فأخبر تعالى أن كلا من الجنتين آتت أكلها ، أي : ثمرها وزرعها ضعفين ، أي : متضاعفا { و } أنها { لم تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أي : لم تنقص من أكلها أدنى شيء ، ومع ذلك ، فالأنهار في جوانبهما سارحة ، كثيرة غزيرة .
{ وَكَانَ لَهُ } أي : لذلك الرجل { ثَمَرٌ } أي : عظيم كما يفيده التنكير ، أي : قد استكملت جنتاه ثمارهما ، وارجحنت أشجارهما ، ولم تعرض لهما آفة أو نقص ، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث ، ولهذا اغتر هذا الرجل بهما ، وتبجح وافتخر ، ونسي آخرته .
ثم ذكر - سبحانه - ما يزيد من جودة الجنتين ، ومن غزارة خيرهما فقال : { كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } وكلتا : اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين ، وهو المذهب المشهور ، ومثنى لفظا ومعنى عند غيرهم .
أى : أن كل واحدة من الجنتين { آتت أكلها } أى : أعطت ثمارها التى يأكلها الناس من العنب والتمر وغيرهما من صنوف الزرع { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } أى ولم تنتقص من هذا المأكول شيئا فى سائر السنين ، بل كان أكل كل واحدة منهما وافيا كثيرا فى كل سنة ، على خلاف ما جرت به عادة البساتين ، فإنها فى الغالب تكثر ثمارها فى أحد الأعوام وتقل فى عام آخر .
وفى التعبير بكلمة { تظلم } بمعنى تنقص وتمنع ، مقابلة بديعة لحال صاحبهما الذى ظلم نفسه بجحوده لنعم الله - تعالى - واستكباره فى الأرض .
وقوله { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } أى : وشققنا فى وسطهما نهرا ليمدهما بما يحتاجان إليه من ماء بدون عناء وتعب .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هاتين الجنتين بما يدل على جمال منظرهما ، وغزارة عطائهما ، وكثرة خيراتهما ، واشتمالهما على ما يزيدهما بهجة ومنفعة .
وقوله : كِلْتا الجَنّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها يقول : كلا البستانين أطعم ثمره وما فيه من الغروس من النخل والكرم وصنوف الزرع . وقال : كلتا الجنتين ، ثم قال : آتت ، فوحّد الخبر ، لأن كلتا لا يفرد واحدتها ، وأصله كلّ ، وقد تفرد العرب كلتا أحيانا ، ويذهبون بها وهي مفردة إلى التثنية قال بعض الرّجاز في ذلك :
فِي كِلْتَ رِجْلَيْها سُلاَمي وَاحدَه *** كِلْتاهُما مَقْرُونَةٌ بِزَائِدَهْ
يريد بكلت : كلتا ، وكذلك تفعل بكلتا وكلا وكل إذا أضيفت إلى معرفة ، وجاء الفعل بعدهن ويجمع ويوحد . وقوله : ولَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا يقول : ولم تنقص من الأكل شيئا ، بل آتت ذلك تاما كاملاً ، ومنه قولهم : ظلم فلان فلانا حقّه : إذا بخَسَهُ ونقصه ، كما قال الشاعر :
تَظّلَمَنِي ما لي كَذَا وَلَوى يَدِي *** لَوَى يَدَهُ اللّهُ الّذِي هُوَ غالِبُهْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ولَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا : أي لم تنقص منه شيئا .
وقوله : وَفَجّرْنا خِلاَلهُما نَهَرا يقول تعالى ذكره : وَسيّلنا خلال هذين البستانين نهرا ، يعني بينها وبين أشجارهما نهرا . وقيل : وفَجّرْنا فثقل الجيم منه ، لأن التفجير في النهر كله ، وذلك أنه يميد ماء فيُسيل بعضه بعضا .
{ كلتا الجنّتين آتت أُكُلها } ثمرها ، وإفراد الضمير لإفراد { كلتا } وقرئ " كل الجنتين آتى أكله " . { ولم تظلم منه } ولم تنقص من أكلها . { شيئا } يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام غالبا . { وفجّرنا خلالهما نهراً } ليدوم شربهما فإنه الأصل ويزيد بهاؤهما ، وعن يعقوب " وَفَجَرْنَا " بالتخفيف .
{ كلتا } اسم دال على الإحاطة بالمثنى يفسره المضاف هو إليه ، فهو اسم مفرد دال على شيئين نظير زَوج ، ومذكره ( كلا ) . قال سيبويه : أصل كلا كِلَو وأصل كلتا كِلْوا فحذفت لام الفعل من كلتا وعُوضت التاء عن اللام المحذوفة لتدل التاء على التأنيث . ويجوز في خبر كلا وكلتا الإفراد اعتباراً للفظه وهو أفصح كما في هذه الآية . ويجوز تثنيته اعتباراً لمعناه كما في قول الفرزدق :
كِلاهما حين جدّ الجري بينهما *** قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
و { أكْلها } قرأه الجمهور بضم الهمزة وسكون الكاف . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم الهمزة وضم الكاف وهو الثمر ، وتقدم .
وجملة { كلتا الجنتين آتت أكلها } معترضة بين الجمل المتعاطفة . والمعنى : أثمرت الجنتان إثماراً كثيراً حتى أشبهت المعطي من عنده .
ومعنى { ولم تظلم منه شيئاً } لم تَنقُصْ منه ، أي من أكُلها شَيئاً ، أي لم تنقصه عن مقدار ما تُعطيه الأشجار في حال الخِصب . ففي الكلام إيجاز بحذف مضاف . والتقدير : ولم تظلم من مقدار أمثاله . واستعير الظلم للنقص على طريقة التمثيلية بتشبيه هيئة صاحب الجنتين في إتقان خَبْرِهما وترقب إثمارهما بهيئة من صار له حق في وفرة غلتها بحيث إذا لم تَأت الجنتان بما هو مترقب منهما أشبَهتا من حَرم ذَا حق حقه فظَلمه ، فاستعير الظلم لإقلال الإغلال ، واستعير نفيه للوفاء بحق الإثمار .
والتفجير تقدم عند قوله تعالى : { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } في سورة الإسراء ( 90 ) .
والنهَر بتحريك الهاء لغة في النَهْر بسكونها . وتقدم عند قوله تعالى : { قال إن الله مبتليكم بنهر } في سورة البقرة ( 249 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كلتا الجنتين ءاتت أكلها}، يعني: أعطت ثمراتها كلها،
{ولم تظلم منه شيئا}، يعني: ولم تنقص من الثمر شيئا...
{وفجرنا خلالهما نهرا}، يعني: أجرينا النهر وسط الجنتين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كِلْتا الجَنّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها" يقول: كلا البُستانَين أطعم ثمره وما فيه من الغروس من النخل والكَرْم وصنوف الزرع...
"ولَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا" يقول: ولم تنقص من الأكل شيئا، بل آتت ذلك تاما كاملاً...
"وَفَجّرْنا خِلاَلهُما نَهَرا" يقول تعالى ذكره: وَسيّلنا خلال هذين البستانين نهرا، يعني بينهما وبين أشجارهما نهرا. وقيل: وفَجّرْنا فثقل الجيم منه، لأن التفجير في النهر كله، وذلك أنه يميد ماء فيسيل بعضه بعضا...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{كلتا الجَنتين آتت أكلُها} أي ثمرها وزرعها، وسماه أكُلاً لأنه مأكول. {ولم تظلم منه شيئاً} أي استكمل جميع ثمارها وزرعها. {وفجرنا خِلالهما نهراً} يعني أن فيهما أنهاراً من الماء، فيكون ثمرها وزرعها بدوام الماء فيهما أَوْفَى وأَرْوَى، وهذه غاية الصفات فيما يجدي ويُغِلُّ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الشجر قد يكون فاسداً من جهة أرضه، نفى ذلك بقوله تعالى؛ جواباً لمن كأنه قال: ما حال أرضهما المنتج لزكاء ثمرهما؟: {كلتا} أي كل واحدة من {الجنتين} المذكورتين {ءاتت أكلها} أي ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب، كاملاً غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة، وهو معنى: {ولم تظلم} أي تنقص حساً ولا معنى كمن يضع الشيء في غير موضعه {منه شيئاً}. ولما كان الشجر ربما أضر بدوامه قلة السقي قال تعالى: {وفجرنا} أي تفجيراً يناسب عظمتنا {خلالهما نهراً} أي يمتد فيتشعب فيكون كالأنهار لتدوم طراوة الأرض ويستغني عن المطر عند القحط؛ ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختار التعبير كلمة (تظلم) في معنى تنقص وتمنع، لتقابل بين الجنتين وصاحبهما الذي ظلم نفسه فبطر ولم يشكر، وازدهى وتكبر...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وجملة {كلتا الجنتين آتت أكلها} معترضة بين الجمل المتعاطفة. والمعنى: أثمرت الجنتان إثماراً كثيراً حتى أشبهت المعطي من عنده.
ومعنى {ولم تظلم منه شيئاً} لم تَنقُصْ منه، أي من أكُلها شَيئاً، أي لم تنقصه عن مقدار ما تُعطيه الأشجار في حال الخِصب. ففي الكلام إيجاز بحذف مضاف. والتقدير: ولم تظلم من مقدار أمثاله. واستعير الظلم للنقص على طريقة التمثيلية بتشبيه هيئة صاحب الجنتين في إتقان خَبْرِهما وترقب إثمارهما بهيئة من صار له حق في وفرة غلتها بحيث إذا لم تَأت الجنتان بما هو مترقب منهما أشبَهتا من حَرم ذَا حق حقه فظَلمه، فاستعير الظلم لإقلال الإغلال، واستعير نفيه للوفاء بحق الإثمار.