المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

21- يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي أنشأكم وخلقكم ونماكم كما خلق الذين سبقوكم ، فهو خالق كل شيء ، لعلكم بذلك تعدون أنفسكم وتهيئونها لتعظيم الله ومراقبته ، فتتطهر بذلك نفوسكم وتذعن للحق ، وتخاف سوء العاقبة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

قوله تعالى : { يا أيها الناس } . قال ابن عباس : يا أيها الناس خطاب أهل مكة ، ويا أيها الذين آمنوا خطاب أهل المدينة وهو هاهنا عام إلا من حيث إنه لا يدخله الصغار والمجانين .

قوله تعالى : { اعبدوا } . وحدوا . قال ابن عباس : كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد .

قوله تعالى : { ربكم الذي خلقكم } . والخلق : اختراع الشيء على غير مثال سبق .

قوله تعالى : { والذين من قبلكم } . أي وخلق الذين من قبلكم .

قوله تعالى : { لعلكم تتقون } . لكي تنجوا من العذاب ، وقيل معناه كونوا على رجاء التقوى بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب الله ، وحكم الله من ورائكم يفعل ما يشاء كما قال : ( فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ) أي ادعوه إلى الحق وكونا على رجاء التذكر ، وحكم الله من ورائه يفعل ما يشاء . قال سيبويه : لعل وعسى حرفا ترج وهما من الله واجب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

هذا أمر عام لكل{[64]}  الناس ، بأمر عام ، وهو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

ثم استدل على وجوب عبادته وحده ، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم ، فخلقكم بعد العدم ، وخلق الذين من قبلكم ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها ، وتنتفعون بالأبنية ، والزراعة ، والحراثة ، والسلوك من محل إلى محل ، وغير ذلك من أنواع{[65]}  الانتفاع بها ، وجعل السماء بناء لمسكنكم ، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم ، كالشمس ، والقمر ، والنجوم .

{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ، ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا : السحاب ، فأنزل منه تعالى ماء ، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب ، والثمار ، من نخيل ، وفواكه ، [ وزروع ] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون ، وتقوتون وتعيشون وتفكهون .

{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي : نظراء وأشباها من المخلوقين ، فتعبدونهم كما تعبدون الله ، وتحبونهم كما تحبون الله ، وهم مثلكم ، مخلوقون ، مرزوقون مدبرون ، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا ينفعونكم ولا يضرون ، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك ، ولا نظير ، لا في الخلق ، والرزق ، والتدبير ، ولا في العبادة{[66]}  فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب ، وأسفه السفه .

وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته ، وبطلان عبادة من سواه ، وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية ، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير ، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك ، فكذلك فليكن إقراره بأن [ الله ] لا شريك له في العبادة ، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري ، وبطلان الشرك .

وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده ، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه ، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله ، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى ، وكلا المعنيين صحيح ، وهما متلازمان ، فمن أتى بالعبادة كاملة ، كان من المتقين ، ومن كان من المتقين ، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه .


[64]:- في ب: لجميع.
[65]:- في ب: وجوه.
[66]:- في ب: ولا في الألوهية والكمال.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

وبعد أن بينت السورة الكريمة أقسام الناس الثلاثة ، وعاقبة كل قسم منهم ، ساقت لهم نداء عاماً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده ، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا . . . }

في هاتين الآيتين توجيه للناس إلى الأمر الذي خلقوا من أجله وهو عبادة الله دون ما سواه ، وبيان البراهين الساطعة التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته .

و " يا " حرف نداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا ، فهو أصل حروف النداء .

و " أي " اسم مبهم لكن يزول إبهامه بالاسم المقصود بالنداء الذي يأتي بعده .

و " ها " المتصلة به مؤكدة للتنبيه المستفاد من النداء .

و " العبادة " الخضوع البالغ الغاية .

وقد كثر النداء في القرآن الكريم بهذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيراً ما يقتضيه المقام .

وفي ذكره تعالى باسم الرب ، وإضافته إلى المخاطبين ، تقوية لداعية إقبالهم على عبادته .

فإن الإِنسان إذا اتجه بفكره إلى معنى كون الله مالكاً له ، أو مربياً له وتذكر ما يحفه به من رفق ، وما يجود به عليه من إنعام ، لم يلبث أن يخصه بأقصى ما يستطيع من الخضوع والخشوع والإِجلال .

وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى ، إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإِفراد والإِضافة إلى جميع الناس إلا الله . ثم بين - سبحانه - الموجبات التي من شأنها أن تحملهم على عبادته وحده فقال { الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ } .

والخلق : أصله الإِيجاد على تقدير وتسوية ، ويطلق في القرآن وفي عرف الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة ، فهو إخراجها من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر .

والمعنى : اجعلوا أيها الناس عبادتكم لله تعالى وحده ، لأنه هو الذي أوجدكم في أحسن تقويم بعد أن كنتم في عدم ، كما أوجد الذين تقدموكم .

وقدم وصفه بخلق المخاطبين مع أنه متأخر بالزمان عن خلق من تقدموهم ، لأن علم الإِنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره .

وقوله تعالى : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } فيه رد على الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .

فكان قوله : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لابد أن ينتهوا إلى أب أول قد خلقه الله تعالى .

وجملة " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " تعليل للأمر بالعبادة ، ولذلك فصلت . و " لعل " حرف موضوع ليدل على الترجي ، وهو توقع حصول الشيء عندما يحصل سيبه وتنتفى موانعه . والشيء المتوقع حصوله في الآية هو التقوى وسببه العبادة ، إذ بالعبادة يستعد الإِنسان لأن يبلغ درحة التقوى وهي الفوز بالهدى والفلاح ، والترجي قد يكون من جهة المتكلم وهو الشائع وقد تستعمل لعل في الكلام على أن يكون الترجي مصروفاً للمخاطب ، فيكون المترجي هو المخاطب لا المتكلم ، وعلى هذا الوجه يحمل الترجي في هذه الآية ، لاستحالة توقع حصول الشيء من عالم الغيب والشهادة ، لأن توقع الإِنسان لحصول الشيء هو أن يكون متردداً بين الوقوع وعدمه مع رجحان الوقوع ، وعليه فيكون المعنى : اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين ، الذين بلغوا الغاية في الهدى والفلاح .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

1

وعندما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة ، وأمرا للبشرية جمعاء ، أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة . الصورة النقية الخالصة . الصورة العاملة النافعة . الصورة المهتدية المفلحة . . صورة المتقين :

( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشا ، والسماء بناء ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) . .

إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم . ربهم الذي تفرد بالخلق ، فوجب أن يتفرد بالعبادة . . وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه :

( لعلكم تتقون ) . . لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية . صورة العابدين لله . المتقين لله . الذين أدوا حق الربوبية الخالقة ، فعبدوا الخالق وحده ؛ رب الحاضرين والغابرين ، وخالق الناس أجمعين ، ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته ، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده ، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة ، بأن جعل لهم الأرض فراشا ، أي : مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات ، { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } وهو السقف ، كما قال في الآية الأخرى : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] وأنزل لهم من السماء ماء - والمراد به السحاب هاهنا - في وقته عند احتياجهم إليه ، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد ؛ رزقًا لهم ولأنعامهم ، كما قرر هذا في غير موضع{[1339]} من القرآن . ومنْ أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا{[1340]} وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ غافر : 64 ] ومضمونه : أنه الخالق الرازق مالك الدار ، وساكنيها ، ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يُشْرَك به غَيره ؛ ولهذا قال : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : «أن تجعل لله ندا ، وهو خلقك » الحديث{[1341]} . وكذا حديث معاذ :

" أتدري ما حق الله على عباده ؟ أن يعبدوه لا{[1342]} يشركوا به شيئًا " الحديث{[1343]} وفي الحديث الآخر : «لا يقولن أحدكم : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن ليقل{[1344]} ما شاء الله ، ثم شاء فلان " {[1345]} .

وقال حماد بن سلمة : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش ، عن الطفيل بن سَخْبَرَة ، أخى عائشة أم المؤمنين لأمها ، قال : رأيت فيما يرى النائم ، كأني أتيت على نفر من اليهود ، فقلت : من أنتم ؟ فقالوا : نحن اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : عُزَير ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . قال : ثم مررت بنفر من النصارى ، فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن النصارى . قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : «هل أخبرت بها أحدًا » فقلت : نعم . فقام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، فإن طُفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده " . هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة ، به{[1346]} . وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر ، عن عبد الملك بن عمير به ، بنحوه{[1347]} .

وقال سفيان بن سعيد الثوري ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس ، قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت . فقال : «أجعلتني لله ندا{[1348]} ؟ قل : ما شاء الله وحده » . رواه ابن مردويه ، وأخرجه النسائي ، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس ، عن الأجلح ، به{[1349]} .

وهذا كله صيانة ، وحماية لجناب التوحيد ، والله أعلم .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين ، أي : وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .

وبه عن ابن عباس : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه

الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه . وهكذا قال قتادة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ، حدثنا أبي عمرو ، حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم ، حدثنا شبيب بن بشر ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله ، عز وجل{[1350]} { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ]{[1351]} } قال : الأنداد هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئتَ ، وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها " فلان " . هذا{[1352]} كله به شرك .

وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ، فقال : «أجعلتني لله ندا » . وفي الحديث الآخر : «نعم القوم أنتم ، لولا أنكم تنددون ، تقولون : ما شاء الله ، وشاء فلان » .

قال{[1353]} أبو العالية : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي عدلاء شركاء . وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة ، والسُّدي ، وأبو مالك : وإسماعيل بن أبي خالد .

وقال مجاهد : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال : تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل .

ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة :

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف ، وكان يُعَد من البُدَلاء ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث الأشعري ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله عز وجل ، أمر يحيى بن زكريا ، عليه السلام ، بخمس كلمات أن يعمل بهن ، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وكان يبطئ بها ، فقال له عيسى ، عليه السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن ، وإما أن أبلغهن . فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي » . قال : «فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ، حتى امتلأ المسجد ، فقعد على الشرف ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ، وآمركم أن تعملوا بهن ، وأولهن : أن تعبدوا الله{[1354]} لا تشركوا به شيئًا ، فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِق أو ذهب ، فجعل يعمل ويؤدي غلته{[1355]} إلى غير سيده فأيكم يسره{[1356]} أن يكون عبده كذلك ؟ وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة ؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا . وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة ، كلهم يجد ريح المسك . وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب{[1357]} من ريح المسك . وأمركم بالصدقة ؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو ، فشدوا يديه إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي{[1358]} ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه . وأمركم بذكر الله كثيرًا ؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره ، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله » .

قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : الجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ؛ فإنه من خرج من الجماعة قيدَ شِبْر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه ، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم » . قالوا : يا رسول الله ، وإن صام وصلى{[1359]} ؟ فقال : " وإن صلى وصام{[1360]} وزعم أنه مسلم ؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم{[1361]} الله عز وجل : المسلمين المؤمنين عباد الله " {[1362]} .

هذا حديث حسن ، والشاهد منه في هذه الآية قوله : " وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا " .

وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له ، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال : وهي دالة على ذلك بطريق الأولى ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب ، وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال : يا سبحان الله ، إن البعرة لتدل على البعير ، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟

وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات ، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ، فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها ، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد . فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل ، فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع ! ! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه .

وعن الشافعي : أنه سئل عن وجود الصانع ، فقال : هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم ، وتأكله النحل فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثا ، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد .

وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هاهنا حصن حصين أملس ، ليس له باب ولا منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء ، وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح ، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة .

وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :

تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك

وقال ابن المعتز :

فيا عجبًا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

وقال آخرون : من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت ، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل جانب ، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 27 ، 28 ] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما زرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء ، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا .


[1339]:في جـ: "غير هذا الموضع".
[1340]:في جـ: "فراشا" وهو خطأ.
[1341]:صحيح البخاري برقم (4761) وصحيح مسلم برقم (68).
[1342]:في جـ: "ولا".
[1343]:رواه البخاري في صحيحه برقم (7373) ومسلم في صحيحه برقم (30).
[1344]:في جـ: "ليقول".
[1345]:رواه أبو داود في السنن برقم (4980) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
[1346]:ورواه الإمام أحمد في المسند (5/72) من طريق بهز وعفان عن حماد بن سلمة به.
[1347]:رواه ابن ماجة في السنن برقم (2118) عن هشام بن عمار، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير به، وقال البوصيري في الزوائد (2/151): "هذا إسناد رجاله ثقات على شرط البخاري لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك بن عمير".
[1348]:في جـ: "أندادا".
[1349]:سنن النسائي الكبرى برقم (10825) وسنن ابن ماجة برقم (2117) وقال البوصيري في الزوائد (1/150): "هذا فيه الأجلح بن عبد الله، مختلف فيه".
[1350]:في جـ: "تعالى".
[1351]:زيادة من جـ، ط.
[1352]:في جـ: "لأن هذا".
[1353]:في جـ: "وقال".
[1354]:في جـ: "الله وحده".
[1355]:في جـ، أ: "عمله".
[1356]:في جـ: "سره".
[1357]:في ب: "أطيب عند الله".
[1358]:في جـ، ب، أ، و: "نفسي منكم".
[1359]:في جـ: "وصلى وزعم أنه مسلم".
[1360]:في أ: "وإن صلى وإن صام".
[1361]:في جـ، ط: "بل بما سماهم".
[1362]:المسند (4/130).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَاأَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ }

قال أبو جعفر : فأمر جل ثناؤه الفريقين اللذين أخبر الله عن أحدهما أنه سواء عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون ، لطبعه على قلوبهم ، وعلى سمعهم وأبصارهم ، وعن الاَخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله : آمنا بالله واليوم الاَخر ، مع استبطانه خلاف ذلك ، ومرض قلبه ، وشكه في حقيقة ما يبدي من ذلك وغيرهم من سائر خلقه المكلفين ، بالاستكانة والخضوع له بالطاعة ، وإفراد الربوبية له ، والعبادة دون الأوثان والأصنام والاَلهة لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم ، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم ، فقال لهم جل ذكره : فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم وسائر الخلق غيركم وهو يقدر على ضركم ونفعكم أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نفع ولا ضر .

وكان ابن عباس فيما رُوي لنا عنه يقول في ذلك نظير ما قلنا فيه ، غير أنه ذكر عنه أنه كان يقول في معنى : اعْبُدُوا رَبكُمْ وَحّدوا ربكم . وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة والتذلل له بالاستكانة . والذي أراد ابن عباس إن شاء الله بقوله في تأويل قوله : اعْبُدُوا رَبّكُمْ وَحّدُوه : أي أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله : يا أيها الناسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين ، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يقول : خلقكم وخلق الذين من قبلكم .

قال أبو جعفر : وهذه الآية من أدلّ دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غير جائز إلا بعد إعطاء الله المكلف المعونة على ما كلفه . وذلك أن الله أمر من وصفنا بعبادته والتوبة من كفره ، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون .

القول في تأويل قوله تعالى : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ .

قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : لعلكم تتقون بعبادتكم ربكم الذي خلقكم ، وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وإفرادكم له العبادة ، لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل عليكم ، وتكونوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم .

وكان مجاهد يقول في تأويل قوله : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ : تطيعون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي عن سفيان ، عن ابن نجيح عن مجاهد في قوله : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ قال : لعلكم تطيعون .

قال أبو جعفر : والذي أظن أن مجاهدا أراد بقوله هذا : لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه وإقلاعكم عن ضلالتكم .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فكيف قال جل ثناؤه : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ ؟ أوَ لم يكن عالما بما يصير إليه أمرهم إذا هم عبدوه وأطاعوه ، حتى قال لهم : لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا ، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشك ؟ قيل له : ذلك على غير المعنى الذي توهمت ، وإنما معنى ذلك : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة ، كما قال الشاعر :

وقُلْتُمْ لَنا كُفّوا الحُرُوبَ لَعَلّنَا *** نَكُفّ وَوَثّقْتُمْ لَنا كُلّ مَوْثِقِ

فلَمّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كانَتْ عُهُودُكُم ْكَلَمْحِ سَرَابٍ فِي الفَلاَ مُتَألّقِ

يريد بذلك : قلتم لنا كفوا لنكفّ . وذلك أن «لعلّ » في هذا الموضع لو كان شكّا لم يكونوا وثقوا لهم كُلّ موثق .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم } لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم ، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هزا للسامع وتنشيطا له واهتماما بأمر العبادة ، وتفخيما لشأنها ، وجبرا لكلفة العبادة بلذة المخاطبة . و( يا ) حرف وضع لنداء البعيد ، وقد ينادي به القريب تنزيلا له منزلة البعيد . إما لعظمته كقول الداعي : يا رب ، ويا الله ، هو أقرب إليه من حبل الوريد . أو لغفلته وسوء فهمه . أو للاعتناء بالمدعو له وزيادة الحث عليه . وهو مع المنادى جملة مفيدة ، لأنه نائب مناب فعل وأي : جعل وصلة إلى نداء المعرف باللام ، فإن إدخال " يا " عليه متعذر لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وأعطي حكم المنادى وأجري عليه المقصود بالنداء وصفا موضحا له ، والتزام رفعه إشعارا بأنه المقصود ، وأقحمت بينهما هاء التنبيه تأكيدا وتعويضا عما يستحقه ، أي من المضاف إليه ، وإنما كثر النداء على هذه الطريقة في القرآن لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وكل ما نادى الله له عباده من حيث إنها أمور عظام ، من حقها أن يتفطنوا إليها ، ويقبلوا بقلوبهم عليها ، وأكثرهم عنها غافلون ، حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ والجموع وأسماؤها المحلاة باللام للعموم حيث لا عهد ، ويدل عليه صحة الاستثناء منها ، أو التأكيد بما يفيد العموم كقوله تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } واستدلال الصحابة بعمومها شائعا وذائعا ، فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظا ومن سيوجد ، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ، ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل ، وما روي عن علقمة والحسن أن كل شيء نزل فيه { يا أيها الناس } فمكي { ويا أيها الذين آمنوا } فمدني ، إن صح رفعه فلا يوجب تخصيصه بالكفار ، ولا أمرهم بالعبادة ، فإن المأمور به هو القدر المشترك بين بدء العبادة ، والزيادة فيها ، والمواظبة عليها ، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع ، فإن من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به ، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة ، فالكفر لا يمنع وجوب العبادة ، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه . ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها وإنما قال : { ربكم } تنبيها على أن الموجب للعبادة هي الربوبية .

{ الذي خلقكم } صفة جرت عليه تعالى للتعظيم والتعليل ، ويحتمل التقييد والتوضيح إن خص الخطاب بالمشركين ، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي ، والآلهة التي يسمونها أربابا ، والخلق إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وأصله التقدير يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس . { والذين من قبلكم } متناول كل ما يتقدم الإنسان بالذات أو بالزمان . منصوب معطوف على الضمير المنصوب في { خلقكم } والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم ، إما لاعترافهم به كما قال الله تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر وقرئ { من قبلكم } على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا ، كما أقحم جرير في قوله :

يا تيم تيم عدي لا أبا لكمو

تيما ، الثاني بين الأول وما أضيف إليه .

{ لعلكم تتقون } حال من الضمير في { اعبدوا } كأنه قال : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح ، المستوجبين جوار الله تعالى . نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى إلى الله ، وأن العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته ، ويكون ذا خوف ورجاء قال تعالى : { يدعون ربهم خوفا وطمعا } { يرجون رحمته ويخافون عذابه } أو من مفعول { خلقكم } والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه ، وكثرة الدواعي إليه ، وغلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ ، والمعنى على إرادتهم جميعا وقيل تعليل للخلق أي خلقكم لكي تتقوا كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } . وهو ضعيف إذ لم يثبت في اللغة مثله .

والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة ، النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله ، وأن العبد لا يستحق بعبادته عليه ثوابا ، فإنها لما وجبت عليه شكرا لما عدده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )

«يا » حرف نداء ، وفيه تنبيه ، و «أي » هو المنادى .

قال أبو علي : «اجتلبت أي بعد حرف النداء فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفاً فكان يجتمع تعريفان ، و » ها «تنبيه وإشارة إلى المقصود ، وهي بمنزلة ذا في الواحد ، و { الناس } نعت لازم لأي » .

وقال مجاهد : { يا أيها الناس } حيث وقع في القرآن مكي ، و { يا أيها الذين آمنوا } مدني .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : قد تقدم في أول السورة أنها كلها مدنية ، وقد يجيء في المدني { يا أيها الناس } ، وأما قوله في { يا أيها الذين آمنوا } فصحيح .

وقوله تعالى : { اعبدوا ربكم }( {[321]} ) معناه وحدوه وخصوه بالعبادة ، وذكر تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها ، فذكر ذلك حجة عليهم . ( {[322]} )

و «لعل » في هذه الآية قال فيها كثير من المفسرين هي بمعنى إيجاب التقوى( {[323]} ) وليست من الله تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع .

وقال سيبويه ورؤساء اللسان : هي على بابها ، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر ، أي إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم رجوتم لأنفسكم التقوى ، و { لعلكم } متعلقة بقوله : { اعبدوا ربكم } ، ويتجه تعلقها بخلقكم أي لما ولد كل مولود على الفطرة فهو إن تأمله متأمل توقَّع له ورجا أن يكون متقياً ، و { تتقون } مأخوذ من الوقاية ، وأصله «توتقيون » نقلت حركة الياء إلى القاف وحذفت للالتقاء مع الواو الساكنة وأدغمت الواو الأولى في التاء .


[321]:- بعد أن ذكر سبحانه علو كتابه، ونفى الريب عن كلامه، وقسم الخلق إلى أقسام بالإضافة إلى طاعته، أقبل سبحانه على خلقه بخطابه، والتفت إلى أمرهم بعبادته، وجعل من موجبات التعلق بذاته والشكر لنعمائه: ان خلقهم أحياء قادرين، وجعل لهم الأرض فراشا، والسماء بناء، وأنزل لهم من السماء ماء، فأخرج به من أنواع الثمرات، وأصناف النباتات رزقا ينتفعون به في حياتهم، وليكون ذلك مجازا إلى النظر الموصل إلى توحيده، والاعتراف بعظمته.
[322]:- كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: [ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله].
[323]:- والمعنى: لتتَّقوا.