قوله تعالى : { يحسبون } يعني : هؤلاء المنافقين ، { الأحزاب } يعني : قريشاً وغطفان واليهود ، { لم يذهبوا } لم ينصرفوا عن قتالهم جبناً وفرقاً وقد انصرفوا ، { وإن يأت الأحزاب } أي : يرجعوا إليهم للقتال بعد الذهاب ، { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب } أي : يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من الخوف والجبن ، يقال : بدا يبدو بداوةً ، إذا خرج إلى البادية ، { يسألون عن أنبائكم } أخباركم وما آل إليه أمركم ، وقرأ يعقوب : يساءلون مشددة ممدودة ، أي : يتساءلون ، { ولو كانوا } يعني : هؤلاء المنافقين ، { فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً } تعذيراً ، أي : يقاتلون قليلاً يقيمون به عذرهم ، فيقولون قد قاتلنا . قال الكلبي : إلا قليلاً أي : رمياً بالحجارة . وقال مقاتل : إلا رياءً وسمعةً من غير احتساب .
{ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا } أي : يظنون أن هؤلاء الأحزاب ، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأصحابه ، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم ، فخاب ظنهم ، وبطل حسبانهم .
{ وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ } أي : لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة ، ودَّ هؤلاء المنافقون ، أنهم ليسوا في المدينة ، ولا في القرب منها ، وأنهم مع الأعراب في البادية ، يستخبرون عن أخباركم ، ويسألون عن أنبائكم ، ماذا حصل عليكم ؟
فتبًا لهم ، وبعدًا ، فليسوا ممن يبالى{[697]} بحضورهم { وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا } فلا تبالوهم ، ولا تأسوا عليهم .
ثم ختم - سبحانه - هذا الحديث الجامع عن صفات المنافقين عند الشدائد والمحق فقال : { يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ } .
أى : أن هؤلاء المنافقين بلغ بهم الجبن والخور ، أنهم حتى بعد رحيل الأحزاب عن المدينة ، ما زالوا يحسبون ويظنون أنهم لم يذهبوا عنها ، فهم يأبون أن يصدقوا أن الله - تعالى - قد رد الذين كفروا بغيظهم دون أن ينالوا خيرا .
وفى هذه الجملة ما فيها من التهكم بالمنافقين ، حيث وصفتهم بأنهم حتى بعد ذهاب أسباب الخوف ، ما زالوا فى جبنهم يعيشون .
ثم بين - سبحانه - حالهم فيما لو عاد الأحزاب على سبيل الفرض والتقدير فقال : { وَإِن يَأْتِ الأحزاب } .
{ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب } أى : وإن تعد جيوش الأحزاب إلى مهاجمة المدينة مرة ثانية ، يتمنى هؤلاء المنافقون ، أن يكونوا غائبين عنها ، نازلين خارجها مع أهل البوادى من الأعراب ، حتى لا يعرضوا أنفسهم للقتال .
فقوله : { بَادُونَ } جمع باد وهو ساكن البادية . يقال : بدا القوم بَدَّا ، إذا نزحوا من المدن إلى البوادى .
والأعراب : جمع أعرابى وهو من يسكن البادية .
ثم بين - سبحانه - تلهفهم على سماع الأخبار السيئة عن المؤمنين فقال : { يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً } .
أى : هؤلاء المنافقون يسألون القادمين من المدينة ، والذاهبين إليها من أخباركم - أيها المؤمنون - حتى لكأنهم غير ساكنين فيها .
ولو كانوا فيكم عندما يعود الكافرون إلى المدينة - على سبيل الفرض - ما قاتلوا معكم إلا قتالا قليلا حتى لا ينكشف أمرهم انكشافا تاما . فهم لا يقاتلون عن رغبة ، وإنما يقاتلون رياء ومخادعة .
وهكذا نجد الآيات الكريمة قد أفاضت فى شرح الأحوال القبيحة التى كان عليها المنافقون عندما هاجمت جيوش الأحزاب المدينة ، ووصفتهم بأبشع الصفات وأبغضها إلى كل نفس كريمة ، حتى يحذرهم المؤمنون .
وكعادة القرآن الكريم فى المقارنة بين الأخيار والأشرار ، ساقت السورة بعد ذلك صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين ، الذين عندما رأوا جيوش الأحزاب قالوا : { هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } والذين صدقوا ما عدوا الله عليه دون أن يبدلوا تبديلا .
فأما يوم الأحزاب فيمضي النص في تصويرهم صورة مضحكة زرية :
( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ) . .
فهم ما يزالون يرتعشون ، ويتخاذلون ، ويخذلون ! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت ، وأنه قد ذهب الخوف ، وجاء الأمان !
( وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ) . .
يا للسخرية ! ويا للتصوير الزري ! ويا للصورة المضحكة ! وإن يأت الأحزاب يود هؤلاء الجبناء لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة يوما من الأيام . ويتمنون أن لو كانوا من أعراب البادية ، لا يشاركون أهل المدينة في حياة ولا في مصير . ولا يعلمون - حتى - ما يجري عند أهلها . إنما هم يجهلونه ، ويسألون عنه سؤال الغريب عن الغريب ! مبالغة في البعد والانفصال ، والنجاة من الأهوال !
يتمنون هذه الأمنيات المضحكة ، مع أنهم قاعدون ، بعيدون عن المعركة ، لا يتعرضون لها مباشرة ؛ إنما هو الخوف من بعيد ! والفزع والهلع من بعيد ! ( ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ) . .
وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة . صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة ؛ والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل . بنفس الملامح ، وذات السمات . . ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج ، والسخرية منه ، والابتعاد عنه ، وهو انه على الله وعلى الناس .
وهذا أيضا من صفاتهم القبيحة في الجبن والخوف والخور ، { يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا } بل هم قريب منهم ، وإن لهم عودة إليهم { وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ } أي : ويَوَدّون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون{[23259]} حاضرين معكم في المدينة بل في البادية ، يسألون عن أخباركم ، وما كان من أمركم مع عدوكم ، { وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا } أي : ولو كانوا بين أظهركم ، لما قاتلوا معكم إلا قليلا ؛ لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّواْ لَوْ أَنّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مّا قَاتَلُوَاْ إِلاّ قَلِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : يحسب هؤلاء المنافقون الأحزاب ، وهم قريش وغطفان . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان يَحْسَبُونَ الأحْزَابُ لَمْ يَذْهَبُوا قريش وغطفان .
وقوله : لَمْ يَذْهَبُوا يقول : لم ينصرفوا ، وإن كانوا قد انصرفوا جبنا وهَلعا منهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا قال : يحسبونهم قريبا .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ قَدْ ذَهَبُوا ، فإذَا وَجَدُوهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا وَدّوا لَوْ أنّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ » .
وقوله : وَإنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّوا لَوْ أنهُمْ بادُونَ فِي الأعْرابِ يقول تعالى ذكره : وإن يأت المؤمنين الأحزاب وهم الجماعة : واحدهم حزب يَوَدّوا يقول : يتمنوا من الخوف والجبن أنهم غيب عنكم في البادية مع الأعراب خوفا من القتل . وذلك أن قوله : لَوْ أنّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ تقول : قد بدا فلان إذا صار في البدو فهو يبدو ، وهو باد وأما الأعراب : فإنهم جمع أعرابيّ ، وواحد العرب عربيّ ، وإنما قيل أعرابيّ لأهل البدو ، فرقا بين أهل البوادي والأمصار ، فجعل الأعراب لأهل البادية ، والعرب لأهل المصر .
وقوله : يَسأَلُونَ عَنْ أنْبائِكُمْ يقول : يستخبر هؤلاء المنافقون أيها المؤمنون الناس عن أنبائكم ، يعني عن أخباركم بالبادية ، هل هلك محمد وأصحابه ؟ نقول : يتمنون أن يسمعوا أخباركم بهلاككم ، أن لا يشهدوا معكم مشاهدكم . وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إلاّ قَلِيلاً يقول تعالى ذكره للمؤمنين : ولو كانوا أيضا فيكم ما نفعوكم ، وما قاتلوا المشركين إلاّ قليلاً . يقول : إلاّ تعذيرا ، لأنهم لا يقاتلونهم حسبة ولا رجاء ثواب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله يَسألَونَ عَنْ أنْبائِكُمْ قال : أخباركم . وقرأت قرّاء الأمصار جميعا سوى عاصم الجحدري : يَسأَلُونَ عَنْ أنْبائِكُمْ بمعنى : يسألون من قدم عليهم من الناس عن أنباء عسكركم وأخباركم ، وذكر عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ ذلك : «يَسّاءَلونَ » بتشديد السين ، بمعنى : يتساءلون : أي يسأل بعضهم بعضا عن ذلك .
والصواب من القول في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
{ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } أي هؤلاء لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا ففروا إلى داخل المدينة . { وإن يأت الأحزاب } كره ثانية . { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب } تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب . { يسألون } كل قادم من جانب المدينة . { عن أنبائكم } عما جرى عليكم . { ولو كانوا فيكم } هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال . { ما قاتلوا إلا قليلا } رياء وخوفا من التعبير .
الضمير في { يحسبون } للمنافقين ، والمعنى أنهم من الجزع والفزع بحيث رحل { الأحزاب } وهزمهم الله تعالى وهؤلاء يظنون أنها من الخدع وأنهم { لم يذهبوا } بل يريدون الكرة إلى غلب المدينة ، ثم أخبر تعالى عن معتقد هؤلاء المنافقين أن ودهم لو أتى الأحزاب وحاصروا المدينة أن يكونوا هم قد خرجوا إلى البادية في جملة { الأعراب } وهم أهل العمود والرحيل من قطر إلى قطر ، ومن كان من العرب مقيماً بأرض مستوطناً فلا يمسون أعراباً وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف «لو أنهم بُدّى في الأعراب » شديدة الدال منونة وهو جمع باد كغاز وغزى ، وروي عن ابن عباس «لو أنهم بدوا » ، وقرأ أهل مكة ونافع وابن كثير والحسن «يسألون » أي من ورد عليهم ، وقرأ أبو عمرو وعاصم{[9479]} والأعمش «يسلون » خفيفة بغير همز على نحو قوله { سل بني إسرائيل }{[9480]} [ البقرة : 211 ] وقرأ الجحدري وقتادة والحسن بخلاف عنه «يساءلون » أي يسأل بعضهم بعضاً . قال{[9481]} الجحدري «يتساءلون » ، ثم سلى الله تعالى عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا لما أغنوا ولما { قاتلوا إلا قتالاً قليلاً } لا نفع له ، قال الثعلبي هو قليل من حيث هو رياء من غير حسبة ولو كان الله لكان كثيراً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المنافقين فقال عز وجل: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} وذلك أن الأحزاب الذي تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم، في الخندق فقذف الله عز وجل في قلبوهم الرعب، وأرسل عليهم ريحا وهي الصبا فجعلت تطفئ نيرانهم وتلقى أبنيتهم، وأنزل جنودا لم تروها من الملائكة فكبروا في عسكرهم فلما سمعوا التكبير، قذف الله تعالى الرعب في قلوبهم، وقالوا: قد بدأ محمد بالشر فانصرفوا إلى مكة راجعين عن الخندق والرعب الذي نزل بهم في الخندق.
{وإن يأت الأحزاب} وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال.
{يودوا} يعني يود المنافقون {لو أنهم بادون في الأعراب} ولم يشهدوا القتال.
{يسألون عن أنبائكم} يعني عن حديثكم وخبر ما فعل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {ولو كانوا فيكم} يشهدون القتال {ما قاتلوا} يعني المنافقين {إلا قليلا}: ما قاتلوا إلا رياء وسمعة من غير حسبة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يحسب هؤلاء المنافقون الأحزاب، وهم قريش وغطفان...
وقوله:"لَمْ يَذْهَبُوا" يقول: لم ينصرفوا، وإن كانوا قد انصرفوا جبنا وهَلعا منهم...
وقوله: "وَإنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّوا لَوْ أنهُمْ بادُونَ فِي الأعْرابِ "يقول تعالى ذكره: وإن يأت المؤمنين الأحزاب وهم الجماعة: واحدهم حزب "يَوَدّوا" يقول: يتمنوا من الخوف والجبن أنهم غيب عنكم في البادية مع الأعراب خوفا من القتل، وذلك أن قوله: "لَوْ أنّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ" تقول: قد بدا فلان إذا صار في البدو فهو يبدو، وهو باد، وأما الأعراب: فإنهم جمع أعرابيّ، وواحد العرب عربيّ، وإنما قيل أعرابيّ لأهل البدو، فرقا بين أهل البوادي والأمصار، فجعل الأعراب لأهل البادية، والعرب لأهل المصر.
وقوله: "يَسأَلُونَ عَنْ أنْبائِكُمْ" يقول: يستخبر هؤلاء المنافقون أيها المؤمنون الناس عن أنبائكم، يعني عن أخباركم بالبادية، هل هلك محمد وأصحابه؟ يقول: يتمنون أن يسمعوا أخباركم بهلاككم، أن لا يشهدوا معكم مشاهدكم. "وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إلاّ قَلِيلاً" يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ولو كانوا أيضا فيكم ما نفعوكم، وما قاتلوا المشركين "إلاّ قليلاً"، يقول: إلاّ تعذيرا، لأنهم لا يقاتلونهم حسبة ولا رجاء ثواب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هكذا كانت عادتهم، ثم ابتلاهم الله بما كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين، ويضمرون الخلاف لهم والعداوة بفضل فشل وجبن، وما لم يكن ذلك في غيرهم. ففي ذلك تحذير للمؤمنين وزجر عن مثل هذا الصنيع ومثل هذه المعاملة لئلا يبتلوا بمثل ما ابتلي أولئك.
وفيه أنه يعامل بعضهم بعضا على الظاهر الذي ظهر دون حقيقة ما يكون، وعلى ذلك يجري الحكم على ما عامل رسول الله وأصحابه أهل النفاق. وحكمه على ما أظهروا دون ما أضمروا في الأنكحة والصهر وغير ذلك من الأحكام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَحْسَبُونَ} أنّ الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط {وَإِن يَأْتِ الأحزاب} كرّة ثانية. تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرّة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب {يَسْئَلُونَ} كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال -لم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وكأنهم لما ذهب استمروا خاضعين لم يطلقوا ألسنتهم ولا أعلو كلمتهم، فأخبر تعالى تحقيقاً لقوله الماضي في جبنهم أن المانع الذي ذكره لم يزل من عندهم لفرط جبنهم، فقال تحقيقاً لذلك وجواباً لمن ربما قال: قد ذهب الخوف فما لهم ما سلقوا؟ {يحسبون} أي يظنون لضعف عقولهم في هذا الحال، وقد ذهب الخوف، لشدة جبنهم وما رسخ عندهم من الخوف.
{الأحزاب}... وعبر بالحسبان لأنه ما تقع غلبته فيما هو من نوع ما فطر الإنسان عليه واستقر عادة له، والظن فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم؛ قال: فكان ضعف علم العالم ظن، وضعف عقل العاقل حسبان.
ولما أخبر عن حالهم في ذهابهم، أخبر عن حالهم لو وقع ما يتخوفونه من رجوعهم، فقال معبراً بأداة الشك بشارة لأهل البصائر أنه في عداد المحال: {وإن يأتِ الأحزاب} أي بعد ما ذهبوا {يودّوا} أي يتجدد لهم غاية الرغبة من الجبن وشدة الخوف.
{لو أنهم بادون} أي فاعلون للبدو وهو الإقامة في البادية على حالة الحل والارتحال.
{في الأعراب} الذين هم عندهم في محل النقص، وممن تكره مخالطته ولو كان تمنيهم في ذلك الحين محالاً؛ ثم ذكر حال فاعل "بادون "فقال: {يسألون} كل وقت {عن أنبائكم} العظيمة معهم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً، كأنهم مهتمون بكم، يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب أو ليخفوا غيبتهم ويظهروا أنهم كانوا بينكم في الحرب بأمارة أنه وقع لكم في وقت كذا أو مكان كذا كذا، ويكابروا على ذلك من غير استحياء لأن النفاق صار لهم خلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه، ويرشد إلى هذا المعنى قراءة يعقوب" يسالون "بالتشديد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهم ما يزالون يرتعشون، ويتخاذلون، ويخذلون! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت، وأنه قد ذهب الخوف، وجاء الأمان! يتمنون هذه الأمنيات المضحكة، مع أنهم قاعدون، بعيدون عن المعركة، لا يتعرضون لها مباشرة؛ إنما هو الخوف من بعيد! والفزع والهلع من بعيد! وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة؛ صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة، والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل. بنفس الملامح، وذات السمات.. ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج، والسخرية منه، والابتعاد عنه، وهوانه على الله وعلى الناس.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -تقرير أن الكفر والنفاق صاحبهما لا يفارقه الجبن والخور والشح والبخل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هؤلاء المحاربين الجبناء، والمنافقين خائري القلوب والقوى يخافون حتّى من ظلالهم، وينطوون على أنفسهم من الخوف لدى سماع صهيل الخيل ورغاء البعير، ظنّاً أنّ جيوش الأحزاب قد عادت! فلا تحزنوا وتقلقوا لذهابهم، ولا تفرحوا بوجودهم بينكم، فإنّهم أناس لا قيمة لهم ولا صفة تحمد، وعدمهم أفضل من وجودهم!