قوله تعالى : { والذين جاهدوا فينا } الذين جاهدوا المشركين لنصرة ديننا ، { لنهدينهم سبلنا } لنثبتنهم على ما قاتلوا عليه . وقيل : لنزيدنهم هدىً كما قال : { ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً } وقيل : لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة ، هي التي يوصل بها إلى رضا الله عز وجل . قال سفيان بن عيينة : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور ، والثغور : موضع المخافة في بروج البلدان ، فإن الله قال : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } . وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعات . قال الحسن : أفضل الجهاد مخالفة الهوى . وقال الفضيل بن عياض : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به . وقال سهل بن عبد الله : والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة . وروي عن ابن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا . { وإن الله لمع المحسنين } بالنصر والمعونة في دنياهم وبالثواب والمغفرة في عقباهم .
{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } وهم الذين هاجروا في سبيل اللّه ، وجاهدوا أعداءهم ، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته ، { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي : الطرق الموصلة إلينا ، وذلك لأنهم محسنون .
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } بالعون والنصر والهداية . دل هذا ، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد ، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية ، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي ، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية ، خارجة عن مدرك اجتهاده ، وتيسر له أمر العلم ، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل اللّه ، بل هو أحد نَوْعَي الجهاد ، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق ، وهو الجهاد بالقول واللسان ، للكفار والمنافقين ، والجهاد على تعليم أمور الدين ، وعلى رد نزاع المخالفين للحق ، ولو كانوا من المسلمين .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله - تعالى - : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } .
أى : هذا الذى ذكرناه سابقاً من سوء مصير ، هو للمشركين الذين يؤمنون بالباطل ويتركون الحق ، أما الذين بذلوا جهدهم فى سبيل إعلاء ديننا ، وقدموا أنفسهم وأموالهم فى سبيل رضائنا وطاعتنا ، وأخلصوا لنا العبادة والطاعة ، فإننا لن نتخلى عنهم ، بل سنهديهم إلى الطريق المستقيم ، ونجعل العاقبة الطيبة لهم ، فقد اقتضت رحمتنا وحكمتنا أن نكون مع المحسنين فى أقوالهم وفى أفعالهم ، وتلك سنتنا التى لا تتخلف ولا تتبدل .
وبعد فهذا تفسير لسروة " العنكبوت " نسأل - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصاحبه وسلم .
ويختم السورة بصورة الفريق الآخر . الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه ؛ ويتصلوا به . الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا . الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس . الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب . . أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم ، ولن ينسى جهادهم . إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم . وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم . وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم . وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء :
( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا . وإن الله لمع المحسنين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله كذبا من كفار قريش ، المكذّبين بالحقّ لما جاءهم فينا ، مُبتغين بقتالهم علوّ كلمتنا ، ونُصرة ديننا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنا يقول : لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة ، وذلك إصابة دين الله الذي هو الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وَإنّ اللّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ يقول : وإن الله لمع من أحسن من خلقه ، فجاهد فيه أهل الشرك ، مُصَدّقا رسوله فيما جاء به من عند الله بالعون له ، والنصرة على من جاهد من أعدائه . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله والّذِينَ جاهَدُوا فِينا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَالّذِينَ جاهَدُوا فِينا فقلت له : قاتلوا فينا ، قال : نعم .
خُتم توبيخ المشركين وذمُّهم بالتنويه بالمؤمنين إظهاراً لمزيد العناية بهم فلا يخلو مقام ذم أعدائهم عن الثناء عليهم ، لأن ذلك يزيد الأعداء غيظاً وتحقيراً . و { الذين جاهدوا } في الله هم المؤمنون الأولون فالموصول بمنزلة المعرّف بلام العهد . وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة [ العنكبوت : 6 ] { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } إذ لم يكن يومئذ جهاد القتال كما علمت من قبل . وجيء بالموصول للإِيماء إلى أن الصلة سبب الخبر . ومعنى { جاهدوا فينا } جاهدوا في مرضاتنا ، والدِّين الذي اخترناه لهم . والظرفية مجازية ، يقال : هي ظرفية تعليل تفيد مبالغة في التعليل .
والهداية : الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي ، أي لنزيدنهم هُدى . وسُبُل الله : الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه ، شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف .
والمراد ب { المحسنين } جميع الذين كانوا محسنين ، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عامّ . وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين . وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل : فأولئك المحسنون لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريراً للمعاني ولذلك جاء في تعليم الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم قوله : « كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم » . والمعية : هنا مجاز في العناية والاهتمام بهم . والجملة في معنى التذييل بما فيها من معنى العموم . وإنما جيء بها معطوفة للدلالة على أن المهم من سَوقها هو ما تضمنته من أحوال المؤمنين ، فعطفت على حالتهم الأخرى وأفادت التذييل بعموم حكمها .
وفي قوله { لنهدينهم سبلنا } إيماء إلى تيسير طريق الهجرة التي كانوا يتأهبون لها أيام نزول هذه السورة .