنا أكفي عقابه وشأنه كله . ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، فروي أنه كان يلقب الوحيد ، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته ، فذكر الوحيد في الآية في جملة النعمة التي أعطي وإن لم يثبت هذا ، فقوله تعالى : { خلقت وحيداً } معناه منفرداً قليلاً ذليلاً ، فجعلت له المال والبنين{[11420]} ، فجار ذكر الوحدة مقدمة حسن معها وقوع المال والبنين ، وقيل المعنى خلقته وحدي لم يشركني فيه أحد ، ف { وحيداً } حال من التاء في { خلقت }{[11421]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذرني ومن خلقت وحيدا} يعني الوليد بن المغيرة المخزومي، كان يسمى الوحيد في قومه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كِل يا محمد أمر الذي خلقته في بطن أمه وحيدا، لا شيء له من مال ولا ولد إليّ. وذُكر أنه عُنِي بذلك: الوليد بن المغيرة المخزومي.
عن مجاهد:"ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا" قال: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكذلك الخلق كلهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن المغيرة.
والأصل أن الأنباء التي ذكرت عن الأنبياء المتقدمة في المخاطبات التي جرت بينهم وبين الفراعنة، فيها إبانة أنها جرت بينهم وبين الآحاد منهم؛ وذلك أن فرعون كل نبي، كان واحدا، وكان من سواه يصدر عن رأيه، وينتهي إلى تدبيره، فكان يستغني عن مخاطبة من سواه. وقد كثرت فراعنة نبينا صلى الله عليه وسلم فكان كل واحد منهم يدعي الرئاسة لنفسه، ويمتنع عن متابعة غيره والصدور عن رأيه والانقياد له. منهم أبو جهل، ومنهم الوليد بن المغيرة، ومنهم أبو لهب، وغيرهم.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أن يخاطب كلا في نفسه، ومن احتاج إلى مخاطبة أقوام وإجابة كل واحد بحياله، كان الأمر عليه أصعب من الذي احتاج إلى مخاطبة واحد. وهذا أن المحنة على رسولنا عليه السلام كانت أشد مما امتحن من تقدمه من الرسل عليه السلام.
ثم قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنعه عن شيء حتى يقول له: ذرني، ولكن هذا الكلام مما يتكلم به على الابتداء على جهة إظهار القوة؛ يقول الرجل لآخر: خلّ بيني وبين فلان، ودعني وإياه، من غير أن يكون سبق منه المنع، فيريد به إظهار القوة من نفسه أنه كافيه وقادر على دفع شره عن نفسه، فيكون في قوله: {ذرني ومن خلقت وحيدا} دعاء من الله تعالى إياه إلى ألا تتعرض له، ولا تجازيه بصنيعه، فإن الله تعالى يكفه، ويدفع عنك شره، أو يكون فيه نهي عن أن يدعو عليه بالهلاك والثبور، وتصبير إلى أن يأتيه أمر الله تعالى، فيكون في هذا مَسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك أن المتنازعين، إذا تنازعوا في شيء، وحدث بينهما شر، فانتصب ثالث في نصر أحدهما، خفّ الأمر على المنصور، ويفرح لذلك، ويسلو به، فإذا كان الله تعالى هو الذي يقوم بنصر المصطفى عليه السلام، [وبكف عدوه عنه كان ذلك أكثر في التسلي والتفريج، فيكون في هذا تمكين من الصبر الذي دعاه إليه بقوله: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} [الأحقاف: 35] وبقوله: {واصبر لحكم ربك} الآية [الطور: 48].
وقوله عز وجل: {خلقت وحيدا} يحتمل وجهين:
أحدهما: أي خلقته وحدي، ولم يكن لي في الخلق ناصر ومعين ولا مشير.
[والثاني: أن يكون معناه: أي خلقته وحيدا، لا مال له، ولا ولد، فيكون في هذا وعيد وتخويف لذلك اللعين، أي كيف لا يخاف أن يعاد إلى الحالة التي كان عليها يوم خلق بلا مال ولا ناصر كقوله: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} [الأنعام: 94].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيداً} وعيد محض، المعنى أنا أكفي عقابه وشأنه كله. ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، فروي أنه كان يلقب الوحيد، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته، فذكر الوحيد في الآية في جملة النعمة التي أعطي وإن لم يثبت هذا، فقوله تعالى:
{خلقت وحيداً} معناه منفرداً قليلاً ذليلاً، فجعلت له المال والبنين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وينتقل من هذا التهديد العام إلى مواجهة فرد بذاته من المكذبين؛ يبدو أنه كان له دور رئيسي خاص في التكذيب والتبييت للدعوة؛ فيوجه إليه تهديدا ساحقا ماحقا، ويرسم له صورة منكرة تثير الهزء والسخرية من حاله وملامح وجهه ونفسه التي تبرز من خلال الكلمات كأنها حية شاخصة متحركة الملامح والسمات: (ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له مالا ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد! كلا! إنه كان لآياتنا عنيدا. سأرهقه صعودا. إنه فكر وقدر. فقتل! كيف قدر؟ ثم قتل! كيف قدر؟ ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال:إن هذا إلا سحر يؤثر. إن هذا إلا قول البشر. سأصليه سقر. وما أدراك ما سقر؟ لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر، عليها تسعة عشر...).. وقد وردت روايات متعددة بأن المعني هنا هو الوليد بن المغيرة المخزومي. قال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثورة، عن معمر، عن عبادة بن منصور، عن عكرمة، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال له:أي عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا:قال:لم؟ قال:يعطونكه، فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله [يريد بخبث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أن الوليد أشد بها اعتزازا] قال:قد علمت قريش أني أكثرها مالا! قال:فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له! قال:فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن! والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا. والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى.. قال:والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه.. قال:فدعني حتى أفكر فيه.. فلما فكر قال:إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره. فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيدا -حتى بلغ- عليها تسعة عشر. وفي رواية أخرى أن قريشا قالت:لئن صبأ الوليد، لتصبون قريش كلها! فقال أبو جهل:أنا أكفيكموه! ثم دخل عليه!.. وأنه قال بعد التفكير الطويل:إنه سحر يؤثر. أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه؟ هذه هي الواقعة كما جاءت بها الروايات. فأما القرآن فيسوقها هذه السياقة الحية المثيرة.. يبدأ بذلك التهديد القاصم الرهيب.