قوله تعالى : { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا } قرأ أهل الكوفة أنا بفتح الألف رداً على العاقبة ، أي : أنا دمرناهم ، وقرأ الآخرون : إنا بالكسر على الاستئناف ، { دمرناهم } أي : أهلكناهم التسعة . واختلفوا في كيفية هلاكهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه ، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم ، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة ، فقتلهم . قال مقاتل : نزلوا في سفح جبل ينظر بعضهم بعضاً ليأتوا دار صالح ، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم . { وقومهم أجمعين } أهلكهم الله بالصيحة .
ثم بين - سبحانه - الآثار التى ترتبت على مكرهم السىء ، وعلى تدبيره المحكم فقال - تعالى - :
{ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } أى : فانظر - أيها العاقل - وتأمل واعتبر فيما آل إليه أمر هؤلاء المفسدين ، لقد دمرناهم وأبدناهم ، وأبدنا معهم جميع الذين كفروا بنبينا صالح - عليه السلام .
قال بعض العلماء ما ملخصه : قوله - تعالى - : { أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } قرأه الجمهور بكسر همزة { إِنَّا } على الاستئناف ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائى : { أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ } بفتح الهمزة وفى إعرا المصدر المنسبك من أن وصلتها أوجه منها : أنه بدل من { عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ } ومنها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : هى أى : عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم . . .
( فانظر كيف كان عاقبة مكرهم . أنا دمرناهم وقومهم أجمعين . فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ) . .
ومن لمحة إلى لمحة إذا التدمير والهلاك ، وإذا الدور الخاوية والبيوت الخالية . وقد كانوا منذ لحظة واحدة ، في الآية السابقة من السورة ، يدبرون ويمكرون ، ويحسبون أنهم قادرون على تحقيق ما يمكرون !
وهذه السرعة في عرض هذه الصفحة بعد هذه مقصودة في السياق . لتظهر المباغتة الحاسمة القاضية . مباغتة القدرة التي لا تغلب للمخدوعين بقوتهم ؛ ومباغتة التدبير الذي لا يخيب للماكرين المستعزين بمكرهم .
( إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ) . . والعلم هو الذي عليه التركيز في السورة وتعقيباتها على القصص والأحداث
وقوله : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي : تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح ، عليه السلام ، من لقيه ليلا غيلة . فكادهم الله ، وجعل الدائرة عليهم .
قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا{[22084]} على هلاكه ، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين .
وقال قتادة : توافقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه ، وذكر لنا أنهم بينما هم مَعَانيق إلى صالح ليفتكوا به ، إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هم الذين عقروا الناقة ، قالوا حين عقروها : نُبَيِّت صالحا [ وأهله ]{[22085]} وقومه فنقتلهم ، ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا ، وما لنا به من علم . فدمرهم الله أجمعين .
وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة : هَلُم فلنقتل صالحًا ، فإن كان صادقًا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبًا كنا قد ألحقناه بناقته ! فأتوه ليلا ليبيِّتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم ، أتوا مَنزل صالح ، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ، ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبدًا ، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقًا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبًا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون . فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : لما عقروا الناقة وقال لهم صالح : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] ، قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث . وكان لصالح مسجد في الحجْر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي : غار هناك ليلا فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه{[22086]} ، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ، ففرغنا منهم . فبعث الله صخرة من الهضَب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا{[22087]} فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ، ولا يدرون ما فعل بقومهم . فعذب الله هؤلاء هاهنا ، وهؤلاء هاهنا ، وأنجى الله صالحًا ومن معه ، ثم قرأ : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } أي : فارغة ليس فيها أحد { بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } .
وقوله : فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقبَةُ مَكْرِهِمْ يقول تعالى ذكره : فانظر يا محمد بعين قلبك إلى عاقبة غدر ثمود بنبيهم صالح ، كيف كانت ؟ وما الذي أورثها اعتداؤهم وطغيانهم وتكذيبهم ؟ فإن ذلك سنتنا فيمن كذّب رسلنا ، وطغى علينا من سائر الخلق ، فحذر قومك من قريش ، أن ينالهم بتكذيبهم إياك ، ما نال ثمود بتكذّيبهم صالحا من المثلات . )
وقوله : إنّا دَمّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أجمَعِينَ يقول : إنا دمرنا التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض من قوم صالح وقومهم من ثمود أجمعين ، فلم نبقِ منهم أحدا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله «إنّا » فقرأ بكسرها عامة قرّاء الحجاز والبصرة على الابتداء ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : أنّا دَمّرْناهُمْ بفتح الألف . وإذا فُتحت كان في أنّا وجهان من الإعراب : أحدهما الرفع على ردّها على العاقبة على الإتباع لها ، والاَخر النصب على الردّ على موضع كيف ، لأنها في موضع نصب إن شئت ، وإن شئت على تكرير كان عليها على وجه ، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم ؟ كان عاقبة مكرهم تدميرَنا إياهم .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأَةِ الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
{ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين } و{ كان } إن جعلت ناقصة فخبرها { كيف } و { أنا دمرناهم } استئناف أو خبر محذوف لا خبر { كان } لعدم العائد ، وإن جعلتها تامة ف { كيف } حال . وقرأ الكوفيون ويعقوب { أنا دمرناهم } بالفتح على أنه خبر محذوف أو بدل من اسم { كان } أو خبر له و { كيف } حال .
«والعاقبة » حال تقتضيها البدأة وتؤدي إليها بواجب .
وقرأ جمهور القراء «إنا دمرناهم » بكسر الألف ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «أنا دمرناهم » بفتح الهمزة وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق .
ف { كان } على قراءة الكسر في الألف تامة ، وإن قدرت ناقصة فخبرها محذوف أو يكون الخبر { كيف } مقدماً لأن صدر الكلام لها ولا يعمل على هذا «انظر » ، في { كيف } لكن يعمل في موضع الجملة كلها ، وهي في قراءة الفتح ناقصة وخبرها «أنَّا » ويجوز أن يكون الخبر { كيف } وتكون «أنَّا » بدلاً من العاقبة ، ويجوز أن تكون { كان } تامة «وأنّا » بدلاً من العاقبة ، ووقع تقرير السؤال ب { كيف } عن جملة قوله { كان عاقبة مكرهم إنا دمرناهم } وليس بمحض سؤال ولكنه حقه أن يسأل عنه ، و «التدمير » الهلاك . ويحتمل أن تتقدر { كان } تامة على قراءة الفتح ، وغيره أظهر ، وقرأ أبي بن كعب «أن دمرناهم » فهذه تؤيد قراءة الفتح في «أنا » .