المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

35- الله مصدر النور في السماوات والأرض ، فهو منورهما بكل نور حسي نراه ونسير فيه ، وبكل نور معنوي ، كنور الحق والعدل ، والعلم والفضيلة ، والهدى والإيمان ، وبالشواهد والآثار التي أودعها مخلوقاته ، وبكل ما يدل علي وجود الله ويدعو إلي الإيمان به سبحانه ، وَمَثلُ نوره العظيم وأدلته الباهرة في الوضوح ، كمثل نور مصباح شديد التوهج ، وضع في فجوة من حائط تساعد علي تجميع نوره ووفرة إضاءته ، وقد وضع المصباح في قارورة صافية لامعة لمعان كوكب مشرق ، يتلألأ كالدر ويستمد المصباح وقوده من زيت شجرة كثيرة البركات ، طيبة التربة والموقع ، هي شجرة الزيتون المغروسة في مكان معتدل متوسط ، فلا هي شرقية فتحرم حرارة الشمس آخر النهار ، ولا هي غربية فتحرمها أول النهار ، بل هي علي قمة الجبل ، أو في فضاء الأرض تفيد من الشمس في جميع أجزاء النهار ، يكاد زيت هذه الشجرة لشدة صفائه يضيء ، ولو لم تمسسه نار المصباح ، فهذه العوامل كلها تزيد المصباح إضاءة فوق إضاءة ، ونوراً علي نور .

وهكذا تكون الشواهد المنبثة في الكون حسيها ومعنويها آيات واضحة لا تدع مجالا للشك في وجود الله ، وفي وجوب الإيمان به وبرسالاته وما جاءت به . والله يوفق من يشاء إلي الإيمان عن طريقها ، إذا حاول الانتفاع بنور عقله . وقد أتى الله بالأمثلة المحسوسة ليسهل إدراك الأمور المعقولة ، وهو سبحانه واسع العلم ، يعلم من نظر في آياته ، ومن أعرض واستكبر ، ومجازيهم علي ذلك .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

قوله تعالى : { الله نور السموات والأرض } قال ابن عباس : هادي أهل السموات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهداه من الضلالة ينجون . وقال الضحاك : منور السموات والأرض ، يقال : نور السماء بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء . وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض . وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية : مزين السموات والأرض ، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم ، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين . ويقال : بالنبات والأشجار . وقيل : معناه الأنوار كلها منه ، كما يقال : فلان رحمة أي : منه الرحمة . وقد يذكر مثل هذا اللفظ على طريق المدح كما قال القائل شعرا :

إذا سار عبد الله من مرو ليلةً *** فقد سار منها نورها وجمالها

قوله تعالى : { مثل نوره } أي : مثل نور الله تعالى في قلب المؤمن ، وهو النور الذي يهتدي به ، كما قال { فهو على نور من ربه } وكان ابن مسعود يقرأ : ( مثل نوره ) في قلب المؤمن . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس( مثل نوره ) الذي أعطى المؤمن . وقال بعضهم : الكناية عائدة إلى المؤمن ، أي : مثل نور قلب المؤمن ، وكان أبي يقرأ : مثل نور من آمن به وهو عبد جعل الإيمان والقرآن في صدره . وقال الحسن وزيد بن أسلم : أراد بالنور القرآن . وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : أراد بالنور الطاعة ، سمي طاعة الله نوراً وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلاً ، { كمشكاة } وهي الكوة التي لا منفذ لها فإن كان لها منفذ فهي كوة . وقيل : المشكاة حبشية . قال مجاهد : هي القنديل { فيها مصباح } أي : سراج ، أصله من الضوء ، ومنه الصبح ، ومعناه : كمصباح في مشكاة ، { المصباح في زجاجة } يعني القنديل ، قال الزجاج : إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين من كل شيء ، وضوءه يزيد في الزجاج ، ثم وصف الزجاجة ، فقال : { الزجاجة كأنها كوكب دري } قرأ أبو عمرو والكسائي : درئ بكسر الدال والهمزة ، وقرأ حمزة وأبو بكر بضم الدال والهمزة ، فمن كسر الدال فهو فعيل من الدرء ، وهو الدفع ، لأن الكوكب يدفع الشياطين من السماء ، وشبهه بحالة الدفع لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور ، ويقال : هو من درأ الكوكب إذا اندفع منقضاً ، فيتضاعف ضوءه في ذلك الوقت . وقيل : ( درى ) مكرر . أي : طالع ، يقال : درأ النجم إذا طلع وارتفع . ويقال : درأ علينا فلان أي طلع وظهر ، فأما رفع الدال مع الهمزة كما قرأ حمزة ، قال أكثر النحاة : هو لحن ، لأنه ليس في كلام العرب فعيل بضم الفاء وكسر العين . قال أبو عبيدة : وأنا أرى لها وجهاً وذلك أنها دروء على وزن فعول مثل سبوح وقدوس ، وقد استثقلوا كثرة الضمات فردوا بعضها إلى الكسر ، كما قالوا : عتياً وهو فعول من عتوت ، وقرأ الآخرون { دري } بضم الدال وتشديد الياء بلا همز ، أي : شديد الإنارة ، نسب إلى الدر في صفائه وحسنه ، وإن كان الكوكب أكثر ضوءاً من الدر لكنه يفضل الكواكب بضيائه ، كما يفضل الدر سائر الحب . وقيل : الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام ، وهي زحل ، والمريخ ، والمشترى ، والزهرة ، وعطارد . وقيل : شبهه بالكوكب ، ولم يشبهه بالشمس والقمر ، لأن الشمس والقمر يلحقهما الخسوف والكواكب لا يلحقها الخسوف . { يوقد } قرأ أبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : ( توقد ) بالتاء وفتحها وفتح الواو والدال وتشديد القاف على الماضي ، يعني : المصباح ، أي : اتقد ، يقال توقدت النار إذا اتقدت . وقرأ أهل الكوفة غير حفص ( توقد ) بالتاء وضمها وفتح القاف خفيفاً ، يعني الزجاجة أي : نار الزجاجة لأن الزجاجة لا توقد ، وقرأ الآخرون بالياء وضمها خفيفاً يعني المصباح ، { من شجرة مباركة زيتونة } أي : من زيت شجرة مباركة ، فحذف المضاف بدليل قوله تعالى { يكاد زيتها يضيء } وأراد بالشجرة المباركة : الزيتونة وهي كثيرة البركة ، وفيها منافع كثيرة ، لأن الزيت يسرج به ، وهو أضوأ وأصفى الأدهان ، وهو إدام وفاكهة ، ولا يحتاج في استخراجه إلى أعصار بل كل أحد يستخرجه ، وجاء في الحديث : أنه مصحة من الباسور ، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو الحسن القاسم ابن بكر الطيالسي ، أنبأنا أبو أمية الطوسي ، أنبأنا قبيصة بن عقبة ، أنبأنا سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عطاء الذي كان بالشام ، وليس بابن أبي رباح ، عن أسد بن ثابت وأبي أسلم الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " . قوله تعالى : { لا شرقية ولا غربية } أي : ليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة إذا طلعت ، بل هي ضاحية للشمس طول النهار ، تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها ، فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين ، فيكون زيتها أضوأ ، وهذا كما يقال : فلان ليس بأسود ولا بأبيض ، يريد ليس بأسود خالص ولا بأبيض خالص ، بل اجتمع فيه كل واحد منهما ، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض ، أي اجتمعت فيه الحلاوة والحموضة ، هذا قول ابن عباس في رواية عكرمة والكلبي ، والأكثرين . وقال السدي وجماعة : معناه أنها ليست في مقنأة لا تصيبها الشمس ولا في مضحاة لا يصيبها الظل ، فهي لا تضرها شمس ولا ظل . وقيل : معناه أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر ، ولا في غرب يضرها البرد . وقيل : معناه هي شامية لأن الشام لا شرقي ولا غربي . وقال الحسن : ليست هذه من أشجار الدنيا ولو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية وإنما هو مثل ضربه الله لنوره . { يكاد زيتها } دهنها ، { يضيء } من صفائه ، { ولو لم تمسسه نار } أي : قبل أن تصيبه النار ، { نور على نور } يعني نور المصباح على نور الزجاجة . واختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل ، فقال بعضهم : وقع هذا التمثيل لنور محمد صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس لكعب الأحبار : أخبرني عن قوله تعالى : { مثل نوره كمشكاة } فقال كعب : هذا مثل ضربه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فالمشكاة صدره ، والزجاجة قلبه ، والمصباح فيه النبوة ، توقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة ، يكاد نور محمد وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار . وروى سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال : المشكاة : جوف محمد ، والزجاجة : قلبه ، والمصباح : النور الذي جعله الله فيه ، لا شرقية ولا غربية : ولا يهودي ولا نصراني ، ( توقد من شجرة مباركة ) : إبراهيم ، نور على نور ، قلب إبراهيم ، ونور : قلب محمد صلى الله عليه وسلم . وقال محمد بن كعب القرظي : المشكاة إبراهيم ، والزجاجة : إسماعيل والمصباح : محمد صلوات الله عليهم أجمعين . سماه الله مصباحاً كما سماه سراجاً ، فقال تعالى : { وسراجاً منيراً } { توقد من شجرة مباركة } وهي إبراهيم ، سماه مباركة لأن أكثر الأنبياء من صلبه ، { لا شرقية ولا غربية } يعني : إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ، لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) ، تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه { نور على نور } : نبي من نسل نبي ، نور محمد على نور إبراهيم . وقال بعضهم : وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن . روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال : هذا مثل المؤمن ، فالمشكاة نفسه والزجاجة صدره ، والمصباح ما جعل الله فيه من الإيمان ، والقرآن في قلبه ( يوقد من شجرة مباركة ) وهي الإخلاص لله وحده ، فمثله كمثل الشجرة التي التف بها الشجر خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس لا إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك المؤمن ، قد احترس من أن يصيبه شيء من الفتن فهو بين أربع خلال إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر ، وإن حكم عدل ، وإن قال صدق ، يكاد زيتها يضيء أي : يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له لموافقته إياه ( نور على نور ) . قال أبي فهو يتقلب في خمسة أنوار : قوله نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة . قال ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه ، كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدى ونور على نور . قال الكلبي : قوله { نور على نور } يعني : إيمان المؤمن وعمله . وقال السدي : نور الإيمان ونور القرآن . وقال الحسن وابن زيد : هذا مثل القرآن ، فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح يهتدى بالقرآن ، والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحي ، ( يكاد زيتها يضيء ) تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ ، نور على نور : يعني القرآن نور من الله عز وجل لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن ، فازداد بذلك نوراً على قوله عز وجل : { يهدي الله لنوره من يشاء } قال ابن عباس رضي الله عنهما : لدين الإسلام ، وهو نور البصيرة ، وقيل : القرآن { ويضرب الله الأمثال للناس } يبين الله الأشياء للناس تقريباً للإفهام وتسهيلاً لسبيل الإدراك { والله بكل شيء عليم } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

{ 35 } { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الحسي والمعنوي ، وذلك أنه تعالى بذاته نور ، وحجابه -الذي لولا لطفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه- نور ، وبه استنار العرش ، والكرسي ، والشمس ، والقمر ، والنور ، وبه استنارت الجنة . وكذلك النور المعنوي يرجع إلى الله ، فكتابه نور ، وشرعه نور ، والإيمان والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور . فلولا نوره تعالى ، لتراكمت الظلمات ، ولهذا : كل محل ، يفقد نوره فثم الظلمة والحصر ، { مَثَلُ نُورِهِ } الذي يهدي إليه ، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين ، { كَمِشْكَاةٍ } أي : كوة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن الكوة تجمع نور المصباح بحيث لا يتفرق ذلك { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ } من صفائها وبهائها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي : مضيء إضاءة الدر . { يُوقَدُ } ذلك المصباح ، الذي في تلك الزجاجة الدرية { مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أي : يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون ، { لَا شَرْقِيَّةٍ } فقط ، فلا تصيبها الشمس آخر النهار ، { وَلَا غَرْبِيَّةٍ } فقط ، فلا تصيبها الشمس [ أول ]{[564]}  النهار ، وإذا انتفى عنها الأمران ، كانت متوسطة من الأرض ، كزيتون الشام ، تصيبها الشمس أول النهار وآخره ، فتحسن وتطيب ، ويكون أصفى لزيتها ، ولهذا قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا } من صفائه { يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } فإذا مسته النار ، أضاء إضاءة بليغة { نُورٌ عَلَى نُورٍ } أي : نور النار ، ونور الزيت .

ووجه هذا المثل الذي ضربه الله ، وتطبيقه على حالة المؤمن ، ونور الله في قلبه ، أن فطرته التي فطر عليها ، بمنزلة الزيت الصافي ، ففطرته صافية ، مستعدة للتعاليم الإلهية ، والعمل المشروع ، فإذا وصل إليه العلم والإيمان ، اشتعل ذلك النور في قلبه ، بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح ، وهو صافي القلب من سوء القصد ، وسوء الفهم عن الله ، إذا وصل إليه الإيمان ، أضاء إضاءة عظيمة ، لصفائه من الكدورات ، وذلك بمنزلة صفاء الزجاجة الدرية ، فيجتمع له نور الفطرة ، ونور الإيمان ، ونور العلم ، وصفاء المعرفة ، نور على نوره .

ولما كان هذا من نور الله تعالى ، وليس كل أحد يصلح له ذلك ، قال : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } ممن يعلم زكاءه وطهارته ، وأنه يزكي معه وينمو . { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } ليعقلوا عنه ويفهموا ، لطفا منه بهم ، وإحسانا إليهم ، وليتضح الحق من الباطل ، فإن الأمثال تقرب المعاني المعقولة من المحسوسة ، فيعلمها العباد علما واضحا ، { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فعلمه محيط بجميع الأشياء ، فلتعلموا أن ضربه الأمثال ، ضرب من يعلم حقائق الأشياء وتفاصيلها ، وأنها مصلحة للعباد ، فليكن اشتغالكم بتدبرها وتعقلها ، لا بالاعتراض عليها ، ولا بمعارضتها ، فإنه يعلم وأنتم لا تعلمون .


[564]:- في النسختين آخر النهار، ولعل الصواب ما أثبته، ثم إن الكلمة معدلة من آخر إلى أول في ب، بقلم مغاير لما كتبت به النسخة.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، إلى الحديث عن جلال الله - تعالى - ونوره وعظمته وعن بيوته التى أذن لها أن ترفع ، وعن الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن طاعته وتقديسه ، وعن الجزاء الحسن الذى أعده الله - سبحانه - لهؤلاء الأخيار ، فقال : { الله نُورُ . . . } .

قال الإمام القرطبى ما ملخصه : " قوله - تعالى - : { الله نُورُ السماوات والأرض } . النور فى كلام العرب : الأضواء المدركة بالبصر . واستعمل مجازا فيما صح من المعانى ولاح . فيقال : كلام له نور . . . وفلان نور البلد .

فيجوز أن يقال : الله - تعالى - نور ، من جهة المدح ، لأنه أوجد جميع الأشياء ، ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها ، وعنه صدورها ، وهو - سبحانه - ليس من الأضواء المدركة ، جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

واختلف العلماء فى تأويل هذه الآية : فقيل : المعنى : به وبقدرته أنارت أضواؤها . واستقامت أمورها ، وقامت مصنوعاتها ، فالكلام على التقريب للذهن ، كما يقال : الملك نور أهل البلد ، أى : به قوام أمرها . . . فهو - أى النور - فى الملك مجاز . وهو فى صفة الله - تعالى - حقيقة محضة .

قال ابن عرفة : أى منور السموات والأرض . وقال مجاهد : مدبر الأمور فى السموات والأرض .

قال ابن عباس : المعنى : الله هادى السموات والأرض . والأول أعم للمعانى وأصح مع التأويل .

ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو الذى رجحه الإمام القرطبى فيكون معنى الجملة الكريمة : الله - تعالى - هو نور العالم كله علويه وسفليه ، بمعنى منوره بالمخلوقات التكوينية ، وبالآيات التنزيلية ، وبالرسالات السماوية ، الدالة دلالة واضحة على وجوده - سبحانه - وعلى وحدانيته ، وقدرته ، وسائر صفاته الكريمة ، والهادية إلى الحق ، وإلى ما به صلاح الناس فى دنياهم وآخرتهم .

وقال ابن كثير : " وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول : " اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن " .

وقال صلى الله عليه وسلم فى دعائه يوم آذاه المشركون من أهل الطائف : " أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بى غضبك ، أو ينزل بى سخطك ، لك العتبى - أى الرجوع عن الذنب - حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .

وأضاف - سبحانه - نوره إلى السموات والأرض ، للدلالة على سعة إشراق هذا النور ، وعموم سنائه ، وتمام بهائه فى الكون كله .

ثم قرب - عز وجل - نوره إلى الأذهان فقال : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ . . . } .

أى : صفة نوره العجيبة الشأن فى الإضاءة والسطوع ، كصفة مشكاة - وهى الفتحة الصغيرة فى الجدار دون أن تكون نافذة فيه - هذه المشكاة فيها مصباح ، أى : سراج ضخم ثاقب تشع منه الأنوار .

وقال - سبحانه - : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } لأن وجود المصباح فى هذه المكشاة يكون أجمع لنوره ، وأحصر لضيائه ، فيبدو قويا متألقا ، بخلاف مالو كان المصباح فى مكان نافذ فإنه لا يكون كذلك .

{ المصباح فِي زُجَاجَةٍ } أى : فى قنديل من الزجاج الصافى النقى ، الذى يقيمه الريح ، ويزيده توهجا وتألقا .

هذه { الزجاجة } فى ذاتها { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أى شديد الإنارة ، نسبة إلى الدر فى صفائه وسنائه وإشراقه وحسنه .

{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } أى : هذا المصباح يستمد نوره من زيت شجرة مباركة أى : كثيرة المنافع ، زيتونة أى : هى شجرة الزيتون .

فحرف " من " لابتداء الغاية ، والكلام ، على حذف مضاف ، أى : من زيت شجرة ، مباركة : صفة لشجرة ، وزيتونة : بدل أو عطف بيان من شجرة .

ووصف - سبحانه - شجرة الزيتون بالبركة ، لطول عمرها ، وتعدد فوائدها التى من مظاهرها : الانتفاع بزيتها وخصبها وورقها وثمارها .

قال - تعالى - : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } وقوله - سبحانه - : { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } صفة أخرى لشجرة الزيتون .

أى : أن هذه الشجرة ليست متميزة إلى مكان معين أو جهة معينة بل هيى مستقبلة للشمس طول النهار ، تسطع عليها عند شروقها وعند غروبها وما بين ذلك ، فترتب على تعرضها للشمس طول النهار ، امتداد حياتها ، وعظم نمائها وحسن ثمارها .

وقوله - تعالى - : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } صفة ثالثة لتلك الشجرة .

أى ، أنها يكاد زيتها من شدة صفائه يضىء دون أن تمسه النار ، فهو زيت من نوع خاص ، بلغ من الشفافية أقصاها ، ومن الجودة أعلاها .

قال بعض العلماء : وقد شُبِّه فى الآية نورُ الله ، بمعنى أدلته ، وآياته - سبحانه - من حيث دلالتها على الهدى والحق ، وعلى ما ينفع الخلق فى الحياتين شبه ذلك بنور المشكاة التى فيها زجاجة صافية ، وفى تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ الغاية فى الصفاء والرقة والإشراق ، حتى يكاد يضىء بنفسه من غير أن تمسه نار " .

وقوله - سبحانه - : { نُّورٌ على نُورٍ } أى : هو نور عظيم متضاعف ، كائن على نور عظيم مثله ، إذ أن نور الله - تعالى - لا حد لتضاعفه ، ولا نهاية لعمقه بخلاف الأنوار الأخرى . فإن لتضاعفها حدا محدودا مهما كان إشراقها وضوؤها .

فقوله : { نُّورٌ } خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هو نور . وقوله { على نُورٍ } متعلق بمحذوف هو صفة له ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة . أى : كائن على نور مثله .

ثم بين - سبحانه - سنة من سننه فقال : { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أى : يهدى الله - تعالى - لنوره العظيم من يشاء هدايته من عباده ، بأن يوفقهم للإيمان ، والعمل بتعاليم الإسلام ، وللسير على طريق الحق والرشاد .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } .

أى : ويضرب الله - تعالى - الأمثال للناس ، لكى يقرب لهم الأمور وييسرلهم المسائل ، ويبرز لهم المعقول فى صورة المحسوس ، والله - تعالى - بكل شىء عليم ، سواء أكان هذا الشىء ظاهرا أم باطنا ، معقولا أم محسوسا .

قال بعض العلماء ما ملخصه : هذه الآية الكريمة من الآيات التى صنفت فيها مصنفات ، منها " مشكاة الأنوار " للإمام الغزالى . . . ومنها ما قاله الإمام ابن القيم عنها فى كتابه " الجيوش الإسلامية " .

فقد قال - رحمه اله - : سمى الله تعالى - نفسه نورا ، وجعل كتابه نورا ، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا ، ودينه نورا ، واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ . قال - تعالى - { الله نُورُ السماوات والأرض } وقد فسر بكونه منور السموات والأرض وهادى أهل السموات والأرض فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض . وهذا إنما هو فعله . وإلا فالنور الذى هو من أوصافه قائم به . ومنه اشتق اسم النور الذى هو أحد الأسماء الحسنى . . " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

في الدرسين الماضيين من السورة عالج السياق أغلظ ما في الكيان البشري . ليرققه ويطهره ويرتفع به إلى آفاق النور . عالج عرامة اللحم والدم ، وشهوة العين والفرج ، ورغبة التجريح والتشهير ، ودفعة الغضب والغيظ . وعالج الفاحشة أن تشيع في النفس وأن تشيع في الحياة ، وأن تشيع في القول . عالجها بتشديد حد الزنا وحد القذف . وعالجها بعرض نموذج شنيع فظيع من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات . وعالجها بالوسائل الواقية : بالاستئذان على البيوت وغض البصر وإخفاء الزينة ، والنهي عن مثيرات الفتنة ، وموقظات الشهوة . ثم بالإحصان ، ومنع البغاء ، وتحرير الرقيق . . كل أولئك ليأخذ الطريق على دفعات اللحم والدم ، ويهيئ للنفوس وسائل العفة والاستعلاء والشفافية والإشراق .

وفي أعقاب حديث الإفك عالج ما تخلف عنه من غضب وغيظ ، ومن اضطراب في المقاييس ، وقلق في النفوس . فإذا نفس محمد - رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] - مطمئنة هادئة . وإذا نفس عائشة - رضي الله عنها - قريرة راضية . وإذا نفس أبي بكر - رضي الله عنه - سمحة صافية . وإذا نفس صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - قانعة بشهادة الله وتبرئته . وإذا نفوس المسلمين آيبة تائبة . وقد تكشف لها ما كانت تخبط فيه من التيه . فثابت إلى ربها شاكرة فضله ورحمته وهدايته . .

بهذا التعليم . وهذا التهذيب . وهذا التوجيه . عالج الكيان البشري ، حتى أشرق بالنور ؛ وتطلع إلى الأفق الوضيء ؛ واستشرق النور الكبير في آفاق السماوات والأرض ، وهو على استعداد لتلقي الفيض الشامل الغامر في عالم كله إشراق ، وكله نور :

( الله نور السماوات والأرض ) . .

وما يكاد النص العجيب يتجلى حتى يفيض النور الهادئ الوضيء ، فيغمر الكون كله ، ويفيض على المشاعر والجوارح ، وينسكب في الحنايا والجوانح ؛ وحتى يسبح الكون كله في فيض النور الباهر ؛ وحتى تعانقهوترشفه العيون والبصائر ؛ وحتى تنزاح الحجب ، وتشف القلوب ، وترف الأرواح . ويسبح كل شيء في الفيض الغامر ، ويتطهر كل شيء في بحر النور ، ويتجرد كل شيء من كثافته وثقله ، فإذا هو انطلاق ورفرفة ، ولقاء ومعرفة ، وامتزاج وألفة ، وفرح وحبور . وإذا الكون كله بما فيه ومن فيه نور طليق من القيود والحدود ، تتصل فيه السماوات بالأرض ، والأحياء بالجماد ، والبعيد بالقريب ؛ وتلتقي فيه الشعاب والدروب ، والطوايا والظواهر ، والحواس والقلوب . .

( الله نور السماوات والأرض ) . .

النور الذي منه قوامها ومنه نظامها . . فهو الذي يهبها جوهر وجودها ، ويودعها ناموسها . . ولقد استطاع البشر أخيرا أن يدركوا بعلمهم طرفا من هذه الحقيقة الكبرى ، عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة - بعد تحطيم الذرة - إلى إشعاعات منطلقة لا قوام لها إلا النور ! ولا " مادة " لها إلا النور ! فذرة المادة مؤلفة من كهارب وإليكترونيات ، تنطلق - عند تحطيمها - في هيئة إشعاع قوامه هو النور ! فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون وقرون . كان يدركها كلما شف ورف ، وانطلق إلى آفاق النور . ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ففاض بها وهو عائد من الطائف ، نافض كفيه من الناس ، عائذ بوجه ربه يقول : " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة " . وفاض بها في رحلة الإسراء والمعراج . فلما سألته عائشة : هل رأيت ربك ? قال . " نور . أنى أراه " .

ولكن الكيان البشري لا يقوى طويلا على تلقي ذلك الفيض الغامر دائما ، ولا يستشرف طويلا ذلك الأفق البعيد . فبعد أن جلا النص هذا الأفق المترامي ، عاد يقارب مداه ، ويقربه إلى الإدراك البشري المحدود ، في مثل قريب محسوس :

مثل نوره كمشكاة فيها مصباح . المصباح في زجاجة . الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ، يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار . نور على نور . .

وهو مثل يقرب للإدراك المحدود صورة غير المحدود ؛ ويرسم النموذج المصغر الذي يتأمله الحس ، حين يقصر عن تملي الأصل . وهو مثل يقرب للإدراك طبيعة النور حين يعجز عن تتبع مداه وآفاقه المترامية وراء الإدراك البشري الحسير .

ومن عرض السماوات والأرض إلى المشكاة . وهي الكوة الصغيرة في الجدار غير النافذة ، يوضع فيها المصباح ، فتحصر نوره وتجمعه ، فيبدو قويا متألقا : ( كمشكاة فيها مصباح ) . . ( المصباح في زجاجة ) . . تقيه الريح ، وتصفي نوره ، فيتألق ويزداد . . ( الزجاجة كأنها كوكب دري ) . . فهي بذاتها شفافة رائقة سنية منيرة . . هنا يصل بين المثل والحقيقة . بين النموذج والأصل . حين يرتقي من الزجاجة الصغيرة إلى الكوكب الكبير ، كي لا ينحصر التأمل في النموذج الصغير ، الذي ما جعل إلا لتقريب الأصل الكبير . . وبعد هذه اللفتة يعود إلى النموذج . إلى المصباح :

( يوقد من شجرة مباركة زيتونة )ونور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون . ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل . إنما هو كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة . ظلال الوادي المقدس في الطور ، وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب . وفي القرآن إشارة لها وظلال حولها : ( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ) . وهي شجرة معمرة ، وكل ما فيها مما ينفع الناس . زيتها وخشبهاوورقها وثمرها . . ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير . فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة . إنما هي مثل مجرد للتقريب : ( لا شرقية ولا غربية ) . . وزيتها ليس زيتا من هذا المشهود المحدود ، إنما هو زيت آخر عجيب : ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) . . فهو من الشفافية بذاته ، ومن الإشراق بذاته ، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق ؛ ( ولو لم تمسسه نار ) . . ( نور على نور ) . . وبذلك نعود إلى النور العميق الطليق في نهاية المطاف !

إنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات في السماوات والأرض . النور الذي لا ندرك كنهه ولا مداه . إنما هي محاولة لوصل القلوب به ، والتطلع إلى رؤياه : ( يهدي الله لنوره من يشاء ) . . ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه . فهو شائع في السماوات والأرض ، فائض في السماوات والأرض . دائم في السماوات والأرض . لا ينقطع ، ولا يحتبس ، ولا يخبو . فحيثما توجه إليه القلب رآه . وحيثما تطلع إليه الحائر هداه . وحيثما اتصل به وجد الله .

إنما المثل الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك ، وهو العليم بطاقة البشر :

( ويضرب الله الأمثال للناس ، والله بكل شيء عليم ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزّجَاجَةُ كَأَنّهَا كَوْكَبٌ دُرّيّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاّ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىَ نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ هادي من في السموات والأرض ، فهم بنوره إلى الحقّ يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول : الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض .

حدثني سليمان بن عمر بن خَلْدة الرّقي ، قال : حدثنا وهب بن راشد ، عن فرقد ، عن أنس بن مالك ، قال : إن إلهي يقول : نوري هُداي .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : الله مدبّر السموات والأرض . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد وابن عباس في قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ يدبّر الأمر فيهما : نجومَهما وشمسَهما وقمرَهما .

وقال آخرون : بل عنى بذلك النور الضياء . وقالوا : معنى ذلك : ضياء السموات والأرض . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع ابن أَنَس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، في قول الله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : فبدأ بنور نفسه ، فذكره ، ثم ذكر نور المؤمن .

وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك لأنه عَقِيب قوله : وَلَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيّناتٍ ، وَمَثَلاً مِنَ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ فكان ذلك بأن يكون خبرا عن موقع يقع تنزيله من خلقه ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه ، أولى وأشبه ، ما لم يأت ما يدلّ على انقضاء الخبر عنه من غيره . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ولقد أنزلنا إليكم أَيّها الناس آيات مبينات الحق من الباطل وَمَثَلاً مِنَ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ فهديناكم بها ، وبيّنا لكم معالم دينكم بها ، لأني هادي أهل السموات وأهل الأرض . وترك وصل الكلام باللام ، وابتدأ الخبر عن هداية خلقه ابتداء ، وفيه المعنى الذي ذكَرْتُ ، استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره . ثم ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالاَيات المبينات التي أنزلها إليهم ، فقال : مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ يقول : مثل ما أنار من الحقّ بهذا التنزيل في بيانه كمشكاة .

وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالهاء في قوله : مَثَلُ نُورِهِ علام هي عائدة ؟ ومن ذكر ما هي ؟ فقال بعضهم : هي من ذكر المؤمن . وقالوا : معنى الكلام : مثل نور المؤمن الذي في قلبه من الإيمان والقرآن مثل مشكاة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، في قول الله : مَثَلُ نُورِهِ قال : ذكر نور المؤمن فقال : مثل نوره ، يقول : مثل نور المؤمن . قال : وكان أبيّ يقرؤها كذلك : «مَثَلُ المؤمن » . قال : هو المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ قال : بدأ بنور نفسه فذكره ، ثم قال : مَثَلُ نُورِهِ يقول : مثل نور مَنْ آمن به . قال : وكذلك كان يقرأ أُبيّ ، قال : هو عبد جعل الله القرآن والإيمان في صدره .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير : مَثَلُ نُورِهِ قال : مثل نور المؤمن .

حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن أبي سِنان ، عن ثابت ، عن الضحاك في قوله : مَثَلُ نُورِهِ قال : نور المؤمن .

وقال آخرون : بل عُنِي بالنور : محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : الهاء التي قوله : مَثَلَ نُورِهِ عائدة على اسم الله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّيّ ، عن حفص ، عن شَمِر ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له : حدثني عن قول الله عزّ وجلّ : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ . . . الآية ؟ فقال كعب : الله نور السموات والأرض ، مَثَل نوره مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، كمشكاة .

حدثني عليّ بن الحسن الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن أشعث ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبير في قوله : مَثَلُ نُورِهِ قال : محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : هَدْي اللّهِ وبيانه ، وهو القرآن . قالوا : والهاء من ذكر الله ، قالوا : ومعنى الكلام : الله هادي أهل السموات والأرض بآياته المبينات ، وهي وهي النور الذي استنار به السموات والأرض ، مَثَلُ هداه وآياته التي هَدَى بها خلقه ووعظهم بها في قلوب المؤمنين كمِشكاة . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : مَثَلُ نُورِهِ مثل هُدَاه في قلب المؤمن .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَيّة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : مَثَلُ نُورِهِ قال : مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مَثَلُ نُورِهِ : نورِ القرآن الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده ، هذا مثل القرآن كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ .

قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عَيّاش ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قول الله تبارك وتعالى : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ونوره الذي ذكر : القرآن ، ومَثَلُه الذي ضَرَب له .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : مثل نور الله . وقالوا : يعني بالنور : الطاعة . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني بي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مصْباحٌ وذلك أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلُص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مَثَلَ ذلك لنوره ، فقال : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ قال : وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمّى طاعته نورا ، ثم سماها أنوارا شَتّى .

وقوله : كمِشْكاةٍ اختلف أهل التأويل في معنى المِشكاة والمصباح وما المراد بذلك ، وبالزجاجة ، فقال بعضهم : المِشكاة كل كَوّة لا منفذَ لها ، وقالوا : هذا مثل ضربه الله لقلب محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شَمِر ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له : حدثني عن قول الله : مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ قال : المشكاة وهي الكَوّة ، ضربها الله مثلاً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، المِشكاة فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ قلبه فِي زُجاجَةٍ الزّجاجَةُ صدره الزجاجة كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ شبه صدر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدريّ ، ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال : تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ لم تمسّها شمس المشرق ولا شمس المغرب ، يَكادُ زَيْتُها يُضِىءُ يكاد محمد يبين للناس وإن لم يتكلم أنه نبيّ ، كما يكاد ذلك الزيت يضيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كمِشْكاةٍ يقول : موضع الفتيلة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ . . . إلى كمِشْكاةٍ قال : المِشكاة : كَوّة البيت .

وقال آخرون : عنى بالمشكاة : صدر المؤمن ، وبالمصباح : القرآن والإيمان ، وبالزجاجة : قلبه . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب : مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ قال : مَثَل المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة ، قال : المشكاة : صدره . فِيها مِصْباحٌ قال : والمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره . المِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ قال : والزجاجة : قلبه . الزّجاجَةُ كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ توقَدُ ، قال : فمثله مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب درّيّ ، يقول : مُضِيء . تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ والشجرة المباركة ، أصله المباركة الإخلاص لله وحده وعبادته ، لا شريك له . لا شَرْقَيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : فمثله مَثَل شجرة التفّ بها الشجر ، فهي خضراء ناعمة ، لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غَربت ، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الغَيرِ وقد ابتُلِي بها فثبته الله فيها ، فهو بين أربع خلال : إن أُعطِى شكر ، وإن ابتُلِي صبر ، وإن حَكَم عدل ، وإن قال صدق فهو في سائر الناس كالرجل الحيّ يمشي في قبور الأموات . قال : نُورٌ عَلى نُورٍ فهو يتقلّب في خمسة من النور : فكلامه نور ، وعمله نور ، ومَدْخله نور ، ومَخْرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة في الجنة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني يحيى بن اليمان ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : المشكاة : صدر المؤمن . فيها مصباح ، قال : القرآن .

قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، نحو حديث عبد الأعلى ، عن عبيد الله .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ قال : مثل هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء ، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيَه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور ، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه قبل أن تجيئه المعرفة : قالَ هَذَا رَبّي حين رأى الكوكب من غير أن يخبره أحد أن له ربّا ، فلما أخبره الله أنه ربه ازداد هُدًى على هدى .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مَثَل ذلك لنوره ، فقال : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ والمِشكاة : كَوّة البيت فيها مصباح ، المِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزّجاجَةُ كأنّها كَوْكَبٌ دُرْيّ والمصباج : السراج يكون في الزجاجة ، وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمى طاعته نورا وسماها أنواعا شتى .

قوله : تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتَونَةٍ لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : هي شجرة لا يفيء عليها ظلّ شرق ولا ظلّ غرب ، ضاحية ، ذلك أصفى للزيت . يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ . قال معمر ، وقال الحسن : ليست من شجر الدنيا ، ليست شرقية ولا غربية .

وقال آخرون : هو مثل للمؤمن غير أن المصباح وما فيه مثل لفؤاده ، والمشكاة مثل لجوفه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد وابن عباس جميعا : المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن وجوفه ، المصباح مثل الفؤاد ، والكوّة مثل الجوف .

قال ابن جُرَيج : كمِشْكاةٍ : كوّة غير نافذة . قال ابن جُرَيج ، وقال ابن عباس : قوله : نُورٌ عَلى نُورٍ يعني : إيمان المؤمن وعمله .

وقال آخرون : بل ذلك مثل للقرآن في قلب المؤمن . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهه كمِشْكاةٍ قال : ككوّة فِيها مِصْباحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجاجَةٍ الزّجاجَةُ كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : اللّهُ نُورُ السّمَوَاتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ نور القرآن الذي أنزل على رسوله وعباده ، فهذا مثل القرآن كمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ فِي زُجاجَة فقرأ حتى بلغ : مُبارَكَةٍ فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره ويعلمونه ويأخذون به ، وهو كما هو لا ينقص ، فهذا مثل ضربه الله لنوره . وفي قوله : يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ قال : الضوء : إشراق ذلك الزيت ، والمشكاة : التي فيها الفتيلة التي في المصباح ، والقناديل تلك المصابيح .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن عياض في قوله : كمِشْكاةٍ قال : الكوّة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن عطية ، في قوله : كمِشْكاةٍ قال : قال ابن عمر : المشكاة الكَوّة .

وقال آخرون : المِشكاة القنديل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : كمِشْكاةٍ قال : القنديل ، ثم العمود الذي فيه القنديل .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمِشْكاةٍ : الصّفْر الذي في جوف القنديل .

حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله عن داود ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : المِشكاة : القنديل .

وقال آخرون : المشكاة : الحديد الذي يعلق به القنديل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن المفضل ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، قال : المشكاة : الحدائد التي يعلق بها القنديل .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به ، فقال : مَثَلُ نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد ، الذي أنزله إليهم فآمنوا به وصدّقوا بما فيه ، في قلوب المؤمنين ، مثل مِشكاة ، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وذلك هو نظير الكَوّة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها . وإنما جعل ذلك العمود مِشكاة ، لأنه غير نافذ ، وهو أجوف مفتوح الأعلى ، فهو كالكَوّة التي في الحائط التي لا تنفذ . ثم قال : فِيها مِصْباحٌ وهو السراج ، وجعل السراج وهو المصباح مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والاَيات المبينات . ثم قال : المِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ يعني أن السراج الذي في المِشكاة في القنديل ، وهو الزجاجة ، وذلك مثل للقرآن ، يقول : القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره . ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشكّ فيه واستنارته بنور القرآن واستضاءته بآيات ربه المبينات ومواعظه فيها ، بالكوكب الدرّيّ ، فقال : الزّجَاجَةُ وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه كأنّها كَوْكَبٌ دُرّيّ .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : دُرّيّ فقرأته عامة قرّاء الحجاز : دُرّيّ بضم الدال ، وترك الهمز . وقرأ بعض قراء البصرة والكوفة : «دِرّيءٌ » بكسر الدال وهمزة . وقرأ بعض قرّاء الكوفة : «دُرّيء » بضم الدال وهمزة . وكأن الذين ضموا داله وتركوا الهمزة ، وجهوا معناه إلى ما قاله أهل التفسير الذي ذكرنا عنهم ، من أن الزجاجة في صفائها وحسنها كالدرّ ، وأنها منسوبة إليه لذلك من نعتها وصفتها . ووجه الذين قرءوا ذلك بكسر داله وهمزه ، إلى أنه فِعّيل من دُرّىءَ الكوكبُ : أي دُفِع ورجم به الشيطان ، من قوله : وَيَدْرأُعَنْها العَذابَ : أي يدفع ، والعرب تسمى الكواكب العظام التي لا تعرف أسماءها الداراريّ بغير همز . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : هي الدراريء بالهمز ، من يَدْرأن . وأما الذين قرءوه بضمّ داله وهمزه ، فإن كانوا أرادوا به درّوء مثل سُبّوح وقدوس من درأت ، ثم استثقلوا كثرة الضمات فيه ، فصرفوا بعضها إلى الكسرة ، فقالوا : دِرّىء ، كما قيل : وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكَبرِ عِتِيّا وهو فُعُول ، من عتوت عُتُوّا ، ثم حوّلت بعض ضماتها إلى الكسر ، فقيل : عِتيّا . فهو مذهب ، وإلا فلا أعرف لصحة قراءتهم ذلك كذلك وجها ، وذلك أنه لا يُعرف في كلام العرب فِعّيل . وقد كان بعض أهل العربية يقول : هو لحن .

والذي هو أولى القراءات عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ : دُرّىّ بضمّ داله وترك همزه ، على النسبة إلى الدرّ ، لأن أهل التأويل بتأويل ذلك جاءوا . وقد ذكرنا أقوالهم في ذلك قبل ، ففي ذلك مُكْتفًى عن الاستشهاد على صحتها بغيره . فتأويل الكلام : الزجاجة : وهي صدر المؤمن ، كأنها : يعني كأن الزجاجة ، وذلك مثل لصدر المؤمن ، كَوْكَب : يقول : في صفائها وضيائها وحسنها . وإنما يصف صدره بالنقاء من كلّ ريب وشكّ في أسباب الإيمان بالله وبعده من دنس المعاصي ، كالكوكب الذي يُشبه الدرّ في الصفاء والضياء والحسن .

واختلفوا أيضا في قراءة قوله : «تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » فقرأ ذلك بعض المكّيين والمدنيّين وبعض البصرين : «تَوَقّدَ مِنْ شَجَرَةٍ » بالتاء ، وفتحها ، وتشديد القاف ، وفتح الدال . وكأنهم وجهوا معنى ذلك إلى تَوَقّدَ المصباحُ من شجرة مباركة . وقرأه بعض عامة قرّاء المدنيين : يُوقَدُ بالياء ، وتخفيف القاف ، ورفع الدال بمعنى : يُوقِدُ المصباح مُوْقِدُه من شجرة ، ثم لم يُسَمّ فاعله . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «تُوقَدُ » بضم التاء وتخفيف القاف ورفع الدال ، بمعنى : يُوقِدُ الزجاجةُ مُوقِدُها من شجرة مباركة لما لم يسمّ فاعله ، فقيل تُوقَد . وقرأه بعض أهل مكة : «تَوَقّدُ » بفتح التاء ، وتشديد القاف ، وضم الدال بمعنى : تَتَوَقّد الزجاجة من شجرة ، ثم أسقطت إحدى التاءين اكتفاء بالباقية من الذاهبة .

وهذه القراءات متقاربات المعاني وإن اختلفت الألفاظ بها وذلك أن الزجاجة إذا وُصِفت بالتوقد أو بأنها تَوَقّد ، فملعوم معنى ذلك ، فإن المراد به تَوَقّدَ فيها المصباح أو يُوقَد فيها المصباح ، ولكن وجّهوا الخبر إلى أن وصفها بذلك أقرب في الكلام منها وفهم السامعين معناه والمراد منه . فإذا كان ذلك كذلك فبأيّ القراءات قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب القراءات إليّ أن أقرأ بها في ذلك : «تَوَقّدَ » بفتح التاء ، وتشديد القاف ، وفتح الدال ، بمعنى : وصف المصباح بالتوقد لأن التوقد والاتقاد لا شكّ أنهما من صفته ، دون الزجاجة . فمعنى الكلام إذن : كمشكاة فيها مصباح ، المصباح من دهن شجرة مباركة ، زيتونة ، لا شرقية ولا غربية .

وقد ذكرنا بعض ما رُوي عن بعضهم من الاختلاف في ذلك فيما قد مضى ، ونذكر باقي ما حضرنا مما لم نذكره قبل . فقال بعضهم : إنما قيل لهذه الشجرة لا شرقية ولا غربية : أي ليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، وإنما لها نصيبها من الشمس بالغداة ما دامت بالجانب الذي يلي الشرق ، ثم لا يكون لها نصيب منها إذا مالت إلى جانب الغرب . ولا هي غربية وحدها ، فتصيبها الشمس بالعشيّ إذا مالت إلى جانب الغرب ، ولا تصيبها بالغدَاة ولكنها شرقية غربية ، تطلع عليها الشمس بالغداة وتغرب عليها ، فيصببها حرّ الشمس بالغداة والعشيّ . قالوا : وإذا كانت كذلك ، كان أجود لزيتها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هَنّاد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سمِاك ، عن عكرمة ، في قوله : زَيْتُونَةٍ ، لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : لا يسترها من الشمس جبل ولا واد ، إذا طلعت وإذا غربت .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حِرميّ بن عُمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عُمارة ، عن عكرِمة ، في قوله : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : الشجرة تكون في مكان لا يسترها من الشمس شيء ، تطلع عليها وتغرب عليها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد وابن عباس : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قالا : هي التي بشِقّ الجبل ، التي يصيبها شروق الشمس وغروبها ، إذا طلعت أصابتها وإذا غربت أصابتها .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليست شرقية ولا غربية . ذكر من قال ذلك :

حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثني محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : هي شجرة وَسْط الشجر ، ليست من الشرق ولا من الغرب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ متيامنة الشأم ، لا شرقيّ ولا غربيّ .

وقال آخرون : ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قول الله : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : والله لو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنما هو مثل ضربه الله لنوره .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عثمان ، يعني بان الهيثم ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قول الله : زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : لو كانت في الأرض هذه الزيتونة كان شرقية أو غربية ، ولكن والله ما هي في الأرض ، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : لا شَرْقِيّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ قال : هذا مَثَل ضربه الله ، ولو كانت هذه الشجرة في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية .

وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك قول من قال : إنها شرقية غربية وقال : ومعنى الكلام : ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشيّ دون الغداة ، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب ، فهي شرقية غربية .

وإنما قلنا ذلك أولى بمعنى الكلام ، لأن الله إنما وصف الزيت الذي يُوقَد على هذا المصباح بالصفاء والجودة ، فإذا كان شجره شرقيّا غربيّا كان زيته لا شكّ أجود وأصفى وأضوأ .

وقوله : يَكادُ زيْتُها يُضِيءُ يقول تعالى ذكره : يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه . وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نار يقول : فكيف إذا مسته النار .

وإنما أُريد بقوله : تُوقَدُ مِنْ شَجَرَة مُبارَكَةٍ أن هذا القرآن من عند الله وأنه كلامه ، فجعل مَثَله ومَثَل كونه من عنده مثلَ المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة التي وصفها جلّ ثناؤه في هذه الآية . وعُنِي بقوله : يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ : أن حُجَج الله تعالى ذكره على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر أو أعرض عنها وَلَها . وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يقول : ولو لم يَزِدها الله بيانا ووضوحا بإنزاله هذا القرآن إليهم ، منبها لهم على توحيده ، فكيف إذا نبههم به وذكّرهم بآياته فزادهم به حجة إلى حُجَجه عليهم قبل ذلك ؟ فذلك بيان من الله ونور على البيان ، والنور الذي كان قد وضعه لهم ونصبه قبل نزوله .

وقوله : نُورٌ عَلى نُورٍ يعني النار على هذا الزيت الذي كاد يضيء ولو لم تمسسه النار . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : نُورٌ عَلى نُورٍ قال : النار على الزيت .

قال أبو جعفر : وهو عندي كما ذكرت مَثَلُ القرآن . ويعني بقوله : نُورٌ عَلى نُورٍ هذا القرآن نور من عند الله ، أنزله إلى خلقه يستضيئون به . على نور على الحُجج والبيان الذي قد نصبه لهم قبل مجيء القرآن إنزاله إياه ، مما يدلّ على حقيقة وحدانيته . فذلك بيان من الله ، ونور على البيان ، والنور الذي كان وضعه لهم ونصبه قبل نزوله . وذكر عن زيد بن أسلم في ذلك ، ما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قوله : نُورٌ عَلى نُورٍ يضيء بعضه بعضا ، يعني القرآن .

وقوله : يَهْدِى اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ : يقول تعالى ذكره : يُوَفّق الله لاتباع نوره ، وهو هذا القرآن ، من يشاء من عباده . وقوله : يَهْدِى اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ : يقول تعالى ذكره : يُوَفّق الله لاتباع نوره ، وهو هذا القرآن ، من يشاء من عباده . وقوله : وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثالَ للنّاسِ يقول : ويُمثّل الله الأمثال والأشباه للناس كما مثّل لهم مثل هذا القرآن في قلب المؤمن بالمصباح في المشكاة وسائر ما في هذه الآية من الأمثال . وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : والله بضرب الأمثال وغيرها من الأشياء كلها ، ذو علم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

{ الله نور السماوات والأرض } النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما ، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كقولك : زيد كرم بمعنى ذو كرم ، أو على تجوز إما بمعنى منور السماوات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة والأنبياء . أو مدبرهما من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور . أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم ، والله سبحانه وتعالى موجود بذاته موجد لما عداه . أو الذي به تدرك أو يدرك أهلها من حيث إنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكا فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات ، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل ، ثم إن هذه الإدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليها وهو الله سبحانه وتعالى ابتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنوارا ، ويقرب منه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه هادي من فيهما فهم بنوره يهتدون ، وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه ولاشتمالهما على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما . { مثل نوره } صفة نوره العجيبة الشأن ، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره . { كمشكاة } كصفة مشكاة ، وهي الكوة الغير النافذة . وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة . { فيها مصباح } سراج ضخم ثافب ، وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة . { المصباح في زجاجة } في قنديل من الزجاج . { الزجاجة كأنها كوكب دري } مضيء متلألئ كالزهرة في صفاته وزهرته منسوب إلى الدر أو فعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه ، أو بعض ضوئه بعضا من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياء ويدل عليه قراءة حمزة وأبي بكر على الأصل ، وقراءة أبي عمرو والكسائي " دريء " كشريب وقد قرئ به مقلوبا . { يوقد من شجرة مباركة زيتونة } أي ابتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها ، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد وحمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء كذلك على إسناده إلى { الزجاجة } بحذف المضاف ، وقرئ " توقد " من تتوقد ويوقد بحذف التاء لاجتماع زيادتين وهو غريب . { لا شرقية ولا غربية } تقع الشمس عليها حينا بعد حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة ، أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى ، أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون ، أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها أو في مقيأة تغيب عنها دائما فتتركها نيئا وفي الحديث " لا خير في شجرة ولا بات في مقيأة ولا خير فيهما في مضحى " { يكاد زيتها يضيء ولم تمسسه نار } أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وبيصه { نور على نور } نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعته ، وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه ، الأول : أنه تمثيل للهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة ، أو تشبيه للهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح ، وإنما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه ، وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس ، أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها ، ويؤيده قراءة أبي : " مثل نور المؤمن " ، أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة التي منوط بها المعاش والمعاد وهي : الحساسة التي تدرك بها المحسوسات بالحواس الخمس ، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت ، والعاقلة التي تدرك الحقائق الكلية ، والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم ، والقوة القدسية التي تتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى : { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي : " المشكاة " ، و " الزجاجة " ، و " المصباح " ، و " الشجرة " ، و " الزيت " ، فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات ، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشتمل عليه من المعقولات ، والعاقلة كالمصباح لإضاءتها بالإدراكات الكلية والمعارف الإلهية ، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية ، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين ، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفاتها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم ، أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة ، ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار ، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت ، وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإلهام الذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه ، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح ، فإذا استحضرتها كانت نورا على نور . { يهدي الله لنوره } لهذا النور الثاقب . { من يشاء } فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها . { ويضرب الله الأمثال للناس } إدناء للمعقول من المحسوس توضيحا وبيانا . { والله بكل شيء عليم } معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو خفيا ، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها ولمن لم يكترث بها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

«النور » في كلام العرب الأضواء المدركة بالبصر ويستعمل فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه كلام له نور ومنه الكتاب المنير ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]

نسب كأن عليه من شمس الضحى . . . نوراً ومن فلق الصباح عمودا{[8716]}

والله تعالى ليس كمثله شيء فبين أنه ليس كالأضواء المدركة ولم يبق للآية معنى إلا أنه أراد { الله } ذو { نور السماوات والأرض } أي بقدرته أنارت أضواؤها واستقامت أمورها وقامت مصنوعاتها ، فالكلام على التقريب للذهن ، كما تقول :الملك نورالأمة أي به قوام أمورها وصلاح جملتها ، والأمر في الملك مجاز وهو في صفة الله تعالى حقيقة محضة ، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نوراً هادياً لأن ظهور الوجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات تبارك الله لا رب سواه{[8717]} ، وقالت فرقة التقدير دين الله { نور السماوات والأرض } ، قال ابن عباس هادي أهل السماوات والأرض والأول أعم للمعاني وأوضح مع التأمل ، وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي الله «نَوّرَ » بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء على أنه فعل{[8718]} ، وروي أن اليهود لما نزلت هذه الآية جسموا في تأوليها واعترضوا محمداً عليه السلام بأن قالوا كيف هو نور الأرض والسماء بيننا وبينه ، فنزلت حينئذ { مثل نوره كمشكاة } الآية أي ليس الأمر كما ظننتم وإنما هو نور بأنه قوام كل شيء وخالقه وموجده { مثل نوره } كذا وكذا ، واختلف المتأولون في الضمير في { نوره } على من يعود ، فقال كعب الأحبار وابن جبير هو عائد على محمد عليه السلام أي مثل نور محمد ، وقال أبي بن كعب وابن جبير والضحاك هو عائد على المؤمنين ، وفي قراءة أبي بن كعب «مثل نور المؤمنين » ، وروي أن في قراءته «نور المؤمن » ، وروي أن فيها «مثل نور من آمن به » ، وقال الحسن هو عائد على القرآن والإيمان ، قال مكي بن أبي طالب وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله { والأرض } .

قال القاضي أبو محمد : وهذه أقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر ، وفيها تقطع المعنى المراد بالآية ، وقالت فرقة الضمير في { نوره } عائد على { الله } ، ثم اختلفت هذه الفرقة في المراد ب «النور » الذي أضيف إلى الله تعالى إضافة خلق إلى خالق كما تقول سماء الله وناقة الله ، فقال بعضها هو محمد صلى الله عليه وسلم{[8719]} ، وقال بعضها هو المؤمن ، وقال بعضها هو الإيمان والقرآن{[8720]} ، وهذه الأقوال متجهة مطرد معها المعنى فكأن اليهود لما تأولوا { الله نور السماوات والأرض } بمعنى الضوء ، قيل لهم ليس كذلك وإنما هو نور فإنه قوام كل شيء وهاديه مثل نوره في محمد أو في القرآن ، والإيمان { كمشكاة } وهي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه .

وهذه الأقوال الثلاثة تطرد فيها مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل ، فعلى قول من قال الممثل به محمد عليه السلام ، وهو قول كعب الحبر ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو «المشكاة » أو صدره ، و { المصباح } هو النبوءة وما يتصل بها من عمله وهداه ، و { الزجاجة } قلبه و «الشجرة المباركة » هي الوحي والملائكة رسل إليه وسببه المتصل به ، والزيت هو الحجج والبراهين ، والآيات التي تضمنها الوحي ، وعلى قول من قال الممثل به المؤمن وهذا قول أبي بن كعب ، ف «المشكاة » صدره ، و { المصباح } الإيمان والعلم ، و { الزجاجة } قلبه و «الشجرة » القرآن ، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها ، قال أبي فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، ومن قال إن الممثل به القرآن والإيمان فتقدير الكلام { مثل نوره } الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه { كمشكاة } ، أي كهذه الجملة وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان ، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال لجزء من الممثل بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة ، [ وذلك أن يريد : مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة ]{[8721]} كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ، أي فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أية البشر ، و «المشكاة » الكوة في الحائط غير النافذة ، قاله ابن جبير وسعيد بن عياض وجمهور المفسرين ، وهي أجمع للضوء ، و { المصباح } فيها أكثر إنارة من غيرها ، وقال مجاهد «المشكاة » العمود الذي يكون { المصباح } على رأسه ، وقال أبو موسى «المشكاة » الحديدة أو الرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة ، وقال مجاهد أيضاً «المشكاة » الحدائد التي يعلق بها القنديل ، والأول أصح هذه الأقوال ، وقوله { في زجاجة } لأنه جسم شفاف { المصباح } فيه أنور منه في غير الزجاج ، و { المصباح } الفتيل بناره وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمرو الداني الألف من «مشكاة » فكسر الكاف التي قبلها ، وقرأ نصر بن عاصم «في زَجاجة » بفتح الزاي ، و «الزجاجة » كذلك وهي لغة{[8722]} ، وقوله : { كأنها كوكب دري } أي في الإنارة والضوء وذلك يحتمل معنين : إما أن يريد انها بالمصباح كذلك ، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور ، قال الضحاك «الكوكب الدري » الزهرة ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «دُريّ » بضم الدال وشد الياء .

ولهذه القراءة وجهان : إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، وإما أن يكون أصله دريء مهموز من الدرء وهو الدفع وخففت الهمزة ، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «دريء » بالهمزة وهو فعيل من الدرء بمعنى أنها تدفع بعضها بعضاً أو بمعنى أن بهاءها يدفع خفاءها ، وفعيل بناء لا يوجد في الأسماء إلا في قولهم مريق للعصفور{[8723]} وفي السرية إذا اشتقت من السرو{[8724]} ، ووجه هذه القراءة أبو علي ، وضعفها غيره ، وقرأ أبو عمرو والكسائي «دريء » على وزن فعيل بكسر الفاء من الدرء وهذه متوجهة ، وقرأ قتادة «دَريء » بفتح الدال والهمز قال أبو الفتح وهذا عزيز وإنما عزيز وإنما حفظ منه السكّينة بشد الكاف ، وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء ونصر بن عاصم «دري » بفتح الدال دون همزة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة والأعمش والحسن وقتادة وابن وثاب وعيسى «توقد » بضم التاء أي الزجاجة ، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة والحسن وابن محيصن «تَوَقّدُ » بفتح التاء والواو وشد القاف وضم الدال أي الزجاجة ، وقرأ أبو عمرو أيضاً وابن كثير «تَوقَد » بفتح التاء والدال أي المصباح ، وقرأ عاصم فيما روى عنه إسماعيل{[8725]} «يوقد » بالياء المرفوعة على معنى يوقد المصباح ، قال أبو الفتح وقرأ السلمي والحسن وابن محيصن وسلام وقتادة «يَوَقَّدُ » بفتح الياء والواو والقاف والمشددة ورفع الدال أصله يتوقد ، وقوله { من شجرة } أي من زيت شجرة ، و «المباركة » المنمأة ، و «الزيتون » من أعظم الثمار نماء واطراد أفنان وغضارة ولا سيما بالشام والرمان كذلك والعيان يقضي بذلك ، وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن امية «ابن شمس » : [ الخفيف ]

ليت شعري مسافر بن أبي عمرو . . . «وليتٌ » يقولها المحزون

بورك الميّت الغريب كما بو . . . رك الرمّانُ والزيتون{[8726]}

وقوله تعالى : { لا شرقية ولا غربية } قرأ الجمهور فيهما بالخفض عطفاً على { زيتونة } ، وقرأ الضحاك «لا شرقيةٌ ولا غربيةٌ » بالرفع{[8727]} ، واختلف المتأولون في معناه ، فقال ابن عباس فيما حكى عنه الطبري معناه أنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول لا يصح عندي عن ابن عباس لأن الوجود يقتضي أَن الشجرة التي تكون بهذه الصفة ينفسد جناها ، وقال الحسن ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية ، وقال ابن زيد أراد أَنها من شجر الشام لأن شجر الشام هي أفضل الشجر وهي «الأرض المباركة » ، وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم المعنى في قوله : { لا شرقية ولا غربية } أنها في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها أي فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية ، وقوله : { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } مبالغة في صفة صفائه وحسنه وجودته ، وقرأ الجمهور «تمسسه » بالتاء من فوق ، وقرأ ابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وقوله : { نور على نور } أي هذه كلها معاون تكامل بها هذا النور الممثل به وفي هذا الموضع تم المثال ، ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده وذكر تفضله في ضرب الأمثال للعباد ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان .


[8716]:البيت في القرطبي أيضا غير منسوب، وهو من الأبيات المشهورة لأبي تمام، وقد استشهد به مع بيتين آخرين إبراهيم بن العباس الصولي على أن أبا تمام أشعر أهل زمانه، ذكر ذلك الأصفهاني في كتاب الأغاني، والأبيات الثلاثة هي: مطر أبوك أبو أهلة وائل ملأ البسيطة عدة وعديدا نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمودا ورثوا الأبوة والخطوط فأصبحوا جمعوا جدودا في العلا وجدودا والنسب: القرابة، ويقال: إنه في الآباء خاصة، والفلق ـ بفتح الفاء واللام ـ: ما انشق من عمود الصبح، وقيل: هو الصبح بعينه، وقيل: هو الفجر، وكله راجع إلى معنى الشق، وفلق الصبح: ضوءه وناره، وفي الحديث أن النبي صلة الله عليه وسلم كان يرى الرؤيا فتأتي مثل فلق الصبح، والشاهد أن النور هنا بمعنى الأضواء المدركة بالبصر.
[8717]:أخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تهجد في الليل يدعو (اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك حق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبتـ، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت).
[8718]:وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأب جعفر، وعبد العزيز المكي، وزيد بن علي، وثابت بن أبي حفصة، والقوصي، ومسلمة بن عبد الملك، قال ذلك أبو حيان في "البحر المحيط".
[8719]:فقد سماه الله تعالى نورا في قوله: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين}.
[8720]:وقد سماه الله تعالى نورا في قوله: {وأنزلنا إليكم نورا مبينا} (174 ـ النساء).
[8721]:ما بين العلامتين [...] سقط من كل النسخ الأصلية إلا نسخة واحدة، واتفق معها كلام القرطبي الذي نقل هذه الفقرة كاملة عن ابن عطية دون أن يشير إليه.
[8722]:قال أبو الفتح: "فيها ثلاث لغات: زجاجة، وزجاجة، وزجاج ـ بالفتح والضم والكسر ـ وفي الجمع: زجاج، وزجاج، وزجاج ـ كنعامة ونعام، ورقاقة ورقاق، وعمامة وعمام ـ".
[8723]:جاء في اللسان (درأ): "وكوكب دريء على فعيل: مندفع في مضيه من المشرق إلى المغرب"، ثم نقل عن ابن بري أن سيبويه حكى أنه يدخل في الكلام فعيل وهو قولهم للعصفر: مريق، وكوكب دريء"، وجاء فيه في (مرق): "والمريق: حب العصفر، وفي التهذيب: شحم العصفر" فضبطه بتشديد الراء وفتحها كقبيط"، وعلق محققه على ذلك بقوله: "ضبطه الصاغاني بضم فكسر الراء المشددة، وكذلك مجد الدين في (درأ)، وضبطه هنا كقبيط مناقض لما تقدم في (درأ)، أفاده شارح القاموس".
[8724]:قال أبو حيان في البحر: "إذا قيل إنها مشتقة من السرور وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل، وسمع أيضا (مريخ) للذي في داخل القرن اليابس".
[8725]:وكذلك فيما رواه حفص كما هو ثابت في المصحف.
[8726]:ليت شعري: ليت علمي، ويقال: ليت شعري لفلان ما صنع، وليت شعري عن فلان ما صنع، وليت شعري فلانا، وأنشدوا شاهدا على الأخيرة البيت الأول، وهو في اللسان (شعر)، والبيت الثاني في اللسان أيضا (برك)، وليت: كلمة تمن، والنبع في الأصل: شجر من أشجار الجبال تتخذ منه القسي لصلابته، وكل القسي إذا ضمت إلى قوس النبع كرمتها قوس النبع، ولا يكون العود كريما حتى يكون ذلك، ولهذا يطلقون على كل شيء كريم اسم النبع، وشجر كل من الرمان والزيتون من أكرم الأشجار وأنفعها للناس.
[8727]:وتكون الجملة في موضع الصفة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ مَثَلُ نُورِهِۦ كَمِشۡكَوٰةٖ فِيهَا مِصۡبَاحٌۖ ٱلۡمِصۡبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوۡكَبٞ دُرِّيّٞ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٖ مُّبَٰرَكَةٖ زَيۡتُونَةٖ لَّا شَرۡقِيَّةٖ وَلَا غَرۡبِيَّةٖ يَكَادُ زَيۡتُهَا يُضِيٓءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٞۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٖۚ يَهۡدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (35)

{ الله نُورُ السماوات والأرض } .

أتْبع منةَ الهداية الخاصة في أحكام خاصة المفادة من قوله تعالى : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] الآية بالامتنان بأن الله هو مكون أصول الهداية العامة والمعارف الحقِّ للناس كلهم بإرسال رسوله بالهدى ودين الحق ، مع ما في هذا الامتنان من الإعلام بعظمة الله تعالى ومجده وعموم علمه وقدرته .

والذي يظهر لي أن جملة : { الله نور السموات والأرض } معترضة بين الجملة التي قبلها وبين جملة : { مثل نوره كمشكاة } وأن جملة : { مثل نوره كمشكاة } بيان لجملة : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] كما سيأتي في تفسيرها فتكون جملة : { الله نور السماوات والأرض } تمهيداً لجملة : { مثَل نوره كمشكاة } .

ومناسبة موقع جملة : { مثل نوره كمشكاة } بعد جملة : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } أن آيات القرآن نور قال تعالى : { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } في سورة النساء ( 174 ) ، وقال : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } في سورة العقود ( 15 ) ، فكان قوله : { الله نور السماوات والأرض } كلمة جامعة لمعان جمّة تتبع معاني النور في إطلاقه في الكلام .

وموقع الجملة عجيب من عدة جهات ، وانتقال من بيان الأحكام إلى غرض آخر من أغراض الإرشاد وأفانين من الموعظة والبرهان .

والنور : حقيقته الإشراق والضياء . وهو اسم جامد لمعنى ، فهو كالمصدر لأنا وجدناه أصلاً لاشتقاق أفعال الإنارة فشابهت الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة نحو : استنوق الجمل ، فإن فعل أنار مثل فعل أفلس ، وفعل استنار مثل فعل استحجر الطين . وبذلك كان الإخبار به بمنزلة الإخبار بالمصدر أو باسم الجنس في إفادة المبالغة لأنه اسم ماهية من المواهي فهو والمصدر سواء في الاتصاف . فمعنى : { الله نور السماوات والأرض } أن منه ظهورهما . والنور هنا صالح لعدة معان تشبّه بالنور . وإطلاق اسم النور عليها مستعمل في اللغة .

فالإخبار عن الله تعالى بأنه نور إخبار بمعنى مجازي للنور لا محالة بقرينة أصل عقيدة الإسلام أن الله تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لا يتردد في ذلك أحد من أصحاب اللسان العربي ولا تخلو حقيقة معنى النور عن كونه جوهراً أو عرضاً . وأسعد إطلاقات النور في اللغة بهذا المقام أن يراد به جلاء الأمور التي شأنها أن تخفى عن مدارك الناس وتلتبس فيقل الاهتداء إليها ، فإطلاقه على ذلك مجاز بعلامة التسبب في الحس والعقل وقال الغزالي في رسالته المعروفة « بمشكاة الأنوار{[289]} » : النور هو الظاهر الذي به كل ظهور ، أي الذي تنكشف به الأشياء وتنكشف له وتنكشف منه وهو النور الحقيقي وليس فوقه نور . وجعل اسمه تعالى النور دالاً على التنزه عن العدم وعلى إخراج الأشياء كلها عن ظلمة العدم إلى ظهور الوجود فآل إلى ما يستلزمه اسم النور من معنى الإظهار والتبيين في الخلق والإرشاد والتشريع وتبعه ابن برَّجان الإشبيلي{[290]} في « شرح الأسماء الحسنى » فقال : إن اسمه النور آل إلى صفات الأفعال اه .

أما وصف النور هنا فيتعين أن يكون ملائماً لما قبل الآية من قوله : { لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] وما بعدها من قوله : { مثل نوره كمشكاة } إلى قوله : { يهدي الله لنوره من يشاء } وقوله عقب ذلك : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] . وقد أشرنا آنفاً إلى أن للنور إطلاقات كثيرة وإضافات أخرى صالحة لأن تكون مراداً من وصفه تعالى بالنور . وقد ورد في مواضع من القرآن والحديث فيحمل الاطلاق في كل مقام على ما يليق بسياق الكلام ولا يطرد ذلك على منوال واحد حيثما وقع ، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن " فإن عطف « من فيهن » يؤذن بأن المراد ب« السماوات والأرض » ذاتهما لا الموجودات التي فيهما فيتعين أن يراد بالنور هنالك إفاضة الوجود المعبر عنه بالفتق في قوله تعالى : { كانتا رتقاً ففتقناهما } [ الأنبياء : 30 ] . والمعنى : أنه بقدرته تعالى استقامت أمورهما .

والتزم حكماء الإشراق من المسلمين وصوفية الحكماء معاني من إطلاقات النور . وأشهرها ثلاثة : البرهان العلمي ، والكمال النفساني ، وما به مشاهدة النورانيات من العوالم . وإلى ثلاثتها أشار شهاب الدين يحيى السهروردي في أول كتابه « هياكل النور » بقوله : « يا قيوم أيِّدنا بالنور وثبتنا على النور واحشرنا إلى النور » كما بينه جلال الدين الدواني في « شرحه » .

ونلحق بهذه المعاني اطلاق النور على الإرشاد إلى الأعمال الصالحة وهو الهدي .

وقد ورد في آيات من القرآن إطلاق النور على ما هو أعم من الهدي كما في قوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هُدًى ونور } [ المائدة : 44 ] وقوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس } [ الأنعام : 91 ] فعطف أحد اللفظين على الآخر مشعر بالمغايرة بينهما . وليس شيء من معاني لفظ النور الوارد في هذه الآيات بصالح لأن يكون هو الذي جعل وصفاً لله تعالى لا حقيقة ولا مجازاً فتعين أن لفظ ( نور ) في قوله : { مثل نوره كمشكاة } غير المراد بلفظ نور في قوله : { الله نور السماوات والأرض } فالنور لفظ مشترك استعمل في معنى وتارة أخرى في معنى آخر .

فأحسن ما يفسر به قوله تعالى : { الله نور السماوات والأرض } أن الله موجد كل ما يعبر عنه بالنور وخاصة أسباب المعرفة الحق والحجة القائمة والمرشد إلى الأعمال الصالحة التي بها حسن العاقبة في العالَمَيْن العلوي والسفلي ، وهو من استعمال المشترك في معانيه .

ويجوز أن يراد بالسماوات والأرض من فيهما من باب : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] وهو أبلغ من ذكر المضاف المحذوف لأن في هذا الحذف إيهام أن السماوات والأرض قابلة لهذا النور كما أن القرية نفسها تشهد بما يسأل منها ، وذلك أبلغ في الدلالة على الإحاطة بالمقصود وألطف دلالة .

فيشمل تلقين العقيدة الحق والهداية إلى الصلاح ؛ فأما هداية البشر إلى الخير والصلاح فظاهرة ، وأما هداية الملائكة إلى ذلك فبأن خلقهم الله على فطرة الصلاح والخير . وبأن أمرهم بتسخير القوى للخير ، وبأن أمر بعضهم بإبلاغ الهدى بتبليغ الشرائع وإلهام القلوب الصالحة إلى الصلاح وكانت تلك مظاهر هدى لهم وبهم .

{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِى زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ } .

يظهر أن هذه الجملة بيان لجملة : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] إذ كان ينطوي في معنى { آيات } ووصفها ب { مبينات } ما يستشرف إليه السامع من بيان لما هي الآيات وما هو تبيينها ، فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً . ووقعت جملة : { الله نور السماوات والأرض } معترضة بين هذه الجملة والتي قبلها تمهيداً لعظمة هذا النور الممثل بالمشكاة .

وجرى كلام كثير من المفسرين على ما يقتضي أنها بيان لجملة : { الله نور السماوات والأرض } فيكون موقعها موقع عطف البيان فلذلك فُصلت فلم تعطف .

والضمير في قوله : { نوره } عائد إلى اسم الجلالة ، أي مثل نور الله . والمراد ب { نوره } كتابه أو الدين الذي اختاره ، أي مثله في إنارة عقول المهتدين .

فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفّت به وسائل قوة الإشراق فهو نور الله لا محالة . وإنما أوثر تشبيهه بالمصباح الموصوف بما معه من الصفات دون أن يشبه نوره بطلوع الشمس بعد ظلمة الليل لقصد إكمال مشابهة الهيئة المشبه بها بأنها حالة ظهور نور يبدو في خلال ظلمة فتنقشع به تلك الظلمة في مساحة يراد تنويرها . ودون أن يشبه بهيئة بزوغ القمر في خلال ظلمة الأفق لقصد إكمال المشابهة لأن القمر يبدو ويغيب في بعض الليلة بخلاف المصباح الموصوف . وبعد هذا فلأن المقصود ذكر ما حف بالمصباح من الأدوات ليتسنى كمال التمثيل بقبوله تفريق التشبيهات كما سيأتي وذلك لا يتأتى في القمر .

والمَثَل : تشبيه حال بحال ، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة . فمعنى { مثل نوره } : شَبيهُ هدِيه حالُ مشكاة . . إلى آخره ، فلا حاجة إلى تقدير : كنور مشكاة ، لأن المشبه به هو المشكاة وما يتبعها .

وقوله : { كمشكاة فيها مصباح } المقصود كمصباح في مشكاة . وإنما قُدم { المشكاة } في الذكر لأن المشبه به هو مجموع الهيئة ، فاللفظ الدال على المشبه به هو مجموع المركب المبتدىء بقوله : { كمشكاة } والمنتهي بقوله : { ولو لم تمسسه نار } فلذلك كان دخول كاف الشبه على كلمة { مشكاة } دون لفظ { مصباح } لا يقتضي أصالة لفظ مشكاة في الهيئة المشبه بها دون لفظ { مصباح } بل موجب هذا الترتيب مراعاة الترتيب الذهني في تصور هذه الهيئة المتخيلة حين يلمح الناظر إلى انبثاق النور ثم ينظر إلى مصدره فيرى مشكاةً ثم يبدو له مصباح في زجاجة .

والمشكاة المعروف من كلام أهل اللغة أنها فرجة في الجدار مثل الكوة لكنها غير نافذة فإن كانت نافذة فهي الكوة . ولا يوجد في كلام الموثوق عنهم من أهل العربية غير هذا المعنى ، واقتصر عليه الراغب وصاحب « القاموس » و« الكشاف » واتفقوا على أنها كلمة حبشية أدخلها العرب في كلامهم فعدت في الألفاظ الواقعة في القرآن بغير لغة العرب . ووقع ذلك في « صحيح البخاري » فيما فسره من مفردات سورة النور .

ووقع في « تفسير الطبري » وابن عطية عن مجاهد : أن المشكاة العمود الذي فيه القنديل يكون على رأسه ، وفي « الطبري » عن مجاهد أيضاً : المشكاة الصُفر ( أي النحاس أي قطعة منه شبيه القصيبة ) الذي في جوف القنديل . وفي معناه ما رواه هو عن ابن عباس : المشكاة موقع الفتيلة ، وفي معناه أيضاً ما قاله ابن عطية عن أبي موسى الأشعري : المشكاة الحديدة والرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة . وقول الأزهري : أراد قصبة الزجاجة التي يستصبح فيها وهي موضع الفتيلة .

وقد تأوله الأزهري بأن قصبة الزجاجة شبهت بالمشكاة وهي الكوة فأطلق عليها مشكاة .

والمصباح : اسم للإناء الذي يوقد فيه بالزيت للإنارة ، وهو من صيغ أسماء الآلات مثل المفتاح ، وهو مشتق من اسم الصبح ، أي ابتداء ضوء النهار ، فالمصباح آلة الإصباح أي الإضاءة . وإذا كان المشكاة اسماً للقصيبة التي توضع في جوف القنديل كان المصباح مراداً به الفتيلة التي توضع في تلك القُصيبة .

وإعادة لفظ { المصباح } دون أن يقال : فيها مصباح في زجاجة ، كما قال : { كمشكاة فيها مصباح } إظهار في مقام الإضمار للتنويه بذكر المصباح لأنه أعظم أركان هذا التمثيل ، وكذلك إعادة لفظ { الزجاجة } في قوله : { الزجاجة كأنها كوكب دري } لأنه من أعظم أركان التمثيل . ويسمى مثل هذه الإعادة تشابه الأطراف في فن البديع ، وأنشدوا فيه قول ليلى الأخيلية في مدح الحجاج بن يوسف :

إذا أُنزل الحجاج أرضاً مريضةً *** تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلام إذا هز القناة سقاها

سقاها فروّاها بشرب سجاله *** دماءَ رجال يحلبون صراها

ومما فاقت به الآية عدم تكرار ذلك أكثر من مرتين .

والزجاجة : اسم إناء يصنع من الزجاج ، سميت زجاجة لأنها قطعة مصنوعة من الزجاج بضم الزاي وتخفيف الجيمين ملحقة بآخر الكلمة هاء هي علامة الواحد من اسم الجمع كأنهم عاملوا الزجاج معاملة أسماء الجموع مثل تَمر ، ونَمل ، ونَخْل ، كانوا يتخذون من الزجاج آنية للخمر وقناديل للإسراج بمصابيح الزيت لأن الزجاج شفاف لا يحجب نور السراج ولا يحجب لون الخمر وصفاءها ليعلمه الشارب .

والزجاج : صنف من الطين المطيّن من عجين رمللٍ مخصوص يوجد في طبقة الأرض وليس هو رمل الشطوط .

وهذا العجين اسمه في اصطلاح الكيمياء ( سليكَا ) يخلط بأجزاء من رماد نبت يسمى في الكيمياء ( صُودا ) ويسمى عند العرب الغاسول وهو الذي يتخذون منه الصابون . ويضاف إليهما جزء من الكلس ( الجير ) ومن ( البوتاس ) أو من ( أُكسيد الرصاص ) فيصير ذلك الطين رقيقاً ويدخل للنار فيصهر في أتون خاص به شديد الحرارة حتى يتميّع وتختلط أجزاؤه ثم يخرج من الأتون قطعاً بقدر ما يريد الصانع أن يصنع منه ، وهو حينئذٍ رخو يشبه الحلواء فيكون حينئذٍ قابلاً للامتداد وللانتفاخ إذا نُفخ فيه بقصبة من حديد يضعها الصانع في فمه وهي متصلة بقطعة الطين المصهورة فينفخ فيها فإذا داخلها هواء النفَس تمددت وتشكلت بشكل كما يتفق فيتصرف فيه الصانع بتشكيله بالشكل الذي يبتغيه فيجعل منه أواني مختلفة الأشكال من كؤوس وباطيات وقِنِّينات كبيرة وصغيرة وقوارير للخمر وآنية لزيت المصابيح تفضل ما عداها بأنها لا تحجب ضوء السراج وتزيده إشعاعاً .

وقد كان الزجاج معروفاً عند القدماء من الفنيقيين وعند القبط من نحو القرن الثلاثين قبل المسيح ثم عرفه العرب وهم يسمونه الزجاج والقوارير . قال بشار :

ارفق بعمرو إذا حركت نسبته *** فإنه عربي من قوارير

وقد عرفه العبرانيون في عهد سليمان واتخذ منه سليمان بلاطاً في ساحة صرحه كما ورد في قوله تعالى : { قال إنه صرح ممرد من قوارير } [ النمل : 44 ] . وقد عرفه اليونان قديماً ومن أقوال الحكيم ( ديوجينوس اليوناني ) : « تيجان الملوك كالزجاج يسرع إليها العطب » . وسمى العرب الزجاج بلَّوراً بوزن سنّوْر وبوزن تنُّور . واشتهر بصناعته أهل الشام . قال الزمخشري في « الكشاف » : { في زجاجة } أراد قنديلاً من زجاج شامي أزهر اه . واشتهر بدقة صنعه في القرن الثالث المسيحي أهل البندقية ولونوه وزينوه بالذهب وما زالت البندقية إلى الآن مصدر دقائق صنع الزجاج على اختلاف أشكاله وألوانه يتنافس فيه أهل الأذواق . وكذلك بلاد ( بوهيميا ) من أرض ( المجر ) لجودة التراب الذي يصنع منه في بلادهم . ومن أصلح ما انتفع فيه الزجاج اتخاذ أطباق منه توضع على الكوى النافذة والشبابيك لتمنع الرياح وبرد الشتاء والمطر عن سكان البيوت ولا يحجب عن سكانها الضوء . وكان ابتكار استعمال هذه الأطباق في القرن الثالث من التاريخ المسيحي ولكن تأخر الانتفاع به في ذلك مع الاضطرار إليه لعسر استعماله وسرعة تصدعه في النقل ووفرة ثمنه ، ولذلك اتخذ في النوافذ أول الأمر في البلاد التي يصنع فيها فبقي زماناً طويلاً خاصاً بمنازل الملوك والأثرياء .

والكوكب : النجم ، والدرِّيّ بضم الدال وتشديد التحتية في قراءة الجمهور واحد الدراري وهي الكواكب الساطعة النور مثل الزُّهرة والمشتري منسوبة إلى الدُّر في صفاء اللون وبياضه ، والياء فيه ياء النسبة وهي نسبة المشابهة كما في قول طرفة يصف راحلته :

جماليّة وجناء *** البيت . . .

أي كالجمل في عظم الجثة وفي القوة .

وقولهم في المثل « بات بليلة نابغية » أي كليلة النابغة في قوله :

فبت كأني ساورتني ضئيلة *** الأبيات . . .

قال الحريري : « فبت بليلة نابغية . وأحزان يعقوبية » المقامة السابعة والعشرون .

ومنه قولهم : وردي اللون ، أي كلون الورد . والدر يضرب مثلاً للإشراق والصفاء . قال لبيد :

وتضيء في وجه الظلام منيرة *** كجمانة البحري سُلّ نظامها

وقيل : الكوكب الدري علم بالغلبة على كوكب الزهرة .

وقرأ أبو عمرو والكسائي { دِرّيء } بكسر الدال ومد الراء على وزن شريب من الدرء وهو الدفع ، لأنه يدفع الظلام بضوئه أو لأن بعض شعاعه يدفع بعضاً فيما يخاله الرائي .

وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال ومد الراء من الدرء أيضاً على أن وزنه فُعِّيل وهو وزن نادر في كلام العرب لكنه من أبنية كلامهم عند سيبويه ومنه عُلِّية وسُرِّية وذُرّية بضم الأول في ثلاثتها .

وإنما سُلك طريق التشبيه في التعبير عن شدة صفاء الزجاجة لأنه أوجز لفظاً وأبين وصفاً . وهذا تشبيه مفرد في أثناء التمثيل ولا حظ له في التمثيل .

وجملة : { يوقد من شجرة } الخ في موضع الصفة ل { مصباح } .

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم { يوقد } بتحتية في أوله مضمومة بعدها واو ساكنة وبفتح القاف مبنياً للنائب ، أي يوقده الموقد . فالجملة حال من { مصباح } .

وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف { تَوَقَّد } بفوقية مفتوحة في أوله وبفتح الواو وتشديد القاف مفتوحة ورفع الدال على أنه مضارع توقّد حذفت منه إحدى التاءين وأصله تتوقد على أنه صفة أو حال من { مشكاة } أو من { زجاجة } أو من المذكورات وهي مشكاة ومصباح وزجاجة ، أي تنير . وإسناد التوقد إليها مجاز عقلي .

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر مثل قراءة حمزة ومن معه لكن بفتح الدال على أنه فعل مضي حال أو صفة لمصباح .

والإيقاد : وضع الوقود وهو ما يزاد في النار المشتعلة ليقوى لهبها ، وأريد به هنا ما يُمَد به المصباح من الزيت .

وفي صيغة المضارع على قراءة الأكثرين إفادة تجدد إيقاده ، أي لا يذوى ولا يطفأ . وعلى قراءة ابن كثير ومن معه بصيغة المضي إفادة أن وقوده ثبت وتحقق .

وذكرت الشجرة باسم جنسها ثم أبدل منه { زيتونة } وهو اسم نوعها للإبهام الذي يعقبه التفصيل اهتماماً بتقرر ذلك في الذهن . ووصف الزيتونة بالمباركة لما فيها من كثرة النفع فإنها ينتفع بحبها أكلاً وبزيتها كذلك ويستنار بزيتها ويدخل في أدوية وإصلاح أمور كثيرة . وينتفع بحطبها وهو أحسن حطب لأن فيه المادة الدهنية قال تعالى : { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] ، وينتفع بجودة هواء غاباتها .

وقد قيل إن بركتها لأنها من شجر بلاد الشام والشام بلد مبارك من عهد إبراهيم عليه السلام قال تعالى : { ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } [ الأنبياء : 71 ] يريد أرض الشام .

ووصف الزيتونة ب { مباركة } على هذا وصف كاشف ، ويجوز أن يكون وصفاً مخصصاً ل { زيتونة } أي شجرة ذات بركة ، أي نماء ووفرة ثمر من بين شجر الزيتون فيكون ذكر هذا الوصف لتحسين المشبه به لينجر منه تحسين للمشبه كما في قول كعب بن زهير :

شجت بذي شبم من ماء مَحْنية *** صافٍ بأبطح أصْحى وهو مَشْمول

تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل

فإن قوله ، وأفرطه الخ لا يزيد الماء صفاءً ولكنه حالة تحسنه عند السامع .

وقوله : { لا شرقية ولا غربية } وصف ل { زيتونة } . دخل حرف ( لا ) النافية في كلا الوصفين فصار بمنزلة حرف هجاء من الكلمة بعده ولذلك لم يكن في موضع إعراب نظير ( ال ) المعرفة التي ألغز فيها الدماميني بقوله :

حاجيتكم لتخبروا ما اسمان *** وأول إعرابه في الثاني

وهو مبني بكل حــــال *** ها هو للناظر كالعيان

لإفادة الاتصاف بنفي كل وصف وعطف على كل وصف ضده لإرادة الاتصاف بوصف وسط بين الوصفين المنفيين لأن الوصفين ضدان على طريقة قولهم : « الرمان حلو حامض » . والعطف هنا من عطف الصفات كقوله تعالى : { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } [ النساء : 143 ] وقول المرأة الرابعة من حديث أم زرع : « زوجي كليل تهامة لا حَرٌّ ولا قُرُّ »{[291]} أي وسطاً بين الحر والقُر وقول العجاج يصف حمار وحشٍ :

حشرج في الجَوف قليلاً وشهق *** حتى يقال ناهقٌ وما نهَق

والمعنى : أنها زيتونة جهتها بين جهة الشرق وجهة الغرب ، فُنفِيَ عنها أن تكون شرقية وأن تكون غربية ، وهذا الاستعمال من قبيل الكناية لأن المقصود لازم المعنى لا صريحه . وأما إذا لم يكن الأمران المنفيان متضادين فإن نفيهما لا يقتضي أكثر من نفي وقوعهما كقوله تعالى : { وظل من يحموم لا بارد ولا كريم } [ الواقعة : 43 ، 44 ] وقول المرأة الأولى من نساء حديث أم زرع : « زوجي لحم جَمَل على رأس جبَل ، لا سَهْلٌ فيرتقى ولا سمين فينتقل » .

واعلم أن هذا الاستعمال إنما يكون في عطف نفي الأسماء وأما عطف الأفعال المنفية فهو من عطف الجمل نحو : { فلا صدَّق ولا صلىَّ } [ القيامة : 31 ] وقوله صلى الله عليه وسلم " لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض " .

واعلم أيضاً أن هذا لم يرد إلا في النفي بلا النافية ولذلك استقام للحريري أن يلقب شجرة الزيتون بلقب « لا و لا » بقوله في المقامة السادسة والأربعين « بورك فيك من طلا . كما بورك في لا و لا » أي في الشجرة التي قال الله في شأنها : { لا شرقية ولا غربية } .

ثم يحتمل أن يكون معنى : { لا شرقية ولا غربية } أنها نابتة في موضع بين شرق بلاد العرب وغربها وذلك هو البلاد الشامية . وقد قيل إن أصل منبت شجرة الزيتون بلاد الشام . ويحتمل أن يكون المعنى أن جهة تلك الشجرة من بين ما يحف بها من شجر الزيتون موقع غير شرق الشمس وغربها وهو أن تكون متجهة إلى الجنوب ، أي لا يحجبها عن جهة الجنوب حاجب وذلك أنفع لحياة الشجرة وطيب ثمرتها ، فبذلك يكون زيتها أجود زيت وإذا كان أجود كان أشد وقوداً ولذلك أتبع بجملة : { يكاد زيتها يضيء } وهي في موضع الحال .

وجملة : { ولو لم تمسسه نار } في موضع الحال من { زيتها } .

والزيت : عصارة حب الزيتون وما يشبهه من كل عصارة دهنية ، مثل زيت السمسم والجلجلان . وهو غذاء . ولذلك تجب الزكاة في زيت الزيتون إذا كان حبه نصاباً خمسة أوسق وكذلك زكاة زيت الجلجلان والسمسم .

و { لو } وصلية . والتقدير : يكاد يضيء في كل حال حتى في حالة لم تمسسه فيها نار .

وهذا تشبيه بالغ كمال الإفصاح بحيث هو مع أنه تشبيه هيئة بهيئة هو أيضاً مفرَّق التشبيهات لأجزاء المركب المشبه مع أجزاء المركب المشبه به وذلك أقصى كمال التشبيه التمثيلي في صناعة البلاغة .

ولما كان المقصود تشبيه الهيئة بالهيئة والمركب بالمركب حسن دخول حرف التشبيه على بعض ما يدل على بعض المركب ليكون قرينة على أن المراد التشبيه المركب ولو كان المراد تشبيه الهدى فقط لقال : نوره كمصباح في مشكاة . . إلى آخره .

فالنور هو معرفة الحق على ما هو عليه المكتسبة من وحي الله وهو القرآن . شبه بالمصباح المحفوف بكل ما يزيد نوره انتشاراً وإشراقاً .

وجملة : { نور على نور } مستأنفة إشارة إلى أن المقصود من مجموع أجزاء المركب التمثيلي هنا هو البلوغ إلى إيضاح أن الهيئة المشبه بها قد بلغت حد المضاعفة لوسائل الإنارة إذ تظاهرت فيها المشكاة والمصباح والزجاج الخالص والزيت الصافي ، فالمصباح إذا كان في مشكاة كان شعاعه منحصراً فيها غير منتشر فكان أشد إضاءة لها مما لو كان في بيت ، وإذا كان موضوعاً في زجاجة صافية تضاعف نوره ، وإذا كان زيته نقياً صافياً كان أشد إسراجاً ، فحصل تمثيل حال الدين أو الكتاب المنزل من الله في بيانه وسرعة فشوه في الناس بحال انبثاق نور المصباح وانتشاره فيما حف به من أسباب قوة شعاعه وانتشاره في الجهة المضاءة به .

فقوله : { نور } خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله : { مثل نوره كمشكاة } إلى آخره ، أي هذا المذكور الذي مثل به الحق هو نور على نور .

و { على } للاستعلاء المجازي وهو التظاهر والتعاون . والمعنى : أنه نور مكرر مضاعف . وقد أشرت آنفاً إلى أن هذا التمثيل قابل لتفريق التشبيه في جميع أجزاء ركني التمثيل بأن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشابهاً لجزء من الهيئة المشبه بها وذلك أعلى التمثيل .

فالمشكاة يشبهها ما في الإرشاد الإلهي من انضباط اليقين وإحاطة الدلالة بالمدلولات دون تردد ولا انثلام . وحفظ المصباح من الانطفاء مع ما يحيط بالقرآن من حفظه من الله بقوله : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] .

ومعاني هداية إرشاد الإسلام تشبه المصباح في التبصير والإيضاح ، وتبيينُ الحقائق من ذلك الإرشاد .

وسلامته من أن يطرقه الشك واللبس يشبه الزجاجة في تجلية حال ما تحتوي عليه كما قال : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] .

والوحي الذي أبلغ الله به حقائق الديانة من القرآن والسنة يشبه الشجرة المباركة التي تعطي ثمرة يستخرج منها دلائل الإرشاد .

وسماحة الإسلام وانتفاء الحرج عنه يشبه توسط الشجرة بين طرفي الأفق فهو وسط بين الشدة المحرجة وبين اللين المفرِّط .

ودوام ذلك الإرشاد وتجدده يشبه الإيقاد .

وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ببيان القرآن وتشريع الأحكام يشبه الزيت الصافي الذي حصلت به البصيرة وهو مع ذلك بيّن قريب التناول يكاد لا يحتاج إلى إلحاح المعلم .

وانتصاب النبي عليه الصلاة والسلام للتعليم يشبه مس النار للسراج وهذا يومىء إلى استمرار هذا الإرشاد .

كما أن قوله : { من شجرة } يوميء إلى الحاجة إلى اجتهاد علماء الدين في استخراج إرشاده على مرور الأزمنة لأن استخراج الزيت من ثمر الشجرة يتوقف على اعتصار الثمرة وهو الاستنباط .

{ يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلَيِمٌ } .

هذه الجمل الثلاث معترضة أو تذييل للتمثيل . والمعنى : دفع التعجب من عدم اهتداء كثير من الناس بالنور الذي أنزله الله وهو القرآن والإسلام فإن الله إذا لم يشأ هَدْيَ أحد خلقه وجبله على العناد والكفر .

وأن الله يضرب الأمثال للناس مرجوّا منهم التذكرُ بها : فمنهم من يعتبر بها فيهتدي ، ومنهم من يعرض فيستمر على ضلاله ولكن شأن تلك الأمثال أن يهتدي بها غير من طُبع على قلبه .

وجملة : { والله بكل شيء عليم } تذييل لمضمون الجملتين قبلها ، أي لا يعزب عن علمه شيء . ومن ذلك علم من هو قابل للهدى ومن هو مصرّ على غيّه . وهذا تعريض بالوعد للأولين والوعيد للآخرين .


[289]:- التي جعلها فيما يستخلص من آية { الله نور السماوات والأرض}.
[290]:- بُرجان –بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة بعد جيم.
[291]:- تمام القرينة: « ولا مخافة ولا سآمة»