في هذه السورة أمر الله رسوله بقيام قدر كبير من الليل ، للصلاة وقراءة القرآن مرتلا فيها ، فقام هو وطائفة من الذين معه ، ثم خفف الله عنهم في آخرها ، وأمرهم بالصلاة والزكاة والصدقة والاستغفار .
وفي أثنائها أمره بالصبر على ما يقول المكذبون ، وتركهم لما أعده الله لهم من العذاب ، وهدد الكافرين بمثل العذاب الذي وقع على فرعون ومن معه حين عصوا رسول ربهم وخوفهم ببعض أهوال القيامة .
1 - يا أيها المتلفف بثيابه ، قُمْ الليل مصلياً إلا قليلاً ، قُمْ نصفْ الليل أو انقص من النصف قليلاً حتى تصل إلى الثلث ، أو زد على النصف حتى تصل إلى الثلثين ، واقرأ القرآن متمهلاً مبيناً للحروف والوقوف قراءة سالمة من أي نقصان .
{ بسم الله الرحمن الرحيم . يا أيها المزمل }أي الملتف بثوبه . وأصله التزمل ، أدغمت التاء في الزاي ، ومثله المدثر أدغمت التاء في الدال ، يقال : تزمل وتدثر بثوبه ، إذا تغطى به . وقال السدي : أراد يا أيها النائم قم فصل . قال الحكماء : كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة ، ثم خوطب بعد بالنبي والرسول .
{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا }
المزمل : المتغطي بثيابه كالمدثر ، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكرمه الله برسالته ، وابتدأه بإنزال [ وحيه بإرسال ] جبريل إليه ، فرأى أمرا لم ير مثله ، ولا يقدر على الثبات له إلا المرسلون ، فاعتراه في ابتداء ذلك{[1258]} انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام ، فأتى إلى أهله ، فقال : " زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه ، ثم جاءه جبريل فقال : " اقرأ " فقال : " ما أنا بقارئ " فغطه حتى بلغ منه الجهد ، وهو يعالجه على القراءة ، فقرأ صلى الله عليه وسلم ، ثم ألقى الله عليه الثبات ، وتابع عليه الوحي ، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين .
فسبحان الله ، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها ، ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف الذي وجد منه في أول أمره .
1- سورة " المزمل " هي السورة الثالثة والسبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فهي السورة الثالثة أو الرابعة ، إذ يرى بعضهم أنه لم يسبقها في النزول سوى سورتي العلق والمدثر ، بينما يرى آخرون أنه لم يسبقها سوى سور العلق ، ونون ، والمدثر .
وعدد آياتها عشرون آية عند الكوفيين ، وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة آية عند الحجازيين .
2- وجمهور العلماء على أن سورة " المزمل " من السور المكية الخالصة ، فابن كثير –مثلا- عند تفسيره لها قال : تفسير سورة " المزمل " ، وهي مكية .
وحكى بعضهم أنها مكية سوى آيتين ، فقد قال القرطبي : مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : هي مكية إلا آيتين منها ، وهما قوله –تعالى- : [ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ، وذرني والمكذبين . . . ] .
وقال الثعلبي : هي مكية إلا الآية الأخيرة منها وهي قوله –تعالى- : [ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه . . . ] فإنها نزلت بالمدينة( {[1]} ) .
وقال الشيخ ابن عاشور ما ملخصه : وقال في الإتقان : إن استثناء قوله –تعالى- : [ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل . . . ] إلى آخر السورة ، يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أنها قالت : نزلت هذه الآية بعد نزول صدر السورة بسنة . .
ثم قال الشيخ ابن عاشور : وهذا يعني أن السورة كلها مكية ، والروايات تظاهرت على أن هذه الآية قد نزلت منفصلة عما قبلها ، بمدة مختلف في قدرها ، فعن عائشة أنها سنة . . ومن قال بأن هذه الآية مدنية ، يكون نزولها بعد نزول ما قبلها بسنين . .
والظاهر أن هذه الآية مدنية ، لقوله –تعالى- : [ . . . وآخرون يقاتلون في سبيل الله ] ومن المعروف أن القتال لم يفرض إلا في المدينة –إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة( {[2]} ) .
والسورة الكريمة : زاخرة بالحديث الذي يدخل التسلية والصبر على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعلي من شأن القرآن الكريم ، ويرشد المؤمنين إلى ما يسعدهم ويصلح بالهم ، ويهدد الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم ، ويذكّر الناس بأهوال يوم القيامة . . ويسوق لهم ألوانا من يسر شريعته ورأفته –عز وجل- بعباده ، وإثابتهم بأجزل الثواب على أعمالهم الصالحة .
وقد ذكرالمفسرون عند تفسيرهم لهذه السورة الكريمة روايات منها ما رواه البزار والطبرانى فى الأوسط ، وأبو نعيم فى الدلائل عن جابر - رضى الله عنه - قال : اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدوا الناس عنه فقالوا : كاهن . قالوا : ليس بكاهن . قالوا : مجنون . قالوا : ليس بمجنون . قالوا : ساحر . قالوا : ليس بساحر . . فتفرق المشركون على ذلك . فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فتزمل فى ثيابه وتدثر فيها ، فأتاه جبريل فقرأ عليه : { ياأيها المزمل } { ياأيها المدثر . . . } وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم كان نائما بالليل متزملا فى قطيفة . . فجاءه جبريل بقوله - تعالى - { ياأيها المزمل . قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً . . } .
وقيل : إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاورت بحراء ، فلما قضيت جوارى ، هبطت ، فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا . . فرفعت رأسى فإذا الذى جاءنى بحراء ، جالس على كرسى بين السماء والأرض . . فرجعت فقلت : دثرونى دثرونى " ، وفى رواية : " فجئت أهلى فقلت : زملونى زملونى ، فأنزل الله - تعالى - : { ياأيها المدثر . . . } " .
وجمهور العلماء يقولون : وعلى أثرها نزلت : { ياأيها المزمل . . . } .
و { المزمل } : اسم فاعل من تزمل فلان بثيابه ، إذا تلفف فيها ، وأصله المتزمل ، فأدغمت التاء فى الزاى والميم .
وافتتح الكلام بالنداء للتنبيه على أهمية ما يلقى على المخاطب من أوامر أو نواه .
وفى ندائه صلى الله عليه وسلم بلفظ " المزمل " تلطف معه ، وإيناس لنفسه ، وتحبب إليه ، حتى يزداد نشاطا ، وهو يبلغ رسالة ربه .
والمعنى : يأيها المزمل بثيابه ، المتلفف فيه ، رهبة مما رآه من عبدنا جبريل . او هما وغما مما سمعه من المشركين ، من وصفهم له بصفات هو برئ منها .
سورة المزمل مكية وآياتها عشرون
يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشا اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وللدعوة التي جاءهم بها . فبلغ ذلك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاغتم له ؛ والتف بثيابه وتزمل ونام مهموما . فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا . . الخ )وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل . . . )إلى آخر السورة . تأخر عاما كاملا . حين قام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وطائفة من الذين معه ، حتى ورمت أقدامهم ، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهرا .
وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك - كما سيجيء في عرض سورة المدثر إن شاء الله .
وخلاصتها أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان يتحنث في غار حراء - قبل البعثة بثلاث سنوات - أي يتطهر ويتعبد - وكان تحنثه - عليه الصلاة والسلام - شهرا من كل سنة - هو شهر رمضان - يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة ، ومعه أهله قريبا منه . فيقيم فيه هذا الشهر ، يطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قدرة مبدعة . . وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة ، وتصوراتها الواهية ، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ، ولا منهج محدد ، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه .
وكان اختياره [ صلى الله عليه وسلم ] لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم . ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة ؛ ويفرغ لموحيات الكون ، ودلائل الإبداع ؛ وتسبح روحه مع روح الوجود ؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال ؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم .
ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى . . لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت ، وانقطاع عن شواغل الأرض ، وضجة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة .
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة . فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له ، فلا تحاول تغييره . أما الانخلاع منه فترة ، والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر ، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس ، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع !
وهكذا دبر الله لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ . دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات . ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون ، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله .
فلما أن أذن ، وشاء - سبحانه - أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض ، جاء جبريل عليهالسلام إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهو في غار حراء . . وكان ما قصه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من أمره معه فيما رواه ابن إسحاق عن وهب بن كيسان ، عن عبيد ، قال :
" فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ . قال قلت : ما أقرأ [ وفي الروايات : ما أنا بقارئ ] قال : فغتني به [ أي ضغطني ] حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أقرأ . قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أقرأ : قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قال قلت : ماذا أقرأ ? قال : ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي . فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . قال : فقرأتها . ثم انتهى فانصرف عني . وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا . قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فرفعت رأسي إلى السماء أنظر . فإذا جبريل في صورة رجل ، صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر إليه . فما أتقدم وما أتأخر . وجعلت أحول وجهي عنه في آفاق السماء . قال : فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك . فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ، ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة ، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها [ أي ملتصقا بها مائلا إليها ] فقالت : يا أبا القاسم أين كنت ? فوالله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي . ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت : " أبشر يا بن عم واثبت . فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة " " .
ثم فتر الوحي مدة عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى أن كان بالجبل مرة أخرى فنظر فإذا جبريل ، فأدركته منه رجفة ، حتى جثى وهوى إلى الأرض ، وانطلق إلى أهله يرجف ، يقول : " زملوني . دثروني " . . ففعلوا . وظل يرتجف مما به من الروع . وإذا جبريل يناديه : ( يا أيها المزمل ) . . ( وقيل : يا أيها المدثر )والله أعلم أيتهما كانت .
وسواء صحت الرواية الأولى عن سبب نزول شطر السورة . أو صحت هذه الرواية الثانية عن سبب نزول مطلعها ، فقد علم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه لم يعد هناك نوم ! وأن هناك تكليفا ثقيلا ، وجهادا طويلا ، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام !
وقيل لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]( قم ) . . فقام . وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما ! لم يسترح . ولم يسكن . ولم يعش لنفسه ولا لأهله . قام وظل قائما على دعوة الله . يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به . عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض . عبء البشرية كلها ، وعبء العقيدة كلها ، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى .
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها ، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها ، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها . . حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر . . بل معارك متلاحقة . . مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها ، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها ، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة وفروعها في الفضاء ، وتظلل مساحات أخرى . . ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانتالروم تعد لهذه الأمة الجديدة وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية .
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى - معركة الضمير - قد انتهت . فهي معركة خالدة ، الشيطان صاحبها ؛ وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني . . ومحمد [ صلى الله عليه وسلم ] قائم على دعوة الله هناك . وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة . في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه . وفي جهد وكد والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة . وفي نصب دائم لا ينقطع . . وفي صبر جميل على هذا كله . وفي قيام الليل . وفي عبادة لربه . وترتيل لقرآنه وتبتل إليه ، كما أمره أن يفعل وهو يناديه : ( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحا طويلا . واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا . واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) .
وهكذا قام محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاما . لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد . منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب . . جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء . .
وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد . ويكاد يكون على روي واحد . هو اللام المطلقة الممدودة . وهو إيقاع رخي وقور جليل ؛ يتمشى مع جلال التكليف ، وجدية الأمر ، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق . . هول القول الثقيل الذي أسلفنا ، وهول التهديد المروع : ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ، إن لدينا أنكالا وجحيما ، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما ) . . وهول الموقف الذي يتجلى في مشاهد الكون وفي أغوار النفوس : ( يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) . . ( فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ، السماء منفطر به ، وكان وعده مفعولا ) .
فأما الآية الأخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني ؛ فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وطائفة من الذين معه . والله يعده ويعدهم بهذا القيام لما يعدهم له ! فنزل التخفيف ، ومعه التطمين بأنه اختيار الله لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم . . أما هذه الآية فذات نسق خاص . فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة ، وفيها هدوء واستقرار ، وقافية تناسب هذا الاستقرار : وهي الميم وقبلها مد الياء : ( غفور رحيم ) .
والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة . تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم . وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل ، والصلاة ، وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع المتبتل . والاتكال على الله وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة ! . .
وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير . والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة الله ومغفرته : ( إن الله غفور رحيم ) . .
وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار منالبشرية - البشرية الضالة ، ليردها إلى ربها ، ويصبر على أذاها ، ويجاهد في ضمائرها ؛ وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري ، ولذاذة تلهي ، وراحة ينعم بها الخليون . ونوم يلتذه الفارغون !
( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحا طويلا ، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا . رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) . .
( يا أيها المزمل . . قم . . ) . . إنها دعوة السماء ، وصوت الكبير المتعال . . قم . . قم للأمر العظيم الذي ينتظرك ، والعبء الثقيل المهيأ لك . قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم والراحة . . قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . .
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه [ صلى الله عليه وسلم ] من دفء الفراش ، في البيت الهادئ والحضن الدافئ . لتدفع به في الخضم ، بين الزعازع والأنواء ، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا ، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير . . فماله والنوم ? وماله والراحة ? وماله والفراش الدافئ ، والعيش الهادئ ? والمتاع المريح ? ! ولقد عرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حقيقة الأمر وقدره ، فقال لخديجة - رضي الله عنها - وهي تدعوه أن يطمئن وينام : " مضى عهد النوم يا خديجة " ! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق !
( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) . .
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة . . قيام الليل . أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه . وأقله ثلث الليل . . قيامه للصلاة وترتيل القرآن . وهو مد الصوت به وتجويده . بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم .
وقد صح عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة . ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلا ، يرتل فيه القرآن ترتيلا .
روى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا يحيى بن سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة ، عن زرارة ابن أوفى ، عن سعيد بن هشام . . أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قال : نعم . قال : ائت عائشة فسلها ، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك . . . ثم يقول سعيد بن هشام : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ القرآن ? قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان القرآن . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ هذه السورة : ( يا أيها المزمل )? قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ؛ فقام رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهرا . ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة . . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن ، إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ، ثم ينهض وما يسلم ، ثم يقوم ليصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر الله وحده ، ثم يدعوه ، ثم يسلم تسليما يسمعنا . ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها . وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة . ولا أعلم نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ] قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان . . . "
قال الحافظ أبو بكر [ أحمد ]{[1]} بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا محمد بن موسى القطان الواسطي ، حدثنا معلى بن عبد الرحمن ، حدثنا شريك ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسمًا تصدر{[2]} الناس عنه . فقالوا : كاهن . قالوا : ليس بكاهن . قالوا : مجنون قالوا : ليس بمجنون . قالوا : ساحر . قالوا : ليس بساحر . فتفرق المشركون على ذلك ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها . فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فقال : " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ " " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ " .
ثم قال البزار : معلى بن عبد الرحمن : قد حدث عنه جماعة من أهل العلم ، واحتملوا حديثه ، لكن تفرد بأحاديث لا يتابع عليها . {[3]}
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل ، وهو : التغطي في الليل ، وينهض إلى القيام لربه عز وجل ، كما قال تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ السجدة : 16 ] وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتثلا ما أمره الله تعالى به من قيام الليل ، وقد كان واجبًا عليه وحده ، كما قال تعالى : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] وهاهنا بين له مقدار ما يقوم ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا } ء
قال ابن عباس ، والضحاك ، والسدي : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } يعني : يا أيها النائم . وقال قتادة : المزمل في ثيابه ، وقال إبراهيم النخعي : نزلت وهو متزمل بقطيفة .
وقال شبيب بن بِشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قال : يا محمد ، زُمّلتَ القرآن .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الْمُزّمّلُ * قُمِ الْلّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } .
يعني بقوله : يأَيّها المُزّمّلُ هو الملتفّ بثيابه . وإنما عني بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الاَية من التزمّل ، فقال بعضهم : وصفه بأنه مُتَزمل في ثيابه ، متأهب للصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَأَيّها المُزّمّل : أي المتزمل في ثيابه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة يَأَيّها المُزّمّلُ هو الذي تزمّل بثيابه .
وقال آخرون : وصفه بأنه متزمّل النبوّة والرسالة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرِمة ، في قوله : يأيّها المُزّمِلُ قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَلِيلاً قال : زُمّلت هذا الأمر فقم به .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى القولين بتأويل ذلك ، ما قاله قتادة ، لأنه قد عقبه بقوله : قُم اللّيْلَ فكان ذلك بيانا عن أن وصفه بالتزمّل بالثياب للصلاة ، وأن ذلك هو أظهر معنييه .