221- وإذا كانت مخالطة اليتامى لا حرج فيها فإن الحرج في مخالطة أهل الشرك ، فلا ينكح المؤمن مشركة لا تدين بكتاب سماوي ، ولا يحمل المرء منكم على زواج المشركة مالها وجمالها وحسبها ونسبها . فالمؤمنة التي وقع عليها الرق خير من المشركة الحرة ذات المال والجمال والحسب والنسب ، ولا يزوج المرء منكم من له عليه ولاية من النساء مشركاً لا يؤمن بالكتب السماوية ، ولا يبعث أحدكم على إيثار المشرك غناه وشرفه ، فخير منه العبد المؤمن ، فأولئك المشركون يجتذبون عشراءهم إلى المعصية والشرك فيستوجبون النار . والله إذ يدعوكم إلى اعتزال المشركين في النكاح يدعوكم إلى ما فيه صلاحكم ورشادكم لتنالوا الجنة والمغفرة ، وتسيروا في طريق الخير بتيسيره ، والله يبين شرائعه وهديه للناس لعلهم يعرفون صلاحهم ورشادهم .
قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } . سبب نزول هذه الآية أن أبا مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، وقال مقاتل : هو أبو مرثد الغنوزي ، وقال عطاء : أبو مرثد كناز بن الحصين وكان شجاعا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سراً ، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق ، وكانت خليلته في الجاهلية ، فأتته وقالت : يا أبا مرثد ألا تخلو ؟ فقال لها : ويحك يا عناق ، إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك ، قالت : فهل لك أن تتزوج بي ؟ قال نعم ، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره ، فقالت أبي تتبرم ؟ ثم استغاثت عليه فضربوه ضرباً شديداً ، ثم خلوا سبيله ، فلما قضى حاجته بمكة وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بالذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها وقال : يا رسول الله أيحل لي أن أتزوجها ؟ فأنزل الله تعالى ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) . وقيل : الآية منسوخة في حق الكتابيات بقوله تعالى ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) وبخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبإجماع الأمة .
روى الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " .
فإن قيل : كيف أطلقتم اسم الشرك على من لا ينكر إلا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبو الحسن بن فارس : لأن من يقول القرآن كلام غير الله فقد أشرك مع الله وغيره ، وقال قتادة و سعيد بن جبير : أراد بالمشركات الوثنيات ، فإن عثمان تزوج نائلة بنت فرافصة ، وكانت نصرانية فأسلمت تحته ، وتزوج طلحة ابن عبيد الله نصرانية ، وتزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر رضي الله عنه : اخل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تتعافوا المؤمنات منهن .
قوله تعالى : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } . بجمالها ومالها ، نزلت في خنساء وليدة سوداء ، كانت لحذيفة بن اليمان قال حذيفة : يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى ، على سوادك ودمامتك فأعتقها وتزوجها ، وقال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء فغضب عليها ولطمها ثم خرج فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال له صلى الله عليه وسلم : " وما هي يا عبد الله ؟ قال : هي تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وتصوم رمضان ، وتحسن الوضوء وتصلي فقال : " هذه مؤمنة " قال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق نبياً لأعتقنها ولأتزوجنها . ففعل ذلك فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : أتنكح أمة ؟ وعرضوا عليه حرة مشركة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } . هذا إجماع : لا يجوز للمسلمة أن تنكح المشرك .
قوله تعالى : { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ، أولئك } . يعني المشركين .
قوله تعالى : { يدعون إلى النار } . أي إلى الأعمال الموجبة للنار .
قوله تعالى : { والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه } . أي بقضائه وقدره وإرادته .
{ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
أي : { وَلَا تَنْكِحُوا } النساء { الْمُشْرِكَاتِ } ما دمن على شركهن { حَتَّى يُؤْمِنَّ } لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة ، ولو بلغت من الحسن ما بلغت ، وهذه عامة في جميع النساء المشركات ، وخصصتها آية المائدة ، في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }
{ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } وهذا عام لا تخصيص فيه .
ثم ذكر تعالى ، الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة ، لمن خالفهما في الدين فقال : { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي : في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم ، فمخالطتهم على خطر منهم ، والخطر ليس من الأخطار الدنيوية ، إنما هو الشقاء الأبدي .
ويستفاد من تعليل الآية ، النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع ، لأنه إذا لم يجز التزوج مع{[139]} أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى ، وخصوصا ، الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم ، كالخدمة ونحوها .
وفي قوله : { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } دليل على اعتبار الولي [ في النكاح ] .
{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } أي : يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة ، التي من آثارها ، دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة ، والتوبة النصوح ، والعلم النافع ، والعمل الصالح .
{ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ } أي : أحكامه وحكمها { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه ، وعلم ما جهلوه ، والامتثال لما ضيعوه .
ولقد بدأت الآيات التي معنا حديثها عن الأسرة بالحديث عن الزواج لأنه أعمق الروابط وأقواها ومنه تتأتى الذرية ، لذا جعل أساس الاختيار فيه هو التدين السليم ، والخلق القويم ، الذي يسعد ولا يشقى ، ويبني ولا يهدم ، ويحفظ ولا يضيع . . ولا يتأتى ذلك إلا باختيار المسلمة الصالحة والإِعراض عن المشركة الكافرة .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يبين ذلك فيقول :
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات . . . } .
قوله - تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } النكاح في اللغة الضم وتداخل أجزاء الشيء بعضها في بعض . ثم أطلق على العقد الذي به تكون العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة مشروعة .
والمشرك في لسان الشرع : من يدين بتعدد الآلهة مع الله - تعالى - وأصله من الإِشراك بمعنى أن تجعل الشيء بينك وبين غيرك شركة ، فمن يعبد مع الله - تعالى - إلها آخر يعد مشركاً ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
ويرى كثير من العلماء أن إطلاق كلمة : مشرك ، ومشركين ، ومشركات في القرآن الكريم تعني عبدة الأوثان ، وأنها صارت في استعمال القرآن حقيقة عرفية فيهم ، ولم يطلقها القرآن على اليهود والنصارى وإنما عبر عنهم بهذا الاسم أو بأهل الكتاب ، أو بوصف الفكر دون الشرك كما في قوله - تعالى - : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ } وعليه فالمراد بالمشركات والمشركين في الآية عبدة الأوثان .
وذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يشمل بمقتضى عمومه المرأة الوثنية ، واليهودية ، والنصرانية .
وقد ترتب على هذا الخلاف في إطلاق كلمة " مشرك " أن أصحاب الرأي الأول قالوا : إن النهي في الآية إنما هو عن زواج المشركات اللائي يعبدون الأوثان ولا كتاب لهن ، وأنه يجوز - مع الكراهية - أن يتزوج المسلم الكتابية ، لأن القرآن يقول : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } الآية . ولأنه قد جاءت الروايات بأن بعض الصحابة قد تزوج بكتابيات . فعثمان بن عفان تزوج نصرانية ثم أسلمت ، وطلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان تزوجا يهوديتين .
أمامن قال بالرأي الثاني فيرى حرمة الزواج بالوثنية واليهودية والنصرانية لأن لفظ المشركات يشملهن جميعا . وأصحاب هذا الرأي - كما يقول الآلوسي - يجعلون آية المائدة وهي قوله - تعالى - { والمحصنات مِنَ المؤمنات } منسوخة بالآية التي معنا نسخ الخاص بالعام . . وإلى هذا الرأي ذهب الإِمامية وبعض الزيدية .
وروى عن عمر وعبد الله ابنه - رضي الله عنهما - أنهما حرما ذلك وفي رواية أنها كرهاه وهي الأصح .
قال القرطبي : وروى عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب . فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ولكن أفرق بينمكا صغرة قمأة . قال ابن عطية وهذا لا يستند جيداً ، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن .
ثم قال القرطبي : وكان ابن عمر إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية .
قال حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئاً من الإِشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله . قال النحاس : وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة ، لأنه قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة منهخم عثمان وطلحة وابن عباس . . ومن التباعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد . . وفقهاء الأمصار عليه ، وأيضاً فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة ، لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل ، وإنما الآخر ينسخ الأول - أو يخصصه - وأما قول ابن عمر فلا حجة فيه ، لأن ابن عمر - رضي الله عنه - كان متوقفا ، فلما سمع الآيتين في واحدة التحليل وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف ، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه ، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل .
والذي نراه أن زواج المسلم بالكتابية جائز لأن القرآن صريح في ذلك ، ولأن عمر - رضي الله عنه - أقر بأنه ليس بحرام ، فتكون آية المائدة مخصصة لآية البقرة على فرض عمومها ، ومبينة لحكم جديد خاص بالكتابيات ، وهو الجواز ولكن هذا الجواز لا ينمع كراهته ، لأن الزواج بالكتابية كثيراً ما يؤثر في إضعاف العاطفة الدينية عند المسلم ، وعد الأطفال الذين يكونون ثمرة لهذا الزواج ، لأنهم يخرجون إلى الحياة وقد رضعوا الميل إلى دين أمهم ، ولأن المرأة الكتابية التي تقبيل الزواج بالمسلم كثيراً ما تكون منحرفة في سلوكها وأن الدافع لها إلى هذا الزواج إنما هو المال أو الجمال أو الجاه وليس الدين أو الخلق ، لأنه لو كان الدافع ذلك لرضيت بالإِسلام دينا ، وبآدابه خلقاً لها ، وما أحكم قول عمر لحذيفة : " لا أعزم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن " .
هذه خلاصة لاراء العلماء في هذه المسألة ومن أراد المزيد فليرجع إلى أقوالهم في مظانها .
والمعنى : أنها كم أيها المؤمنون أن تتزوجوا بالنساء المشركات حتى يؤمن بالله - تعالى - ويذعن لتعاليم الإِسلام وآدابه .
وقوله : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } تعليل للنهى ، وبيان لفضل المؤمنات على المشركات ، ولفضل طهارة النفس على جمال الجسم ، والمراد بالامة هنا الأنثى المملوكة من الرقيق ، وبالمشركة الحرة الجميلة بقرينة المقابلة .
أي : ولأنثى رقيقة مؤمنة مع ما بها من الرق وقلة الجاه والجمال خير في التزوج بها من ارمأة حرة مشركة ولو أعجبتكم بجمالها ونسبها وغير ذلك من منافع دنيوية ، لأن ما يتعلق بالمنافع الدينية يجب أن يقدم على المنافع الدينوية ، ولأن الزواج ارتباط روحي بين قلبين ، ومن العسير أن يتم هذا الترابط بين قلب يخلص لله في عبادته ، وقلب لا يدين بذلك .
وصدرت الجملة بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه أن يجعلوا الدين أساس رغبتهم في الزواج ، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين ترتب يداك " .
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ، ولكن تزوجوهن على الدين ، ولأمة سوداء ذات دين أفضل " .
والأحاديث النبوية في هذا المعنى كثيرة .
ثم قال - تعالى - : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } أي : لا تزوجوا أيها المؤمنون النساء المؤمنات للرجال المشركني حتى يتركوا عليه من شرك ويدخلوا في دين الإِسلام ، فإذا فعلوا ذلك حل لكم أن تزوجوهم النساء المسلمات ، لأنهم بدخولهم في الإِسلام قد أصبحوا إخوانا لكم .
والنهي هنا يتناول المشرك الذي يعبد الأوثان ويتناول غيره ممن لا يدين بالإِسلام كأهل الكتاب ، لأن القرآن قد جعل الإِيمن غاية للنهي ، فإذا لم يكن هناك إيمان من الرجل لم يكن له أن يتزوج من المرأة المؤمنة ، لأن الله - تعالى - يقول في آية أخرى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } فهذه الآية صريحة في أن زواج المسلمة بالكافر لا يجوز ، وكلمة كافر تشمل أهل الكتاب بدليل قوله - تعالى - : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } وقوله تعالى { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } قال الفخر الرازي : لا خلاف ها هنا في أن المراد به - أي بلفظ المشركين - الكل ، وأن المؤمنة لا يحل تزوجيها من الكافر ألبته على اختلاف أنواع الكفرة .
وقوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } بيان لفضل الإِيمان على الشرك ، كما في قوله - تعالى - { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } إذ نسبة المؤمن أو المؤمنة إلى هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده أفضل وأجل من الانتساب إلى أي شيء آخر .
ثم بين - سبحانه - علة النهي عن الزواج بالمشركين والمشركات فقال - تعالى - : { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ } .
أي : أولئك المذكورون من المشركين والمشركات يدعون من يقارنهم ويعاشرهم إلى الأقوال والأفعال والعقائد التي تفضي بصاحبها إلى دخول النار في الآخرة والله - تعالى - يدعو عباده على ألسنة رسهل إلى الأقوال والأعمال والعقائد التي توصل إلى جنته ومغفرته .
فالمراد بالدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها وإلى ما يوصل إليها ، وكان الاقتران بهؤلاء المشركين والمشركات سببا في الوصول إليها ، لأن الزواج من شأنه الألفة والمودة والمحبة وشدة الاتصال ، وكل ذلك يجعل المسلم أو المسلمة يتقبلان ما عليه المشرك والمشركة من فسوق وعصيان لله - تعالى - بل ربما بمرور الأيام لا يكتفيان بالتقبل بل يستحسنان فعلهما ، وبذلك تنحل عرا الإِسلام من نفس المسلم والمسلمة عروة فعروة ، حتى لا يبقى منه سوى الاسم ، كما نشاهد ذكل في كثير من المسلمين الذين تزوجوا بغير مسلمات .
والمقصود من قوله - تعالى - : { والله يدعوا إِلَى الجنة } إغراء المؤمنين بالتمسك بتعاليم دينهم ، وتنفيرهم من الاقتران بغير من يكون على شاكلتهم في الدين ، لأن من يخالفهم في عقيدتهم طريقة يغاير طريقهم ، وهدفه يخالف هدفهم ، وعاقبته تباين عاقبتهم .
والدعاء إلى الجنة والمغفرة المراد به الدعاء إلى أسبابهما كما في الجملة السابقة المقابلة وقيد - سبحانه - الدعاء إلى الجنة والمغفرة بقوله { بِإِذْنِهِ } أي بأمره وإرادته وعلمه ، لأنه - سبحانه - هو المالك لكل شيء ، ولا يقع في ملكه إلا ما يريده ويقدره .
قال بعض العلماء ما ملخصه : وقد يقول قائل : هذه الدعوة إلى النار قد تكون أيضاً في زواج المسلم بالكتابية ، كما هي زواج المسلم بالمشركة ، وكان مقتضى هذا أن يحرم زواج المسلم بغير المسلمة مطلقاً ، كما حرم زواج المسلمة بغير المسلم مطلقاً ، وإن لذلك الكلام موضعه ، ولذلك أجمع الفقهاء على كراهة زواج المسلم بالكتابية ، بل زعم بعض العلماء أن زواج المسلم من الكتابية محرم كزواجه من المشركة .
ولكن الجمهور لا يقطعون بالتحريم أمام النص القاطع بالحل ، ولا يعملون العلة ليهمل النص ، بل يرون علة التحريم لا تتوافر في الكتابية توافرها في المشركة ، فإن المشركة لا ترتبط بأي قانون خلقي يعصمها من الزلل . . أما الكتابية فإن مجموع الفضائل الإِنسانية . . لا تزال باقية في تعاليم دينها فيمكن الاحتكام إليها .
والقرآن في جدله مع أهل الكتاب كان يلاحظ إمكان التفاهم معهم على قواعد يمكن حملهم على الإِقرار بها كما في قوله - تعالى - : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } الآية .
وأمرنا أن نجادلهم بالتي هي أحسن فقال : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } الآية .
فكان من اطراد تلك المعاملة الحسنة المقربة غير المبعدة ، أن أباح الإِسلام الزواج من الكتابيات .
بيد أنه يلاحظ في إباحة الزواج من الكتابيات أمران :
أولهما : أن النص القرآني المبيح خاص بالمحصنات منهن ، إذ قال - سبحانه { الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } والمحصنات - في أظهر التفسير - هن العفيفات ، فأولئك الذين يعمدون إلى المنحرفات منهم في أخلاقهن وعقولهن ولا يتخيرون ، خارجون عن موضع الإِباحة فيما أحسب ، لأن الله أحل المحصنات وهم استحلوا المنحرفات .
ثانيهما : أن ولي الأمر إذا رأى خطرا على الدولة الإِسلامية أو على المجتمع الإِسلامي له ن يمنع الناس من ذلك الزواج بوضع عقوبات لمن يقدم عليه سدا للذريعة ومنعا للشر ، وذلك من باب السياسة الشرعية ، لا من باب تحريم ما أحل الله ، لأن الحل قائم على أصله ، والمنع وارد على الضرر الذي يحلق المسلمين ، إذ في ذلك من الاعتداء على جماعتهم ما فيه ، كما أن أصل الأكل حلال ، ولكن اغتصاب أموال الناس لنأكلها حرام ، ولذلك سارت الدولة على منع بعض رجالها من الزواج بالأجنبيات .
وقوله - تعالى - في ختام الآية : { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } معطوف على يدعو إلى الجنة . أي أنه - سبحانه - يدعو الناس إلى ما يوصلهم إلى جنته ومغفرته ويبين لهم آياته وأوامره ونواهيه في شئون الزواج وفي غير ذلك من الأحكام لكي يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرهم الله به فيعملوه ، وما نهاهم عنه فيتركوه .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد رسمت للناس أقوم السبل ، لكي يعيشوا في ظل أسرة فاضلة ، تظلها السعادة ، ويسودها الأمان والاطمئنان ويتعاون أفرادها على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان .
والأن نواجه النصوص القرآنية بالتفصيل :
( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ؛ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا . ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم . أولئك يدعون إلى النار . والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ؛ ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) . .
النكاح - وهو الزواج - أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بني الإنسان ؛ وتشمل أوسع الاستجابات التي يتبادلها فردان . فلا بد إذن من توحد القلوب ، والتقائها في عقدة لا تحل . ولكي تتوحد القلوب يجب أن يتوحد ما تنعقد عليه ، وما تتجه إليه . والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس ، ويؤثر فيها ، ويكيف مشاعرها ، ويحدد تأثراتها واستجاباتها ، ويعين طريقها في الحياة كلها . وإن كان الكثيرون يخدعهم أحيانا كمون العقيدة أو ركودها . فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية ، أو بعض المذاهب الاجتماعية . وهذا وهم وقلة خبرة بحقيقة النفس الإنسانية ، ومقوماتها الحقيقية . وتجاهل لواقع هذه النفس وطبيعتها .
ولقد كانت النشأة الأولى للجماعة المسلمة في مكة لا تسمح في أول الأمر بالانفصال الاجتماعي الكامل الحاسم ، كالانفصال الشعوري الاعتقادي الذي تم في نفوس المسلمين . لأن الأوضاع الاجتماعية تحتاج إلى زمن وإلى تنظيمات متريثة . فلما أن أراد الله للجماعة المسلمة أن تستقل في المدينة ، وتتميز شخصيتها الاجتماعية كما تميزت شخصيتها الاعتقادية . بدأ التنظيم الجديد يأخذ طريقه ، ونزلت هذه الآية . نزلت تحرم إنشاءأي نكاح جديد بين المسلمين والمشركين - فأما ما كان قائما بالفعل من الزيجات فقد ظل إلى السنة السادسة للهجرة حين نزلت في الحديبية آية سورة الممتحنة : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن . الله أعلم بإيمانهن . فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار . لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن . . ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر . . . ) . . . فانتهت آخر الارتباطات بين هؤلاء وهؤلاء .
لقد بات حراما أن ينكح المسلم مشركة ، وأن ينكح المشرك مسلمة . حرام أن يربط الزواج بين قلبين لا يجتمعان على عقيدة . إنه في هذه الحالة رباط زائف واه ضعيف . إنهما لا يلتقيان في الله ، ولا تقوم على منهجه عقدة الحياة . والله الذي كرم الإنسان ورفعه على الحيوان يريد لهذه الصلة ألا تكون ميلا حيوانيا ، ولا اندفاعا شهوانيا . إنما يريد أن يرفعها حتى يصلها بالله في علاه ؛ ويربط بينها وبين مشيئته ومنهجه في نمو الحياة وطهارة الحياة .
ومن هنا جاء ذلك النص الحاسم الجازم :
( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) . .
فإذا أمن فقد زالت العقبة الفاصلة ؛ وقد التقى القلبان في الله ؛ وسلمت الآصرة الإنسانية بين الاثنين مما كان يعوقها ويفسدها . سلمت تلك الآصرة ، وقويت بتلك العقدة الجديدة : عقدة العقيدة .
( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) . .
فهذا الإعجاب المستمد من الغريزة وحدها ، لا تشترك فيه مشاعر الإنسان العليا ، ولا يرتفع عن حكم الجوارح والحواس . وجمال القلب أعمق وأغلى ، حتى لو كانت المسلمة أمة غير حرة . فإن نسبها إلى الإسلام يرفعها عن المشركة ذات الحسب . إنه نسب في الله وهو أعلى الأنساب .
( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا . ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) . .
القضية نفسها تتكرر في الصورة الأخرى ، توكيدا لها وتدقيقا في بيانها والعلة في الأولى هي العلة في الثانية :
( أولئك يدعون إلى النار ، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه . ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) . .
إن الطريقين مختلفان ، والدعوتين مختلفتان ، فكيف يلتقي الفريقان في وحدة تقوم عليها الحياة ؟
إن طريق المشركين والمشركات إلى النار ، ودعوتهم إلى النار . وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله . والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه . . فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله !
ولكن أويدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار ؟ ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار ؟ !
ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق ! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار ، بما أن مآلها إلى النار . والله يحذر من هذه الدعوة المردية ( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) . . فمن لم يتذكر ، واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم !
هنا نتذكر أن الله لم يحرم زواج المسلم من كتابية - مع اختلاف العقيدة - ولكن الأمر هنا يختلف . إن المسلم والكتابية يلتقيان في أصل العقيدة في الله . وإن اختلفت التفصيلات التشريعية . .
وهناك خلاف فقهي في حالة الكتابية التي تعتقد أن الله ثالث ثلاثة ، أو أن الله هو المسيح بن مريم ، أو أن العزيز ابن الله . . أهي مشركة محرمة . أم تعتبر من أهل الكتاب وتدخل في النص الذي في المائدة : ( اليوم أحل لكم الطيبات ) . . . ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) . . والجمهور على أنها تدخل في هذا النص . . ولكني أميل إلى اعتبار الرأي القائل بالتحريم في هذه الحالة . وقد رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال ابن عمر : " لا أعلم شركا أعظم من أن تقول ربها عيسى " . .
فأما الأمر في زواج الكتابي من مسلمة فهو محظور ؛ لأنه يختلف في واقعه عن زواج المسلم بكتابية - غير مشركة - ومن هنا يختلف في حكمه . . إن الأطفال يدعون لآبائهم بحكم الشريعة الإسلامية . كما أن الزوجة هي التي تتنقل إلى أسرة الزوج وقومه وأرضه بحكم الواقع . فإذا تزوج المسلم من الكتابية [ غير المشركة ] انتقلت هي إلى قومه ، ودعي أبناؤه منها باسمه ، فكان الإسلام هو الذي يهيمن ويظلل جو المحصن . ويقع العكس حين تتزوج المسلمة من كتابي ، فتعيش بعيدا عن قومها ، وقد يفتنها ضعفها ووحدتها هنالك عن إسلامها ، كما أن أبناءها يدعون إلى زوجها ، ويدينون بدين غير دينها . والإسلام يجب أن يهيمن دائما .
على أن هناك اعتبارات عملية قد تجعل المباح من زواج المسلم بكتابية مكروها . وهذا ما رآه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمام بعض الاعتبارات :
قال ابن كثير في التفسير : " قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله - بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات - وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني " . .
وروي أن حذيفة تزوج يهودية فكتب إليه عمر : خل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاظلوا المؤمنات منهن . وفي رواية أخرى أنه قال : المسلم يتزوج النصرانية . والمسلمة ؟
ونحن نرى اليوم أن هذه الزيجات شر على البيت المسلم . . فالذي لا يمكن إنكاره واقعيا أن الزوجة اليهودية أو المسيحية أو اللادينية تصبغ بيتها وأطفالها بصبغتها ، وتخرج جيلا أبعد ما يكون عن الإسلام . وبخاصة في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ، والذي لا يطلق عليه الإسلام إلا تجوزا في حقيقة الأمر . والذي لا يمسك من الإسلام إلا بخيوط واهية شكلية تقضي عليها القضاء الأخير زوجة تجيء من هناك !
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتّىَ يُؤْمِنّ وَلأمَةٌ مّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتّىَ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلََئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيّنُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ }
اختلف أهل التأويل في هذه الآية : هل نزلت مرادا بها كل مشركة ، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض ؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : نزلت مرادا بها تحريم نكاح كل مشركة على كل مسلم من أنّ أجناس الشرك كانت عابدة وثن أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك ، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله : يَسألُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ إلى : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالمُحْصَناتُ مِنَ الُمؤْمِنات والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ . ذكر من قال ذلك :
3حدثني عليّ بن واقد ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال : وَالمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حل لكم إذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ .
3حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ فنسخ من ذلك نساء أهل الكتاب أحلهن للمسلمين .
3حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ قال : نساء أهل مكة ومن سواهن من المشركين ، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ قال : حرّم الله المشركات في هذه الآية ، ثم أنزل في سورة المائدة ، فاستثنى نساء أهل الكتاب ، فقال : وَالمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُوُرَهُنّ .
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادا بحكمها مشركات العرب لم ينسخ منها شيء ولم يستثن ، إنما هي آية عام ظاهرها خاص تأويلها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهنّ كتاب يقرأنه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ قال : المشركات من ليس من أهل الكتاب وقد تزوّج حذيفة يهودية أو نصرانية .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ قال : مشركات أهل الأوثان .
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت غير مخصوص منها مشركة دون مشركة ، وثنية كانت أو مجوسية أو كتابية ، ولا نسخ منها شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري ، قال : حدثنا شهر بن حوشب ، قال : سمعت عبد الله بن عباس ، يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، وحرّم كل ذات دين غير الإسلام ، وقال الله تعالى ذكره : وَمَنْ يَكْفُرْ باْلإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ . وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبا شديدا حتى همّ بأن يسطو عليهما ، فقالا : نحن نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب ، فقال : لئن حلّ طلاقهن ، لقد حلّ نكاحهنّ ، ولكن انتزعهنّ منكم صَغَرةً قِمَاءً .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات ، وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها لم ينسخ منها شيء ، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها . وذلك أن الله تعالى ذكره أحل بقوله : وَالمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ للمؤمنين من نكاح محصناتهن ، مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات .
وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا ، وفي كتابنا «كتاب اللطيف من البيان » أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيا حكم الاَخر في فطرة العقل ، فغير جائز أن يقضى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الاَخر إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مجيئه ، وذلك غير موجود أن قوله : والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أوّتُوا الكِتابَ ناسخ ما كان قد وجب تحريمه من النساء بقوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ . فإن لم يكن ذلك موجودا كذلك ، فقول القائل : «هذه ناسخة هذه » دعوى لا برهان له عليها ، والمدعِي دعوى لا برهان له عليها متحكم ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .
وأما القول الذي رُوي عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، عن عمر رضي الله عنه من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين ، فقول لا معنى له لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره ، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك بإسناد هو أصحّ منه ، وهو ما :
حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب ، قال : قال عمر : المسلم يتزوّج النصرانية ، ولا يتزوّج النصراني المسلمة .
وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاح اليهودية والنصرانية ، حذرا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك فيزهدوا في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، فأمرهما بتخليتهما . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا الصلت بن بهرام ، عن شقيق ، قال : تزوّج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر : خَلّ سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكن أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن .
3وقد حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نَتَزَوّجُ نِساءَ أهْلِ الْكِتابِ وَلا يَتَزَوّجُونَ نِسَاءنَا » .
فهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه ، فالقول به لإجماع الجميع على صحة القول به أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب . فمعنى الكلام إذا : ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركات غير أهل الكتاب حتى يؤمنّ ، فيصدّقن بالله ورسوله ، وما أنزل عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ .
يعني تعالى ذكره بقوله : ولأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ بالله وبرسوله ، وبما جاء به من عند الله خير عند الله ، وأفضل من حرّة مشركة كافرة وإن شرف نسبها وكرم أصلها . يقول : ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله ، فإن الإماء المسلمات عند الله خير منكحا منهن .
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل نكح أمة ، فعذل في ذلك وعرضت عليه حرّة مشركة . ذكر من قال ذلك :
3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ قال : نزلت في عبد الله بن رواحة ، وكانت له أمة سوداء ، وأنه غضب عليها فلطمها ثم فزع ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما هيَ يا عَبْدَ اللّهِ ؟ » قال : يا رسول الله هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . فقال : «هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ » فقال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، فقالوا : تزوّج أمة . وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم . فأنزل الله فيهم : وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وعبد مؤمن خير من مشرك .
3حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني الحجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ قال : المشركات لشرفهن حتى يؤمن .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ .
يعني تعالى ذكره بذلك : وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال فلا تنكحوها ، فإن الأمة المؤمنة خير عند الله منها وإنما وضعت «لو » موضع «إن » لتقارب مخرجيهما ومعنييهما ، ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صاحبتها على ما قد بينا فيما مضى قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حّتى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ .
يعني تعالى ذكره بذلك : أن الله قد حرم على المؤمنات أن ينكحن مشركا ، كائنا من كان المشرك من أيّ أصناف الشرك كان . فلا تُنكحوهن أيها المؤمنون منهم فإن ذلك حرام عليكم ، ولأن تزوّجوهن من عبد مؤمن مصدّق بالله وبرسوله ، وبما جاء به من عند الله ، خير لكم من أن تزوّجوهن من حرّ مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله ، وإن أعجبكم حسبه ونسبه .
وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول : هذا القول من الله تعالى ذكره ، دلالة على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة .
حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي ، قال : أخبرنا حفص بن غياث عن شيخ لم يسمه ، قال أبو جعفر : النكاح بوليّ في كتاب الله . ثم قرأ : وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حّتى يُؤْمِنُوا برفع التاء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والزهري في قوله : وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ قال : لا يحلّ لك أن تُنكح يهوديا أو نصرانيا ، ولا مشركا من غير أهل دينك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ لشرفهم حَتّى يُؤْمِنُوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري : وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا قال : حرّم المسلمات على رجالهم يعني رجال المشركين .
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلى النّار وَاللّهُ يَدْعُو إلَى الجَنةِ وَالمَغْفِرَةِ بإذْنِهِ ويُبَيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله : أُولَئِكَ هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم يدعونكم إلى النار ، يعني يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار ، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله . يقول : ولا تقبلوا منهم ما يقولون ، ولا تستنصحوهم ، ولا تنكحوهم ، ولا تنكحوا إليهم ، فإنهم لا يألونكم خبالاً ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به ، فاعملوا به ، وانتهوا عما نهاكم عنه ، فإنه يدعوكم إلى الجنة . يعني بذلك : يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار ، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم فيعفو عنها ، ويسترها عليكم .
وأما قوله : بإذْنِهِ فإنه يعني أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيله وطريقه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة ثم قال تعالى ذكره : ويُبَيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ يقول : ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنزله على لسان رسوله لعباده ليتذكروا فيعتبروا ، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دعاء إلى النار والخلود فيها والاَخر دعاء إلى الجنة وغفران الذنوب ، فيختاروا خيرهما لهم . ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ الرأي ، مدخول العقل .
{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } أي ولا تتزوجوهن . وقرئ بالضم أي ولا تزوجوهن من المسلمين ، والمشركات تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله : { سبحانه عما يشركون } ولكنها خصت عنها بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } روي ( أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثدا الغنوي إلى مكة ليخرج منها أناسا من المسلمين ، فأتته عناق وكان يهواها في الجاهلية فقالت : ألا تخلو . فقال : إن الإسلام حال بيننا فقالت : هل لك أن تتزوج بي فقال نعم ولكن استأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره ) فنزلت { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } أي ولامرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة ، فإن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه . { ولو أعجبتكم } بحسنها وشمائلها ، والواو للحال ولو بمعنى إن وهو كثير . { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } ولا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا ، وهو على عمومه . { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } تعليل للنهي عن مواصلتهم ، وترغيب في مواصلة المؤمنين . { أولئك } إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات . { يدعون إلى النار } أي الكفر المؤدي إلى النار فلا يليق موالاتهم ومصاهرتهم . { والله } أي وأولياؤه ، يعني المؤمنين حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه تفخيما لشأنهم . { يدعو إلى الجنة والمغفرة } أي إلى الاعتقاد والعمل الموصلين إليهما فهم الأحقاء بالمواصلة . { بإذنه } أي بتوفيق الله تعالى وتيسيره ، أو بقضائه وإرادته . { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } لكي يتذكروا ، أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر لما ركز في العقول من ميل الخير ومخالفة الهوى .
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 221 )
وقوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ } الآية ، قرأ جمهور الناس «تَنكحوا » بفتح التاء ، وقرئت في الشاذ بالضم كأن المتزوج لها أنكحها من نفسسه ، ونكح أصله الجماع ، ويستعمل في التزوج تجوزاً واتساعاً ، وقالت طائفة : { المشركات } هنا من يشرك مع الله إلهاً آخر ، فلم تدخل اليهوديات ولا النصرانيات في لفظ هذه الآية ، ولا في معناها ، وسببها قصة أبي مرثد كناز بن حصين( {[2094]} ) مع عناق التي كانت بمكة( {[2095]} ) ، وقال قتادة وسعيد بن جبير : لفظ الآية العموم في كل كافرة ، والمراد بها الخصوص( {[2096]} ) في الكتابيات ، وبينت الخصوص آية المائدة ولم يتناول قط الكتابيات ، وقال ابن عباس والحسن : تناولهن العموم ثم نسخت آية سورة المائدة بعض العموم في الكتابيات ، وهذا مذهب مالك رحمه الله ، ذكره ابن حبيب وقال : «ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله مستثقل مذموم » ، وكره مالك رحمه الله تزوج الحربيات لعله ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير ، وأباح نكاح الكتابيات عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وجابر بن عبد الله وطلحة وعطاء بن أبي رباح وابن المسيب والحسن وطاوس وابن جبير والزهري الشافعي وعوام أهل المدينة والكوفة ، ومنه مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق نكاح المجوسية ، وقال ابن حنبل : لا يعجبني ، وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية ، وقال ابن الفصار : «قال بعض أصحابنا : يجب -على أحد القولين أن لهم كتاباً- أن تجوز مناكحتهم » .
وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات ، وكل من كان على غير الإسلام حرام .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في سورة المائدة ، وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ : ولا أعلم إشراكاً أعظم من أن تقول المرأة : ربها عيسى «( {[2097]} ) ، وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب ، فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ، ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يستند جيداً( {[2098]} ) ، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن( {[2099]} ) ، وروي عن ابن عباس نحو هذا ، وقوله تعالى : { ولأمة مؤمنة } إخبار أن المؤمنة المملوكة خير من المشركة وإن كانت ذات الحسب والمال ولو أعجبتكم في الحسن وغير ذلك ، هذا قول الطبري وغيره ، وقال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ، ثم ندم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، وقال : هي تصوم وتصلي وتشهد الشهادتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه مؤمنة . فقال ابن رواحة : لأعتقنّها ولأتزوجنّها ، ففعل ، فطعن عليه ناس( {[2100]} ) فنزلت الآية فيه ، ومالك رحمه الله لا يجوز عنده نكاح الأمة الكتابية ، وقال أشهب في كتاب محمد فيمن أسلم وتحته أمة كتابية : إنه لا يفرق بينهما ، وروى ابن وهب وغيره عن مالك أن المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين( {[2101]} ) ، وأبو حنيفة وأصحابه يجيزون نكاح الإماء الكتابيات( {[2102]} ) .
وقوله تعالى : { ولا تنحكوا المشركين حتى يؤمنوا } الآية ، أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام ، والقراء على ضم التاء من { تنكحوا } ، وقال بعض العلماء( {[2103]} ) : إن الولاية في النكاح نص في لفظ هذه الآية .
{ ولعبد مؤمن } مملوك { خير من مشرك } حسيب ولو أعجبك حسنه وماله حسبما تقدم ، وليس التفضيل هنا بلفظة { خير } من جهة الإيمان فقط لأنه لا اشتراك من جهة الإيمان ، لكن الاشتراك موجود في المعاشرة والصحبة وملك العصمة وغير شيء ، وهذا النظر هو على مذهب سيبويه في أن لفظة " أفعل " التي هي للتفضيل لا تصح حيث لا اشتراك .
كقولك : الثلج أبرد من النار ، والنور أضوأ من الظلمة ، وقال الفراء وجماعة من الكوفيين : تصح لفظة " أفعل " حيث الاشتراك وحيث لا اشتراك( {[2104]} ) ، وحكى مكي عن نفطويه( {[2105]} ) أن لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجاباً للأول ونفياً عن الثاني( {[2106]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكرالعبد والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم ، وكما قال صلى الله عليه وسلم : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ( {[2107]} ) ، وكما نعتقد أن الكل عبيد الله ، وكما قال تعالى : { نعم العبد إنه أواب } [ ص : 30 ] ، فكأن الكلام في هذه الآية : ( ولا مرأة ولرجل ) .
وقوله تعالى : { أولئك } الإشارة إلى المشركات والمشركين ، أي أنَّ صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل ، فهذا كله دعاء إلى النار مع السلامة مع أن يدعوا إلى دينه نصاً من لفظه ، والله تعالى يمن بالهداية ويبين الآيات ويحض على الطاعات التي هي كلها دواع إلى الجنة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن » والمغفرةُ «بالرفع على الابتداء ، والإذن العلم والتمكين ، فإن انضاف إلى ذلك أمر فهو أقوى من الإذن ، لأنك إذا قلت » أذنت كذا «فليس يلزمك أنك أمرت ، و { لعلهم } ترجٍّ في حق البشر ، ومن تذكر عَمِلَ حسب التذكر فنجا .
كان المسلمون أيام نزول هذه السورة ما زالوا مختلطين مع المشركين بالمدينة وما هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمات فبين الله الحكم في هذه الأحوال ، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى ، فإن للمسلمين يومئذٍ أقاربَ وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقَدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى ، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين ، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة .
روى الواحدي وغيره من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا مَرْثَد الغَنَوي ويقال مَرْثدا بن أبي مَرْثد واسمه كنَّاز بن حُصَين وكان حليفاً لبني هاشم فبعثه إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من المسلمين فسمعت بقدومه امرأة يقال لها عَنَاق وكانت خليلة له في الجاهلية فأتتْه فقالت : ويحك يا مَرثد ألا تخلو ؟ فقال : إن الإسلام حَرَّم ما كان في الجاهلية فقالت : فتزوجني قال : حتى أستأذن رسول الله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها ، لأنها مشركة فنزلت هذه الآية بسببه .
والنكاح في كلام العرب حقيقة في العقد على المرأة ، ولذلك يقولون نكح فلان فلانة ويقولون نكحت فلانة فلاناً فهو حقيقة في العقد ، لأن الكثرة من أمارات الحقيقة وأما استعماله في الوطء فكناية ، وقيل هو حقيقة في الوطء مجاز في العقد . واختاره فقهاء الشافعية وهو قول ضعيف في اللغة ، وقيل حقيقة فيهما فهو مشترك وهو أضعف . قالوا ولم يرد في القرآن إلاّ بمعنى العقد فقيل إلاّ في قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] ، لأنه لا يكفي العقد في تحليل المبتوتة حتى يبني بها زوجها كما في حديث زوجة رفاعة ولكن الأصوبُ أن تلك الآية بمعنى العقد وإنما بينت السنة أنه لا بد مع العقد من الوطء وهذا هو الظاهر ، والمنع في هذه الآية متعلق بالعقد بالاتفاق .
والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه ، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى ويقابلهم في تقسيم الكفار أهلُ الكتاب وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
ونص هذه الآية تحريم تزوج المسلم المرأةَ المشركة وتحريم تزويج المسلمة الرجلَ المشركَ فهي صريحة في ذلك ، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجلَ الكتابي فالآية ساكتة عنه ، لأن لفظ المشرك لقب لا مفهوم له إلاّ إذا جَرى على موصوف كما سنبينه عند قوله تعالى : { خير من مشرك } ، وقد أذن القرآن بجواز تزوج المسلم الكتابية في قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] في سورة العقود فلذلك قال جمهور العلماء بجواز تزوج المسلم الكتابية دون المشركة والمجوسية وعلى هذا الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري ، فبقي تزويج المسلمة من الكتابي لا نص عليه ومنعه جميع المسلمين إما استناداً منهم إلى الاقتصار في مقام بيان التشريع وإما إلى أدلة من السنة ومن القياس وسنشير إليه أو من الإجماع وهو أظهر . وذهبت طوائف من أهل العلم إلى الاستدلال لفقه هذه المسألة بطريقة أخرى فقالوا أهل الكتاب صاروا مشركين لقول اليهود عزير ابن الله ولقول النصارى المسيح ابن الله وأبوة الإله تقتضي ألوهية الابن ، وإلى هذا المعنى جنح عبد الله بن عمر ففي « الموطأ » عنه « لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى » ولكن هذا مسلك ضعيف جداً ، لأن إدخال أهل الكتاب في معنى المشركين بعيد عن الاصطلاح الشرعي ، ونزلت هذه الآية وأمثالها وهو معلوم فاش ، ولأنه إذا تم في النصارى باطراد فهو لا يتم في اليهود ، لأن الذين قالوا عزير ابن الله إنما هم طائفة قليلة من اليهود وهم أتباع ( فنحاص ) كما حكاه الفخر فإذا كانت هذه الآية تمنع أن يتزوج المسلم امرأة يهودية أو نصرانية وأن يزوج أحد من اليهود والنصارى مسلمة فإن آية سورة العقود خصصت عموم المنع بصريح قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] ، وقد علم الله قولهم المسيح ابن الله وقول الآخرين عزير ابن الله فبقي تزويج المسلمة إياهم مشمولاً لعموم آية البقرة ، وهذا مسلك سلكه بعض الشافعية .
ومن علماء الإسلام من كره تزوج الكتابية وهو قول مالك في رواية ابن حبيب وهو رواية عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى حذيفة بن اليمان وقد بلغه أنه تزوج يهودية أو نصرانية أن خل سبيلها ، فكتب إليه حذيفة أتزعم أنها حرام ؟ فقال عمر : لا ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن .
وقال شذوذ من العلماء بمنع تزوج المسلم الكتابية ، وزعموا أن آية سورة العقود نسختها آية سورة البقرة ، ونقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس وفي رواية ضعيفة عن عمر بن الخطاب أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية تزوجها وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية تزوجها ، فقالا له نُطلِّق يا أمير المؤمنين ولا تَغْضَبْ فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ، ولكنْ أفرق بينكما صُغْرَةً وقَماءَةً ، قال ابن عطية وهذا لا يسند جيداً والأثر الآخر عن عمر أسندُ منه ، وقال الطبري هو مخالف لما أجمعت عليه الأمة وقد روي عن عمر بن الخطاب من القول بخلاف ذلك ما هو أصح منه وإنما كره عمر لهما تزوجهما حذراً من أن يقتدي بهما الناس فيزهدوا في المسلمات .
و { حتى يؤمن } غاية للنهي فإذا آمنَّ زال النهي ولذلك إذا أسلم المشرك ولم تسلم زوجته تبين منه إلاّ إذا أسلمت عقب إسلامه بدون تأخير .
وقوله : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله : { ولو أعجبكم } وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة ، فالأمة هنا هي المملوكة ، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله : { ولأمة مؤمنة } فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر ، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيراً من كل مشركة فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق ، ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة فإنه حاصل بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون ولقوله : { ولو أعجبكم } فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء .
والمقصود من التفضيل في قوله : { خير } التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين ؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناساً للمسلمين .
ووقع في « الكشاف » حمل الأمة على مطلق المرأة ، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، أما المعنى فلأنه يصير تكراراً مع قوله : { ولا تنكحوا المشركات } إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة ، ويُفيت المقصود من التنبيه على شرفِ أقلِّ أَفرادِ أحد الصنفين على أشرَف أفراد الصنف الآخر ، وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة ، ولا إطلاق العبد على الرجل إلاّ مقيَّدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم يا عبدَ الله ويا أمةَ الله ، وكونُ الناس إماءَ الله وعبيدَه إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال ، فكيف يخرَّج القرآن عليه .
وضمير { ولو أعجبتكم } يعود إلى المشركة ، و ( لو ) وصلية للتنبيه على أقصى الأحوال التي هي مظنة تفضيل المشركة ، فالأمة المؤمنة أفضل منها حتى في تلك الحالة وقد مضى القول في موقع لو الوصلية والواو التي قبلها والجملة التي بعدها عند قوله تعالى : { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } [ البقرة : 170 ] .
وقوله : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } تحريم لتزويج المسلمة من المشرك ، فإن كان المشرك محمولاً على ظاهره في لسان الشرع فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الإجماعَ وهو إما مستند إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم ، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } [ الممتحنة : 10 ] فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك وإن كان المراد حينئذٍ المشركين ، وكقوله تعالى هنا : { أولئك يدعون إلى النار } كما سنبينه .
وقوله : { حتى يؤمنوا } غاية للنهي ، وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة .
وقوله : { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } هو كقوله : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } وأن المراد به المملوك وليس المراد الحر المشرك وقد تقدم ذلك .
وقوله : { أولئك يدعون إلى النار } الإشارة إلى المشركات والمشركين ، إذ لا وجه لتخصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع ، والواو في { يدعون } واو جماعة الرجال ووزنه يفعون ، وغُلِّب فيه المذكر على المؤنث كما هو الشائع ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتعليل النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين ، ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية ، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم ، ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها مع من يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس ، فإن بين الزوجين مودة وإلفاً يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله ولا يؤمنون بالرسل ، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيداً جداً لا يجمعهم شيء يتفقون عليه ، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين . أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق عيسى ، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزوج المسلمة من الكتابي اعتداداً بقوة تأثير الرجل على امرأته ، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالباً إياها إلى الإسلام ، لأنها أضعف منه جانباً وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه ، لذلك السبب وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة .
وقوله : { والله يدعوا إلى الجنة } الآية أي إن الله يدعو بهذا الدين إلى الجنة فلذلك كانت دعوة المشركين مضادة لدعوة الله تعالى ، والمقصود من هذا تفظيع دعوتهم وأنها خلاف دعوة الله ، والدعاء إلى الجنة والمغفرة دعاء لأسبابهما كما تقدم في قوله : { يدعون إلى النار } .
والمغفرة هنا مغفرة ما كانوا عليه من الشرك .
وقوله : { بإذنه } الإذن فيه إما بمعنى الأمر كما هو الشائع فيكون بإذنه ظرفاً مستقراً حالاً من ( الجنة ) والمغفرة أي حاصلتين بإذنه أي إرادته وتقديره بما بين من طريقهما . ومن المفسرين من حمل الإذن على التيسير والقضاء والباء على أنها ظرف لغو فرأى هذا القيد غير جزيل الفائدة فتأوَّل قوله : { والله يدعوا } بمعنى وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون .
وجملة { ويبين } معطوفة على { يدعو } يعني يدعو إلى الخير مع بيانه وإيضاحه حتى تتلقاه النفوس بمزيد القبول وتمام البصيرة فهذا كقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } [ البقرة : 219 ] ففيها معنى التذييل وإن كانت واردة بغير صيغته . ولعل مستعملة في مثله مجاز في الحصول القريب .