قوله تعالى : { قالوا } ، يعني ثمود ، { يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا } ، القول ، أي : كنا نرجوا أن تكون سيدا فينا . وقيل : كنا نرجوا أن تعود إلى ديننا ، وذلك أنهم كانوا يرجون رجوعه إلى دين عشيرته ، فلما أظهر دعاءهم إلى الله عز وجل وترك الأصنام زعموا أن رجاءهم انقطع عنه ، فقالوا { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } من قبل ، من الآلهة ، { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } ، موقع للريبة والتهمة ، يقال : أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة .
{ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا } أي : قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع ، وهذا شهادة منهم ، لنبيهم صالح ، أنه ما زال معروفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وأنه من خيار قومه .
ولكنه ، لما جاءهم بهذا الأمر ، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة ، قالوا هذه المقالة ، التي مضمونها ، أنك [ قد ] كنت كاملا ، والآن أخلفت ظننا فيك ، وصرت بحالة لا يرجى منك خير .
وذنبه ، ما قالوه عنه ، وهو قولهم : { أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } وبزعمهم أن هذا من أعظم القدح في صالح ، كيف قدح في عقولهم ، وعقول آبائهم الضالين ، وكيف ينهاهم عن عبادة ، من لا ينفع ولا يضر ، ولا يغني شيئا من الأحجار ، والأشجار ونحوها .
وأمرهم بإخلاص الدين لله ربهم ، الذي لم تزل نعمه عليهم تترى ، وإحسانه عليهم دائما ينزل ، الذي ما بهم من نعمة ، إلا منه ، ولا يدفع عنهم السيئات إلا هو .
{ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي : ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه ، شكا مؤثرا في قلوبنا الريب ، وبزعمهم أنهم لو علموا صحة ما دعاهم إليه ، لاتبعوه ، وهم كذبة في ذلك ،
ثم حكى القرآن ما رد به قوم صالح عليه فقال : { قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا . . } .
أى : قال قوم صالح له بعد أن دعاهم لما يسعدهم : يا صالح لقد كنت فينا رجلا فاضلا نرجوك لمهمات الأمور فينا لعلمك وعقلك وصدقك . . قبل أن تقول ما قلته ، أما الآن وبعد أن جئتنا بهذا الدين الجديد فقد خاب رجاؤنا فيك ، وصرت فى رأينا رجلا مختل التفكير .
فالإِشارة فى قوله { قَبْلَ هذا } إلى الكلام الذى خاطبهم به حين بعثه الله إليهم .
والاستفهام فى قولهم { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } للتعجيب والإِنكار .
أى : أجئتنا بدعوك الجديد لتنهانا عن عبادة الآلهة التى كان يعبدها آباؤنا من قبلنا ؟
لا ، إننا لن نستجيب لك ، وإنما نحن قد وجدنا آباءنا على دين وإننا على آثارهم نسير .
ثم ختموا ردهم عليه بقولهم : { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } .
ومريب : اسم فاعل من أراب . تقول : أربت فلانا فأنا أريبه ، إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة أى : القلق والاضطراب .
أى : لن نترك عبادة الأصنام التى كان يعبدها آباؤنا ، وإننا لفى شك كبير ، وريب عظيم من صحة ما تدعونا إليه .
ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها ، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق ، ولا وضاءة هذا الجو الطليق . . وإذا بهم يفاجأون ، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون !
( قالوا : يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ) . .
لقد كان لنا رجاء فيك . كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك ، أو لهذا جميعه . ولكن هذا الرجاء قد خاب . .
( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) . .
إنها للقاصمة ! فكل شيء يا صالح إلا هذا ! وما كنا لنتوقع أن تقولها ! فيا لخيبة الرجاء فيك ! ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه . شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول :
( وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ) . .
وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه ؛ بل يستنكرون ما هو واجب وحق ، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده . لماذا ؟ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير . ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة !
وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين . وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء !
وهكذا يتبين مرة ثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد ، ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل وتذكرنا قولة ثمود لصالح :
( قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) . .
تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد [ ص ] وأمانته . فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح ، وقالوا : ساحر . وقالوا : مفتر . ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه !
إنها طبيعة واحدة ، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور . .
يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح ، عليه السلام ، وبين قومه ، وما كان عليه قومه من الجهل والعناد في قولهم : { قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا } أي : كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت ! { أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } وما كان عليه أسلافنا ، { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي : [ في ]{[14713]} شك كثير{[14714]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ يَصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هََذَا أَتَنْهَانَآ أَن نّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنّنَا لَفِي شَكّ مّمّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } .
يقول تعالى ذكره : قالت ثمود لصالح نبيهم : يا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فينا مَرْجُوّا : أي كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قَبْلَ هَذَا القول الذي قلته لنا من أنه مالنا من إله غير الله . أتَنْهانا أنْ نَعْبُد ما يَعْبُدُ آباؤُنا يقول : أتنهانا أن نعبد الاَلهة التي كانت آباؤنا تعبد ، وَإنّنا لَفِي شَكّ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ مُرِيبٍ يعنون أنهم لا يعلمون صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله ، وأن الألوهة لا تكون إلا له خالصا . وقوله مُرِيبٍ أي يوجب التهمة من أَرَبْته فأنا أَرِيُبه إرابة ، إذا فعلت به فعلاً يوجب له الريبة ، ومنه قول الهُذَليّ :
كُنتُ إذا أتَوْتُهُ منْ غَيْبِ *** يَشُمّ عِطْفي وَيُبزّ ثَوْبِي
{ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا } لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد أن تكون لنا سيدا ومستشارا في الأمور ، أو أن توافقنا في الدين فلما سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا عنك . { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } على حكاية الحال الماضية . { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه } من التوحيد والتبري عن الأوثان . { مريب } موقع في الريبة من أرابه ، أو ذي ريبة على الإسناد المجازي من أراب في الأمر .
هذا جوابهم عن دعوته البليغة الوجيزة المَلأى إرشاداً وهدياً . وهو جواب مُلىء بالضلال والمكابرة وضعف الحجة .
وافتتاح الكلام بالنّداء لقصد التوبيخ أو الملام والتّنبيه ، كما تقدّم في قوله : { قالوا يا هود ما جئتنا ببيّنة } [ هود : 53 ] . وقرينة التّوبيخ هنا أظهر ، وهي قولهم : { قد كنت فينا مرجوا قبل هذا } فإنّه تعريض بخيبة رجائهم فيه فهو تعنيف .
وحذف متعلّق { مرجواً } لدلالة فعل الرجاء على أنّه ترقب الخير ، أي مرجواً للخير ، أي والآن وقع اليأس من خيرك . وهذا يفهم منه أنّهم يَعدّون ما دعاهم إليه شرّاً ، وإنما خاطبوه بمثل هذا لأنّه بعث فيهم وهو شاب ( كذا قال البغوي في تفسير سورة الأعراف ) أي كنت مرجواً لخصال السيادة وحماية العشيرة ونصرة آلهتهم .
والإشارة في { قبل هذا } إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم .
وجملة { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } بيان لجملة { قد كنت فينا مرجواً } باعتبار دلالتها على التعنيف ، واشتمالها على اسم الإشارة الذي تبيّنه أيضاً جملة { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } .
وعبّروا عن أصنامهم بالموصول لِمَا في الصّلة من الدّلالة على استحقاق تلك الأصنام أن يعبدوها في زعمهم اقتداءً بآبائهم لأنّهم أسوة لهم ، وذلك ممّا يزيد الإنكار اتّجاهاً في اعتقادهم .
وجملة { وإنّنا لفي شك } معطوفة على جملة { يا صالح قد كنت فينا مرجواً } ، فبعد أن ذكروا يأسهم من صلاح حاله ذكروا أنّهم يشكون في صدق أنه مرسل إليهم وزادوا ذلك تأكيداً بحرف التأكيد . ومن محاسن النّكت هنا إثبات نون ( إنّ ) مع نون ضمير الجمع لأنّ ذلك زيادة إظهار لحرف التوْكيد والإظهار ضرب من التحقيق بخلاف ما في سورة إبراهيم ( 9 ) من قول الأمم لرسلهم : { وإنّا لفي شكّ ممّا تدعوننا } لأنّ الحكاية فيها عن أمم مختلفة في درجات التّكذيب ، ولأنّ ما في هاته الآية خطاب لواحد ، فكان { تدعونا } بنون واحدة هي نون المتكلم ومَعهُ غيره فلم يقع في الجملة أكثر من ثلاث نونات بخلاف ما في سورة إبراهيم لأنّ الحكاية هنالك عن جمع من الرسل في ( تدعُوننا ) فلو جاء ( إنّنا ) لاجتمع أربع نونات .
والمريب : اسم فاعل من أراب إذا أوقع في الريب ، يقال : رابه وأرابه بمعنى ، ووصف الشك بذلك تأكيد كقولهم : جدّ جدّه .