40- فكل أمة من هذه الأمم المكذبة برسلها أهلكها الله بسبب كفرها وما ارتكبت من المعصية ، فبعض هذه الأمم أهلكه الله بالريح العاصفة التي حصبتهم بالحجارة ، وبعضهم هلك بالصيحة المدوية المهلكة ، وبعضهم خسف الله به الأرض ، وبعضهم أغرقه الله في اليم . ولم يكن هذا العذاب ظلماً من الله لهم ، بل كان بسبب كفرهم وارتكابهم الذنوب .
قوله تعالى : { فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } وهم قوم لوط ، والحاصب : الريح التي تحمل الحصب وهي الحصا الصغار ، { ومنهم من أخذته الصيحة } يعني ثمود ، { ومنهم من خسفنا به الأرض } يعني قارون وأصحابه ، { ومنهم من أغرقنا } يعني : قوم نوح ، وفرعون وقومه . { وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون* }
{ فَكُلا } من هؤلاء الأمم المكذبة { أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } على قدره ، وبعقوبة مناسبة له ، { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } أي : عذابا يحصبهم ، كقوم عاد ، حين أرسل اللّه عليهم الريح العقيم ، و { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
{ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } كقوم صالح ، { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ } كقارون ، { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } كفرعون وهامان وجنودهما .
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ } أي : ما ينبغي ولا يليق به تعالى أن يظلمهم لكمال عدله ، وغناه التام عن جميع الخلق . { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } منعوها حقها التي هي بصدده ، فإنها مخلوقة لعبادة اللّه وحده ، فهؤلاء وضعوها في غير موضعها ، وأشغلوها بالشهوات والمعاصي ، فضروها غاية الضرر ، من حيث ظنوا أنهم ينفعونها .
ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء المكذبين ، ببيان سنة من سننه التى لا تتخلف ، فقال : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } .
أى : فكلا من هؤلاء المذكورين كقوم نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح ، وكقارون وفرعون وهامان وأمثالهم : كلا من هؤلاء الظالمين أخذناه وأهلكناه بسبب ذنوبه التى اصر عليها دون أن يرجع عنها .
{ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } أى : فمن هؤلاء الكافرين من أهلكناه ، بأن أرسلنا عليه ريحا شديدة رمته بالحصباء فأهلكته .
قال القرطبى : قوله : { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } يعنى قوم لوط . والحاصب ريح يأتى بالحصباء ، وهى الحصى الصغار . وتستعمل فى كل عذاب .
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة } كما حدث لقوم صالح وقوم شعيب - عليهما السلام - .
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض } وهو قارون .
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } كما فعلنا مع قوم نوح ومع فرعون وقومه .
{ وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } أى : وما كان الله - تعالى - مريدا لظلمهم ، لأنه - سبحانه - اقتضت رمته وحكمته ، أن لا يعذب أحدا بدون ذنب ارتكبه .
{ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أى : ما ظلم الله - تعالى - هؤلاء المهلكين ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، وعرضوها للدمار ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، واتباعهم للهوى والشيطان .
وبذلك نرى الآيات قد قصت على الناس مصارع الغاربين ، الذين كذبوا الرسل ، وحاربوا دعوة الحق ، ليكون فى هذا القصص عبرة للمعتبرين ، وذكرى للمتذكرين .
هؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة ، قد أخذهم الله جميعا . بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلا :
( فكلا أخذنا بذنبه ، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا . وما كان الله ليظلمهم ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) .
فعاد أخذهم حاصب وهو الريح الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم ، وثمود أخذتهم الصيحة . وقارون خسف به وبداره الأرض ، وفرعون وهامان غرقا في اليم . وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم . ( وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . .
{ فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } أي : كانت عقوبته بما يناسبه ، { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } ، وهم عاد ، وذلك أنهم قالوا : مَنْ أشدُّ منا قوة ؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد ، عاتية شديدة الهبوب جدا ، تحمل عليهم حصباء الأرض فتقلبها عليهم ، وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم إلى عَنَان السماء ، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى بدنًا بلا رأس ، كأنهم أعجاز نخل منقعر{[22584]} . { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } ، وهم ثمود ، قامت عليهم الحجة وظهرت لهم{[22585]} الدلالة ، من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة ، مثل ما سألوا سواء بسواء ، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم ، وتهددوا نبي الله صالحا ومَنْ آمن معه ، وتوعَّدوهُم بأن يخرجوهم ويرجموهم ، فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات . { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ } ، وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا ، وعصى الرب الأعلى ، ومشى في الأرض مرحًا ، وفرح ومرح وتاه بنفسه ، واعتقد أنه أفضل من غيره ، واختال في مشيته ، فخسف الله به وبداره الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } ، وهم{[22586]} فرعون ووزيره هامان ، وجنوده عن آخرهم ، أغرقوا في صبيحة واحدة ، فلم ينج منهم مخبر ، { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : فيما فعل بهم ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم .
وهذا الذي ذكرناه ظاهر سياق الآية ، وهو من باب اللف والنشر ، وهو أنه ذكر الأمم المكذبة ، ثم قال : { فَكُلا{[22587]} أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ } [ الآية ]{[22588]} ، أي : من هؤلاء المذكورين ، وإنما نبهتُ على هذا لأنه قد روي أن ابن جريج قال : قال{[22589]} ابن عباس في قوله : { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } ، قال : قوم لوط . { وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا } ، قال : قوم نوح .
وهذا{[22590]} منقطع عن ابن عباس ؛ فإن ابن جُرْيَج لم يدركه . ثم قد ذكر في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان ، وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء ، وطال السياقُ والفصلُ بين ذلك وبين هذا السياق .
وقال قتادة : { فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } قال : قوم لوط ، { وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } ، قوم شعيب . وهذا بعيد أيضا لما تقدم ، والله أعلم .
{ فكلا } من المذكورين . { أخذنا بذنبه } عاقبناه بذنبه . { فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا } ريحا عاصفا فيها حصباء ، أو ملكا رماهم بها كقوم لوط . { ومنهم من أخذته الصيحة } كمدين وثمود . { ومنهم من خسفنا به الأرض } كقارون . { ومنهم من أغرقنا } كقوم نوح وفرعون وقومه . { وما كان الله ليظلمهم } ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من عادته عز وجل . { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالتعرض للعذاب .