قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } ، فيه إضمار ، أي : يرشدهم ربهم بإيمانهم إلى جنة ، { تجري من تحتهم الأنهار } . قال مجاهد : يهديهم عل الصراط إلى الجنة ، يجعل لهم نورا يمشون به . وقيل : { يهديهم } معناه يثيبهم ويجزيهم . وقيل : معناه بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه ، أي : بتصديقهم هداهم { تجري من تحتهم الأنهار } أي : بين أيديهم كقوله عز وجل : { قد جعل ربك تحتك سرياً } [ مريم-24 ] لم يرد به أنه تحتها وهي قاعدة عليه ، بل أراد بين يديها . وقيل : تجري من تحتهم أي : بأمرهم . { { في جنات النعيم }
فلما ذكر عقابهم ذكر ثواب المطيعين فقال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
يقول تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : جمعوا بين الإيمان ، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة ، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح ، على وجه الإخلاص والمتابعة .
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي : بسبب ما معهم من الإيمان ، يثيبهم الله أعظم الثواب ، وهو الهداية ، فيعلمهم ما ينفعهم ، ويمن عليهم بالأعمال الناشئة عن الهداية ، ويهديهم للنظر في آياته ، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم وفي الصراط المستقيم ، وفي دار الجزاء إلى الصراط الموصل إلى جنات النعيم ، ولهذا قال : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ } الجارية على الدوام { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أضافها الله إلى النعيم ، لاشتمالها على النعيم التام ، نعيم القلب بالفرح والسرور ، والبهجة والحبور ، ورؤية الرحمن وسماع كلامه ، والاغتباط برضاه وقربه ، ولقاء الأحبة والإخوان ، والتمتع بالاجتماع بهم ، وسماع الأصوات المطربات ، والنغمات المشجيات ، والمناظر المفرحات . ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب ، والمناكح ونحو ذلك ، مما لا تعلمه النفوس ، ولا خطر ببال أحد ، أو قدر أن يصفه الواصفون .
أما السعداء فقد بين الله - تعالى - بعد ذلك صفاتهم وثوابهم فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } .
أى : آمنو بما يجب الإِيمان به ، وعملوا في دنياهم الأعمال الصالحة التي ترفع درجاتهم عند ربهم .
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي يرشدهم ربهم ويوصلهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح إلى غايتهم وهي الجنة .
وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها وانسياق النفس إليها ، بعد أن عرف أن مأوى الكافرين النار وبئس القرار . .
قال الإِمام ابن كثير : يحتمل أن تكون الباء في قوله { بإيمانهم } للسببية ، فيكون التقدير بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة إلى الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة ، ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } : أى : يكون إيمانهم لهم نورا يمشون به وقال ابن جريج في الآية : يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له من أنت ؟ فيقول أنا عملك ، فيجعل له نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة ، فذلك قوله - تعالى - { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } . والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة . وريح منتنة فيلزم صابحه حتى يقذفه في النار . . .
وقوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار في جَنَّاتِ النعيم } أى : تجري من تحت منازلهم أو مقاعدهم الأنهار ، وهم آمنون مطمئنون في الجنات ، يتنعمون فيها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت . ولا خطر على قلب بشر .
وفي الضفة الأخرى الذين آمنوا وعملوا الصالحات . الذين آمنوا فأدركوا أن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا ، وعملوا الصالحات بمقتضى هذا الإيمان ، تحقيقا لأمر الله بعمل الصالحات ، وانتظارا للآخرة الطيبة . . وطريقها هو الصالحات . . هؤلاء .
يهديهم إلى الصالحات بسبب هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين الله ، ويفتح بصائرهم على استقامة الطريق ، ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه . . هؤلاء يدخلون الجنة .
وما يزال الماء ولن يزال يوحي بالخصب والري والنماء والحياة . .
وهذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ، وامتثلوا ما أمروا ، به فعملوا الصالحات ، بأنه سيهديهم بإيمانهم .
يحتمل أن تكون " الباء " هاهنا سببية فتقديره : بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة
على الصراط ، حتى يجوزوه ويخلصُوا إلى الجنة . ويحتمل أن تكون للاستعانة ، كما قال مجاهد في قوله : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } قال : [ يكون لهم نورا يمشون به ]{[14072]} . وقال ابن جُرَيْج في [ قوله : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } قال ]{[14073]} : يمثُل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره ، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك . فيجعل{[14074]} له نورا . من بين يديه حتى يدخله{[14075]} الجنة ، فذلك قوله تعالى : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } والكافر يَمْثُلُ له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلازم صاحبه ويلازُّه{[14076]} حتى يقذفه في النار .
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ إن الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات ، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره . يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإيمانِهِمْ يقول : يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأنهارُ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ المُؤْمِنَ إذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَة حَسَنَة ، فَيُقُولُ لَهُ : ما أنْتَ ، فوَاللّهِ إنّي لأرَاكَ امْرأ صِدْقٍ ؟ فَيَقُولُ : أنا عَمَلُكَ ، فَيَكُون لَهُ نُورا وَقائِدا إلى الجَنّةِ . وأمّا الكافِرُ إذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ سَيّئَةٍ وَبِشارَةٍ سَيّئَةٍ ، فَيَقُولُ : ما أنْتَ فَواللّهِ إنّي لأَرَاكَ أمْرأَ سَوْءٍ ؟ فَيَقُولُ : أنا عَمَلُكَ . فَيَنْطَلِقُ بِهِ حتى يُدْخِلَهُ النّارُ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإيمانِهِمْ قال : يكون لهم نورا يمشون به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال ابن جريج : يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإيمانِهِمْ قال : يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة ، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك فيجعل له نورا من بين يديه حتى يدخله الجنة ، فذلك قوله : يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإيمانِهِمْ . والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة ، فيلازم صاحبه ويُلادّه حتى يقذفه في النار .
وقال آخرون : معنى ذلك : بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه ، يقول : بتصديقهم هداهم . ذكر من قال ذلك :
وقوله : تَجْرِي مِنْ تَحْتَهِمُ الأنهارُ يقول : تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم أنهار الجنة . في جَنّاتِ النّعِيمِ يقول : في بساتين النعيم الذي نعمّ الله به أهل طاعته والإيمان به .
فإن قال قائل : وكيف قيل تجري من تحتهم الأنهار ، وإنما وصف جلّ ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات ؟ وكيف يمكن الأنهار أن تجري من تحتهم إلا أن يكونوا فوق أرضها والأنهار تجري من تحت أرضها ، وليس ذلك من صفة أنهار الجنة ، لأن صفتها أنها تجري على وجه الأرض في غير أخاديد ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ ، وإنما معنى ذلك : تجري من دونهم الأنهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم ، وذلك نظير قول الله : قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا ومعلوم أنه لم يجعل السريّ تحتها وهي عليه قاعدة ، إذ كان السريّ هو الجدول ، وإنما عني به جعل دونها : بين يديها ، وكما قال جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل فرعون : ألَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي بمعنى : من دوني بين يدي .
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة ، أو لإدراك الحقائق كما قال عليه الصلاة والسلام " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " . أو لما يريدونه في الجنة ، ومفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح لكن دل منطوق قوله : { بإيمانهم } على استقلال الإيمان بالسببية وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف له . { تجري من تحتهم الأنهار } استئناف أو خبر ثان أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير ، وقوله : { في جنات النعيم } خبر أو حال أخرى منه ، أو من { الأنهار } أو متعلق ب { تجري } أو بيهدي .