مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (69)

ثم قال تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }

لما فرغ من التقرير والتقريع ولم يؤمن الكفار سلى قلوب المؤمنين بقوله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } أي من جاهد بالطاعة هداه سبل الجنة { وإن الله لمع المحسنين } إشارة إلى ما قال : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } فقوله : { لنهدينهم } إشارة إلى الحسنى وقوله : { وإن الله لمع المحسنين } إشارة إلى المعية والقربة التي تكون للمحسن زيادة على حسناته ، وفيه وجه آخر حكمي وهو أن يكون المعنى { والذين جاهدوا فينا } أي الذين نظروا في دلائلنا { لنهدينهم سبلنا } أي لنحصل فيهم العلم بنا . ولنبين هذا فضل بيان ، فنقول أصحابنا المتكلمون قالوا إن النظر كالشرط للعلم الاستدلالي والله يخلق في الناظر علما عقيب نظره ووافقهم الفلاسفة على ذلك في المعنى وقالوا النظر معد للنفس لقبول الصورة المعقولة ، وإذا استعدت النفس حصل لها العلم من فيض واهب الصور الجسمانية والعقلية ، وعلى هذا يكون الترتيب حسنا ، وذلك لأن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تفدهم العلم والإيمان قال : إنهم لم ينظروا فلم يهتدوا وإنما هو هدى للمتقين الذين يتقون التعصب والعناد فينظرون فيهديهم وقوله : { وإن الله لمع المحسنين } إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأنه تعالى قال من الناس من يكون بعيدا لا يتقرب وهم الكفار ، ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم ويقربهم ومنهم من يكون الله معه ويكون قريبا منه يعلم الأشياء منه ولا يعلمه من الأشياء ، ومن يكون مع الشيء كيف يطلبه فقوله : { ومن أظلم } إشارة إلى الأول وقوله : { والذين جاهدوا فينا } إشارة إلى الثاني وقوله : { وإن الله لمع المحسنين } إشارة إلى الثالث .

والله أعلم بأسرار كتابه ، والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين .