{ 35 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين ، بما يقتضيه الإيمان من تقوى الله والحذر من سخطه وغضبه ، وذلك بأن يجتهد العبد ، ويبذل غاية ما يمكنه من المقدور في اجتناب ما يَسخطه الله ، من معاصي القلب واللسان والجوارح ، الظاهرة والباطنة . ويستعين بالله على تركها ، لينجو بذلك من سخط الله وعذابه . { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } أي : القرب منه ، والحظوة لديه ، والحب له ، وذلك بأداء فرائضه القلبية ، كالحب له وفيه ، والخوف والرجاء ، والإنابة والتوكل . والبدنية : كالزكاة والحج . والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها ، من أنواع القراءة والذكر ، ومن أنواع الإحسان إلى الخلق بالمال والعلم والجاه ، والبدن ، والنصح لعباد الله ، فكل هذه الأعمال تقرب إلى الله . ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله ، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي [ بها ] ويستجيب الله له الدعاء .
ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه ، الجهاد في سبيله ، وهو : بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال ، والنفس ، والرأي ، واللسان ، والسعي في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد ، لأن هذا النوع من أجل الطاعات وأفضل القربات .
ولأن من قام به ، فهو على القيام بغيره أحرى وأولى { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إذا اتقيتم الله بترك المعاصي ، وابتغيتم الوسيلة إلى الله ، بفعل الطاعات ، وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته .
والفلاح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب ، والنجاة من كل مرهوب ، فحقيقته السعادة الأبدية والنعيم المقيم .
وبعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة المحاربين له ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأخرج منهم من تاب إليه - سبحانه - قبل القدرة عليه بعد كل ذلك وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بتقواه ، وبالتقرب إليه بالعمل الصالح فقال - تعالى - :
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا . . . }
قوله : { اتقوا } من التقوى بمعنى صيانة النفس عن كل ما يبغضه الله - تعالى - .
وقوله : { وابتغوا } من الابتغاء وهو الاجتهاد في طلب الشيء .
و { الوسيلة } على وزن فعيلة بمعنى ما يتوصل به ويتقربي به إلى الله - تعالى - ، من فعل الطاعات ، واجتناب المعاصي ، مأخوذة من وسل إلى كذا ، أي : تقرب إليه بشيء . وقيل : الوسيلة الحاجة .
قال الراغب : الوسيلة : التوصل إلى الشيء برغبة ، وهي أخص من الوصيلة ، لتضمنها معنى الرغبة ، وحقيقة الوسيلة إلى الله مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة ، وهي كالقربة . والواسل : الراغب إلى الله - تعالى . .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم { اتقوا الله } أي : خافوه وصونوا أنفسكم عن كل ما لا يرضيه { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } : أي : اطلبوا باجتهاد ونشاط الزلفى والقربى إلأيه عن طريق مداومتكم على فعل الطاعات ، والتزود من الأعمال الصالحات ، واجتناب المعاصي والمنكرات .
{ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : وجاهدوا أنفسكم بكفها عن الأهواء ، وكذلك جاهدوا أعداءكم حتى تكون كلمة الله هي العليا ، رجاء أن تفوزوا بالفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة . وقد ناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان ، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإِيمان من طاعة وإخلاص .
وقوله : ( إليه ) متعلق بالفعل قبله وهو ( وابتغوا ) أو بلفظ ( الوسيلة ) لأنها بمعنى المتوسل به ، وقدم الجار والمجرور لإفادة التخصيص .
أي : اطلبوا برغبة وشدة ما يقربكم إلى الله من الأعمال الصالحة ، ولا تتقربوا إلى غيره إلا في ظل طلب رضاه - سبحانه - .
أو : اطلبوا متوجهين إليه - سبحانه - حاجتكم ، فإن بيده مقاليد السموات والأرض ، ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره .
وقد جاء لفظ الوسيلة في الأحاديث النبوية على أنه اسم لأعلى الدرجات في الجنة ، وهذا المعنى متلاق مع أصل المعنى ، وهو التقرب إلى الله والتوسل إليه وحده بالطاعات ، لأن من يفعل ذلك ينال من الله - تعالى - أسمى الدرجات .
وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث في هذا المعنى فقال ما ملخصه :
الوسيلة : القربة . كذا قال ابن عباس ومجاهد وأبووائل والحسن وقتادة وغير واحد .
قال قتادة : أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه .
والوسيلة أيضاً : علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة ، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش . وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال حين سمع النداء - أي الآذان - : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة " .
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على ، فإنه من صلى على صلاة صلى الله عليه بها عشراً ، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو . فمن سأل الوسيلة حلت له شفاعتي " .
والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد أرشدت المؤمنين إلى ما يسعدهم بأن ذكرت لهم ثلاث وسائل وغاية ، أو ثلاث مقدمات ونتيجة .
أما الوسائل الثلاث أو المقدمات الثلاث فهي : تقوى الله ، والتقرب إليه بما يرضيه ، والجهاد في سبيله . وأما الغاية في أو النتيجة لكل ذلك فهي الفلاح والفوز والنجاح .
ولو أن المسلمين تمسكوا بهذه الوسائل حق التمسك لو صلوا إلى ما يسعدهم في دنياهم وفي آخرتهم .
هذا ، وللعلماء كلام طويل في التوسل والوسيلة ، نرى أنه لا بأس من ذكر جانب منه .
قال الإِملام ابن تيمية : إن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه ، يجب أن تعرف معانيه ويعطي كل ذي حق حقه . فيعرف ما ورد به به الكتاب والنسة من ذلك ومعناه : وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك ، ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإِجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب .
إن لفظ الوسيلة ورد في القرآن ومن ذلك قوله - تعالى - { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } .
الوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه . هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات .
فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها ، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول ، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك .
ولفظ الوسيلة ورد - أيضاً - في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم " سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله . وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد " .
ثم قال : والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة ، يريدون التوسل به وشفاعته . والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإِقسام به والسؤال به .
وحينئذ فلفظ التوسل به صلى الله عليه وسلم يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة .
أما المعنيان الصحيحان . فأحدهما : التوسل بالإِيمان به وبطاعته .
والثاني : دعاؤه وشفاعته . ومن هذا قول عمر بن الخطاب : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا - العباس - فاسقنا أي بدعائه وشفاعته .
والتوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر - هو توسل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس .
فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس ، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته .
وأما المعنى الثالث الذي لم ترد به سنة فهو التوسل به بمعنى الإِقسام على الله بذاته والسؤال بذاته ، فهذا لم يكن الصحابة يفعلونه لا في حياته ولا بعد مماته ولا عند قبره ولا غير قبره . ولا يعرف في شيء من الأدعية المشهورة بينهم وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة . أو عن من ليس قوله حجة .
قال الآلوسي ما ملخصه : واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين ، وجعلهم وسيلة بين الله - تعالى - وبين العباد والقسم على الله - تعالى - بهم ، بأن يقال : اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا . ومنهم من يقول للغائب أو للميت من عباد الله الصالحين : يا فلان ادع الله أن يرزقني كذا وكذا ويزعمون أن ذلك من ابتغاء الوسيلة وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل .
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا ، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب ، بل قد يطلب الفاضل من المفضول ، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما استأذنه في العمرة : " لا تنسنا يا أخي من دعائك " ولم يرد عن أحد من الصحابة - وهم أحرص الناس على كل خير - أنه طلب من ميت شيئا .
وأما القسم على الله - تعالى - بأحد من خلقه مثل أن يقال : اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي ، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم . ولا يجوز أن يقسم على الله بغيره من الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء . لأنهم ليسوا في درجته .
ومن الناس من منع التوسل بالذات ، والقسم على الله بأحد من خلقه مطلقاً ، وهو الذي ترشح به كلام ابن تيمية ونقله عن أبي حنيفة وأبي يوسف ، وغيرهما من العلماء الأعلام . ثم قال بعد كلام طويل :
وبعد هذا كله فأنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله - تعالى - بجاه النبي صلى الله عليه وسلم حيا وميتا ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته - تعالى - مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته فكون معنى القائل : إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي لي حاجتين ، أي : إلهي أجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي ، بل لا أرى بأسا - أيضاً - في الأقسام على الله - تعالى - بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى .
ثم قال : وإن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله - تعالى - من الأولياء . الأحياء منهم والأموات وغيرهم . مثل يا سيدي فلان أغثني . وليس ذلك من التوسل المباح في شيء . . واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك . وأن لا يحوم حول حماه ، وقد عده بعض العلماء شركا ، وإن لا يكنه فهو قريب منه .
فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله - تعالى - القوى الغني الفعال لما يريد .
والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالقانون وحده . إنما يرفع سيف القانون ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلا السيف . فأما اعتماده الأول فعلى تربية القلب ، وتقويم الطبع . وهداية الروح – ذلك إلى جانب إقامة المجتمع والمنهج الرباني لا يأخذ الناس بالقانون وحده . إنما يرفع سيف القانون ويصلته ليرتدع من لا يردعه إلاّ السيف . فأما اعتماده الأول فعلى تربية القلب ، وتقويم الطبع . وهداية الروح - ذلك إلى جانب إقامة المجتمع الذي تنمو فيه بذرة الخير وتزكو ، وتذبل فيه نبتة الشر وتذوي - لذلك ما يكاد ينتهي السياق القرآني من الترويع بالعقوبة حتى يأخذ طريقه إلى القلوب والضمائر والأرواح ؛ يستجيش فيها مشاعر التقوى ؛ ويحثها على ابتغاء الوسيلة إلى الله والجهاد في سبيله رجاء الفلاح ؛ ويحذرها عاقبة الكفر به ؛ ويصور لها مصائر الكفار في الآخرة تصويراً موحياً بالخشية والاعتبار :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، وابتغوا إليه الوسيلة ، وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون .
إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ، ومثله معه ، ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم . ولهم عذاب أليم . يريدون أن يخرجوا من النار ، وما هم بخارجين منها ، ولهم عذاب مقيم } . .
إن هذا المنهج المتكامل يأخذ النفس البشرية من أقطارها جميعاً ؛ ويخاطب الكينونة البشرية من مداخلها جميعاً ؛ ويلمس أوتارها الحية كلها وهو يدفعها إلى الطاعة ويصدها عن المعصية . . إن الهدف الأول للمنهج هو تقويم النفس البشرية وكفها عن الانحراف . والعقوبة وسيلة من الوسائل الكثيرة . وليست العقوبة غاية ، كما أنها ليست الوسيلة الوحيدة .
وهنا نرى أنه يبدأ هذا الشوط بنبأ ابني آدم - بكل ما فيه من موحيات - ثم يثني بالعقوبة التي تخلع القلوب . ثم يعقب بالدعوة إلى تقوى الله وخشيته والخوف من عقابه . ومع الدعوة التصوير الرعيب للعقاب . .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } . .
فالخوف ينبغي أن يكون من الله . فهذا هو الخوف اللائق بكرامة الإنسان . أما الخوف من السيف والسوط فهو منزلة هابطة . لا تحتاج إليها إلا النفوس الهابطة . . والخوف من الله أولى وأكرم وأزكى . . على أن تقوى الله هي التي تصاحب الضمير في السر والعلن ؛ وهي التي تكف عن الشر في الحالات التي لا يراها الناس ، ولا تتناولها يد القانون . وما يمكن أن يقوم القانون وحده - مع ضرورته - بدون التقوى ؛ لأن ما يفلت من يد القانون حينئذ أضعاف أضعاف ما تناله . ولا صلاح لنفس ، ولا صلاح لمجتمع يقوم على القانون وحده ؛ بلا رقابة غيبية وراءه ، وبلا سلطة إلهية يتقيها الضمير .
اتقوا الله ؛ واطلبوا إليه الوسيلة ؛ وتلمسوا ما يصلكم به من الأسباب . . وفي رواية عن ابن عباس : ابتغوا إليه الوسيلة ؛ أى ابتغوا إليه الحاجة . والبشر حين يشعرون بحاجتهم إلى الله وحين يطلبون عنده حاجتهم يكونون في الوضع الصحيح للعبودية أمام الربوبية ؛ ويكونون - بهذا - في أصلح أوضاعهم وأقربها إلى الفلاح . وكلا التفسيرين يصلح للعبارة ؛ ويؤدي إلى صلاح القلب ، وحياة الضمير ، وينتهي إلى الفلاح المرجو .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُوَاْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } . .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعدهم من الثواب ، وأوعد من العقاب اتّقُوا اللّهَ يقول : أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك ، وحققوا إيمانكم وتصديقكم ربكم ونبيكم بالصالح من أعمالكم . وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ يقول : واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه . والوسيلة : هي الفعلية من قول القائل : توسلت إلى فلان بكذا ، بمعنى : تقرّبت إليه ، ومنه قول عنترة :
إنّ الرّجالَ لهُمْ إلَيْكِ وَسِيلَةٌ ***أنْ يأْخُذُوكِ تَكَحّلِي وتَخَضّبِي
يعني بالوسيلة : القُرْبة . ومنه قول الاَخر :
إذا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنا لِوَصْلِنا ***وَعادَ التّصَافِي بَيْنَنا وَالوَسائِلُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ( ح ) ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي وائل : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلةَ قال : القربة في الأعمال .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ( ح ) ، وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن طلحة ، عن عطاء : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : القُربة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : هي المسألة والقربة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَابْتَغُواإلَيْهِ الوَسِيلَةَ : أي تقرّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ : القربة إلى الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : القربة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قوله : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : القربة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ قال : المحبة ، تحببوا إلى الله . وقرأ : أولَئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوَسِيلَةَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلكُمْ تُفْلِحُونَ .
يقول جلّ ثناؤه للمؤمنين به وبرسوله : وجاهدوا أيها المؤمنون أعدائي وأعداءكم في سبيلي ، يعني : في دينه وشريعته التي شرعها لعباده ، وهي الإسلام ، يقول : أتعبوا أنفسكم في قتالهم وحملهم على الدخول في الحنيفية المسلمة لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ يقول : كيما تنجحوا فتدركوا البقاء الدائم ، والخلود في جناته . وقد دللنا على معنى الفلاح فيما مضى بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } أي ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي ، من وسل إلى كذا إذا تقرب إليه وفي الحديث " الوسيلة منزلة في الجنة " . { وجاهدوا في سبيله } بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة . { لعلكم تفلحون } بالوصول إلى الله سبحانه وتعالى والفوز بكرامته .
اعتراض بين آيات وعيد المحاربين وأحكام جزائهم وبين ما بعده من قوله : { إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً } [ المائدة : 36 ] الآية . خاطب المؤمنين بالتّرغيب بعد أن حذّرهم من المفاسد ، على عادة القرآن في تخلّل الأغراض بالموعظة والتّرغيب والتّرهيب ، وهي طريقة من الخطابة لاصطياد النّفوس ، كما قال الحريري : « فلمّا دَفنوا الميْتْ ، وفاتَ قول ليتْ ، أقبل شَيخ من رِباوَة ، متأبّطاً لهراوة ، . فقال : لمثل هذا فليعمل العاملون ، إلخ . فعُقّب حكم المحاربين من أهل الكفر بأمر المؤمنين بالتّقوى وطلب ما يوصلهم إلى مرضاة الله . وقابل قتالاً مذموماً بقتال يحمد فاعله عاجلاً وآجلاً » .
والوسيلة : كالوصيلة . وفعل وَسَل قريب من فعل وَصَلَ ، فالوسيلة : القُربة ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة ، أي متوسّل بها أي اتبعوا التقرّب إليه ، أي بالطاعة .
و { إليه } متعلّق ب { الوسيلة } أي الوسيلة إلى الله تعالى . فالوسيلة أريد بها ما يبلغ به إلى الله ، وقد علم المسلمون أنّ البلوغ إلى الله ليس بلوغ مسافة ولكنّه بلوغ زلفى ورضى . فالتّعريف في الوسيلة تعريف الجنس ، أي كلّ ما تعلمون أنّه يقرّبكم إلى الله ، أي ينيلكم رضاه وقبول أعمالكم لديه . فالوسيلة ما يقرّب العبد من الله بالعمل بأوامره ونواهيه . وفي الحديث القُدسي : " ما تَقَرّب إلَيّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه " الحديث . والمجرور في قوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } متعلّق ب { ابتغوا } . ويجوز تعلّقه ب { الوسيلة } ، وقدم على متعلّقه للحصر ، أي لا تتوسّلوا إلاّ إليه لا إلى غيره فيكون تعريضاً بالمشركين لأنّ المسلمين لا يظنّ بهم ما يقتضي هذا الحصر .