قوله تعالى : { وفي أنفسكم } آيات ، إذا كانت نطفةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عظماً إلى أن نفخ فيها الروح . وقال عطاء عن ابن عباس : يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع . وقال ابن الزبير : يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين . { أفلا تبصرون } قال مقاتل :صلى الله عليه وسلم أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث .
ثم لفتة أخرى إلى النفس البشرية ، قال - تعالى - : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } .
أى : وفى أنفسكم وذواتكم وخلقكم . . . أفلا تبصرون إبصار تذكر واعتبار ، فإن فى خلقكم من سلالة من طين ، ثم جعلكم نطفة فعلقة فمضغة فخلقا آخر ، ثم فى رعايتكم فى بطون أمهاتكم . ثم فى تدرجكم من حال إلى حال ، ثم فى اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، ثم فى التركيب العجيب الدقيق لأجسادكم وأعظائكم . ثم فى تفاوت عقولكم وأفهامكم واتجاهاتكم .
فى كل ذلك وغيره ، عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين .
ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين { وَفِي الأرض آيَاتٌ } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره ، حيث هى مدحوّة كالبساط . . . وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها ، والماشين فى مناكبها .
وهى مجزأة : فمن سهل وجبل ، وبر وبحر ، وقطع متجاورات : من صلبة ورخوة ، وطيبة وسبخة ، وهى كالطروقة تلقح بألوان النبات . . . وتسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض فى الأكل ، وكلها موافقة لحوائج ساكنيها .
فى كل ذلك آيات { لِّلْمُوقِنِينَ } أى : للموحدين الذين سلكوا الطريق السوى . . . فازدادوا إيمانا على إيمانهم .
{ وفي أَنفُسِكُمْ } فى حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، وفى بواطنها وظواهرها ، من عجائب الفطر . وبدائع الخلق ، ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب ، وما ركز فيها من العقول ، وخصت به من أصناف المعانى ، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف ، وما فى تركيبها وترتيبها وطلائفها : من الآيات الدالة على حكمة المدبر .
ثم العجيبة الأخرى التي تدب على هذه الأرض :
( وفي أنفسكم ، أفلا تبصرون ? ) . .
وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض . ولكنه يغفل عن قيمته ، وعن أسراره الكامنة في كيانه ، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين .
إنه عجيبة في تكوينه الجسماني : في أسرار هذا الجسد . عجيبة في تكوينه الروحي : في أسرار هذه النفس . وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه . وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه :
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير . تكوين أعضائه وتوزيعها . وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف . عملية الهضم والامتصاص . عملية التنفس والاحتراق . دورة الدم في القلب والعروق . الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم . الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه . تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها ، وتجاوبها الكامل الدقيق . وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب . وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب .
وأسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة . . إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها . هذه المعلومات والصور المختزنة . أين ? وكيف ? هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت ? وأين ? وكيف تستدعى فتجيء . . وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى . فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر . تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول .
ثم أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه . خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص ؛ وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين . فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة ? وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل ، فتمثله أدق تمثيل ، وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب ? !
وإن وقفة أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض ، وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه ، ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة . إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب ، وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان ، لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان !
وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات . بل أمام النطق ذاته . نطق هذا اللسان . وتصويت تلك الحنجرة . إنها عجيبة . عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيرا . ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها . إنها خارقة . خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله .
وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق ، لا ينقضي منها العجب ؛ ( وفي أنفسكم . أفلا تبصرون ? ) . .
وكل فرد من هذا الجنس عالم وحده . ومرآة ينعكس من خلالها هذا الوجود كله في صورة خاصة لا تتكرر أبدا على مدار الدهور . ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعا لا في شكله وملامحه ، ولا في عقله ومداركه ، ولا في روحه ومشاعره . ولا في صورة الكون كما هي في حسه وتصوره . ففي هذا المتحف الإلهي العجيب الذي يضم ملايين الملايين ، كل فرد نموذج خاص ، وطبعة فريدة لا تتكرر . يمر من خلالها الوجود كله في صورة كذلك لا تتكرر . كما لا توجد بصمة أصابع مماثلة لبصمة أصابع أخرى في هذه الأرض في جميع العصور !
وكثير من عجائب الجنس البشري مكشوفة للبصر ، تراه العيون : ( وفي أنفسكم . أفلا تبصرون ? ) : وما تراه العيون من عجائبه يشير إلى المغيب المكنون .
وهذه العجائب لا يحصرها كتاب . فالمعلوم المكشوف منها يحتاج تفصيله إلى مجلدات . والمجهول منها ما يزال أكثر من المعلوم ، والقرآن لا يحصيها ولا يحصرها . ولكنه يلمس القلب هذه اللمسة ليستيقظ لهذا المتحف الإلهي المعروض للأبصار والبصائر . وليقضي رحلته على هذا الكوكب في ملاحظة وتدبر ، وفي متاع رفيع بتأمل هذا الخلق العجيب ، الكامن في ذات نفسه وهو عنه غافل مشغول .
وإنها للحظات ممتعة حقا تلك التي يقضيها الإنسان يتأمل وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم وعاداتهم ، بعين
العابد السائح الذي يجول في متحف من إبداع أحسن الخالقين . فكيف بمن يقضي عمره كله في هذا المتاع الرفيع ?
إن القرآن بمثل هذه اللمسة يخلق الإنسان خلقا جديدا ، بحس جديد ؛ ويمتعه بحياة جديدة ، ويهبه متاعا لا نظير له في كل ما يتصوره في الأرض من متاع .
وعلى هذا النحو الرفيع من التأمل والإدراك يريد القرآن الناس . والإيمان هو الذي يمنح القلب البشري هذا الزاد ، وهو الذي يهيء له هذا المتاع العلوي . وهو بعد في الأرض في عالم الطين !
وقوله : وفي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وفي سبيل الخلاء والبول في أنفسكم عِبرة لكم ، ودليل لكم على ربكم ، أفلا تبصرون إلى ذلك منكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاريّ ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن ابن جُرَيج ، عن ابن المرتفع ، قال : سمعت ابن الزّبير يقول : وفي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ قال : سبيل الغائط والبول .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن محمد بن المرتفع ، عن عبد الله بن الزّبير وفي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ قال : سبيل الخلاء والبول .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفي تسوية الله تبارك وتعالى مفاصل أبدانكم وجوارحكم دلالة لكم على أن خلقتم لعبادته . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وفي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ ، وقرأ قول الله تبارك وتعالى وَمِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ إذَا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ قال : وفينا آيات كثيرة ، هذا السمع والبصر واللسان والقلب ، لا يدري أحد ما هو أسود أو أحمر ، وهذا الكلام الذي يتلجلج به ، وهذا القلب أيّ شيء هو ، إنما هو مضغة في جوفه ، يجعل الله فيه العقل ، أفيدري أحد ما ذاك العقل ، وما صفته ، وكيف هو ؟ .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : معنى ذلك : وفي أنفسكم أيضا أيها الناس آيات وعِبر تدلّكم على وحدانية صانعكم ، وأنه لا إله لكم سواه ، إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم أفَلا تُبْصِرُونَ يقول : أفلا تنظرون في ذلك فتتفكروا فيه ، فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم .
وقوله تعالى : { وفي أنفسكم } إحالة على النظر في شخص الإنسان فإنه أكثر المخلوقات التي لدينا عبرة لما جعل الله فيه مع كونه من تراب من لطائف الحواس ومن أمر النفس وجهاتها ونطقها ، واتصال هذا الجزء منها بالعقل ، ومن هيئة الأعضاء واستعدادها لتنفع أو تجمل أو تعين . قال ابن زيد : إنما القلب مضغة في جوف ابن آدم جعل الله فيه العقل ، أفيدري أحد ما ذاك العقل ؟ وما صفته ؟ وكيف هو ؟ وقال الرماني : النفس خاصة : الشيء التي لو بطل ما سواها مما ليست مضمنة به لم تبطل ، وهذا تعمق لا أحمده . وقوله : { أفلا تبصرون } توقيف وتوبيخ .