49- وأمرناك - أيها الرسول - بأن تحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع رغباتهم في الحكم ، واحذرهم أن يصرفوك عن بعض ما أنزله الله إليك . فإن أعرضوا عن حكم الله وأرادوا غيره ، فاعلم أن الله إنما يريد أن يصيبهم بفساد أمورهم ، لفساد نفوسهم ، بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من مخالفة أحكامه وشريعته ، ثم يجازيهم عن كل أعمالهم في الآخرة{[55]} ، وإن كثيراً من الناس لمتمردون على أحكام الشريعة .
قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } إليك
قوله تعالى : { ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال كعب بن أسيد ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس ، من رؤساء اليهود بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد ، قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم ، وإنا إن اتبعناك يخالفنا اليهود ، وإن بيننا وبين الناس خصومات فنحاكمهم إليك ، فاقض لنا عليهم نؤمن بك ، ويتبعنا غيرنا . ولم يكن قصدهم الإيمان ، وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
قوله تعالى : { فإن تولوا } . أي أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن .
قوله تعالى : { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } ، أي : فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم .
{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ } هذه الآية هي التي قيل : إنها ناسخة لقوله : { فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ْ }
والصحيح : أنها ليست بناسخة ، وأن تلك الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه ، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق . وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم ، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من الكتاب والسنة ، وهو القسط الذي تقدم أن الله قال : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ْ } ودل هذا على بيان القسط ، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام ، فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط ، وما خالف ذلك فهو جور وظلم .
{ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ْ } كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها . ولأن ذلك في مقام الحكم والفتوى ، وهو أوسع ، وهذا في مقام الحكم وحده ، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم المخالفة للحق ، ولهذا قال : { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ْ } أي : إياك والاغترار بهم ، وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل [ الله ] إليك ، فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب ، والفرض اتباعه .
{ فَإِن تَوَلَّوْا ْ } عن اتباعك واتباع الحق { فَاعْلَمْ ْ } أن ذلك عقوبة عليهم وأن الله يريد { أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ْ } فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة ، ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول ، وذلك لفسقه .
{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ْ } أي : طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله .
ثم كرر - سبحانه - الأمر لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين اليهود وغيرهم بما أنزله الله - تعالى - وحذره من مكرهم وكيدهم فقال : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } .
أخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال كعب بن أسد وابن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه : فأتوه فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعك يهود ولم يخالفونا . وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدق فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . فأنزل الله فيهم : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } .
إلى قوله : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
وقوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } في محل نصب عطفا على الكتاب في قوله : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق } .
وقوله : { أَن يَفْتِنُوكَ } بدل اشتمال من المفعول في { واحذرهم } كأنه قيل : واحذر فتنتهم كما تقول : أعجبني زيد علمه .
والمراد بالفتنة هنا محاولة إضلاله وصرفه عن الحكم بما أنزل الله .
والمعنى : وأنزلنا إليك الكتاب يا محمد فيه حكم الله ، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلناه إليك ولو كان أقل قليل ؛ بأن يصوروا لك الباطل في صورة الحق ، أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذي يناسب شهواتهم :
وقد كرر - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم وجوب التزامه في أحكامه بما أنزل الله ، لتأكيد هذا الأمر في مقام يستدعي التأكيد ، لأن اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته صلى الله عليه وسلم وإغراءه بالميل إلى الأحكام التي تتفق مع أهوائهم ، ولأنه قد جاء في الآية السابقة ما قد يوهم بأن لكل قوم شريعة خاصة بهم { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } وأن حكم القرآن ليس له صفة العموم فأراد - سبحانه - أن ينفي هذا الوهم نفيا واضحا وأن يؤكد أن شريعته القرآن هي الشريعة العامة الخالدة التي يجب أن يتحاكم إليها الناس في كل زمان ومكان ، لأنها نسخت ما سبقها من شرائع .
وقوله - تعالى - { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } تيئيس لأولئك اليهود الذين حاولوا إغراء الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقضي لهم بما يرضيهم لكي يرضيهم لكي يتبعوه ، ونهى له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه عن الاستجابة لأهواء هؤلاء ولو في أقل القليل مما يتنافى مع الحق الذي أمره الله - تعالى - بالسير عليه في القضاء بين الناس .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة كل من يعرض عن حكم الله - تعالى - فقال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } .
أي : فإن توولا عن حكمك ، وأعرضوا عنك بعد تحاكمهم إليك وأرادوا الحكم بغير ما أنزل الله . فاعلم أن حكمة الله قد اقتضت أن يعاقبهم بسبب بعض هذه الذنوب التي اقترفوها بتوليهم عن حكم الله ، وإعراضهم عنك ، وانصرافهم عن الهدى والرشاد إلى الغي والضلال ، لأن الأمة التي لا تخضع لحكم شرع الله ، وتسير وراء لذائذها ومتعها وشهواتها وأهوائها الباطلة ، لابد أن يصيبها العقاب الشديد بسبب ذلك .
وعبر - سبحانه - عما يصيبهم من عقاب بأنه بسبب ارتكابهم لبعض الذنوب ، للإِشارة بأن لهم ذنوبا كثيرة بعضها كاف لإنزال العقوبة الشديدة بهم .
وقوله : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ } اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، ومتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لقيه من مخالفيه ولا سيما اليهود .
أي : وإن كثيرا من الناس لخارجون عن طاعتنا ، ومتمردون على أحكامنا ، ومتبعون لخطوات الشيطان الذي استحوذ عليهم ، وإذا كان الأمر كذلك فلا تبتئس يا محمد عما لقيه من أصحاب النفوس المريضة ، بل اصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم .
ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة ، ويزيدها وضوحا . فالنص الأول : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) . . قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم ! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه :
( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) . .
فالتحذير هنا أشد وأدق ؛ وهو تصوير للأمر على حقيقته . . فهي فتنة يجب أن تحذر . . والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكما بما أنزل الله كاملا ؛ أو أن يكون اتباعا للهوى وفتنة يحذر الله منها .
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر ؛ فيهون على رسول الله [ ص ] أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة ، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينا ؛ أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله [ في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتما في دار الإسلام ] :
( فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم . وإن كثيرا من الناس لفاسقون )
فإن تولوا فلا عليك منهم ؛ ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته . ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك . . فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم . فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض : لا أنت ولا شريعة الله ودينه ؛ ولا الصف المسلم المستمسك بدينه . . ثم إنها طبيعة البشر : ( وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) فهم يخرجون وينحرفون . لأنهم هكذا ؛ ولا حيلة لك في هذا الأمر ، ولا ذنب للشريعة ! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق !
وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ؛ ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة ؛ لغرض من الأغراض ؛ في ظرف من الظروف . .
{ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَاعْلَمْ أَنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ لَفَاسِقُونَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب ، مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ، وأن احكم بينهم ف«أنْ » في موضع نصب بالتنزيل . ويعني بقوله : بِمَا أنْزَلَ اللّهُ : بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه .
وأما قوله : وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ فإنه نهي من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم وفاجِرَيْهم ، وأمْرٌ منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنزله إليه . وقوله : وَاحْذَرْهُمْ أنْ يفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَيْكَ يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك أن يفتنوك ، فيصدّوك عن بعض ما أنزل الله إليك من حكم كتابه ، فيحملوك على ترك العمل به واتباع أهوائهم . وقوله : فإنْ تَوَلّوْا فاعْلَمْ أنّمَا يُرِيدُ الله أنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهمْ يقول تعالى ذكر : فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك ، فتركوا العمل بما حكمت به عليهم ، وقضيت فيهم ، فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، يقول : فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضا بحكمك وقد قضيت بالحقّ إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم . وَإنّ كَثيرا مِنَ النّاسِ لفَاسِقُونَ يقول : وإن كثيرا من اليهود لفاسقون ، يقول : لتاركوا العمل بكتاب الله ، ولخارجون عن طاعته إلى معصيته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الرواية عن أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال كعب بن أسد وابن صوريا وشأس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعَنا يهود ولم يخالفونا ، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة ، فنحاكمهم إليك ، فتقضيَ لنا عليهم ونؤمِن لك ونصدّقك فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله فيهم : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَيْكَ . . . إلى قوله : لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَاحْذَرْهُم أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أنْزَلَ اللّهُ إلَيْكَ قال : أن يقولوا في التوراة كذا ، وقد بينا لك ما في التوراة . وقرأ : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفسِ وَالعَيْنَ بالعَيْنِ والأنْفَ بالأنْفِ والأُذُنَ بالأُذُنِ وَالسّنّ بالسّنّ والجُرُوحَ قِصَاصٌ بعضها ببعض .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : دخل المجوس مع أهل الكتاب في هذه الاَية : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ .
{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله } عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم ، أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم ، ويجوز أن يكون جملة بتقدير وأمرنا أن أحكم . { ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أي أن يضلوك ويصرفوك عنه ، وأن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم ، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك . روي ( أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم ، إن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فنزلت . { فإن تولوا } عن الحكم المنزل وأرادوا غيره . { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } يعني ذنب التولي عن حكم الله سبحانه وتعالى ، فعبر عنه بذلك تنبيها على أن لهم ذنوبا كثيرة وهذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها ، وفيه دلالة على التعظيم كما في التنكير ونظيره قول لبيد :
أو يرتبط بعض النفوس حمامها *** . . .
{ وإن كثيرا من الناس لفاسقون } لمتمردون في الكفر معتدون فيه .
{ وأن احكم } معطوف على { الكتاب } في قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب } [ المائدة : 48 ] ، وقال مكي : وهو معطوف على «الحق » في قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } [ المائدة : 48 ] ، والوجهان حسنان ، ويقرأ بضم النون من «أنُ احكم » مراعاة للضمة في عين الفعل المضارع ، ويقرأ بكسرها على القانون في التقاء الساكنين ، وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله { أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] وقد تقدم ذكر ذلك ، ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة ، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه ، وقد يجيء أحياناً مقيداً بما فيه خير ، من ذلك قول عمر بن الخطاب في قصة رأيه ورأي أبي بكر في أسرى بدر : فهوى رسول الله رأي أبي بكر ، ومنه قول عمر بن عبد العزيز وقد قيل له ما ألذ الأشياء عندك ؟ قال : حق وافق هوى ، والهوى مقصور ووزنه فعل ، ويجمع على أهواء ، والهواء ممدود ويجمع على أهوية ، ثم حذر تبارك وتعالى من جهتهم «أن يفتنوه » أي يصرفوه بامتحانهم وابتلائهم عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام ، لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له مراراً احكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك ، وقوله تعالى : { فإن تولوا } قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر ، تقديره لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فاعلم ، ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل بعد قوله { الفاسقون } ، قوله تعالى : { فاعلم } الآية وعد للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم ، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم ، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك ، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا ، فلذلك خصص البعض دون الكل ، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة ، وقوله تعالى : { وإن كثيراً من الناس لفاسقون } إشارة إليهم ، لكن جاءت العبارة تعمهم وغيره ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولٍّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد .
يجوز أن يكون قوله { وأن احكم } معطوفاً عطفَ جملة على جملة ، بأن يجعل معطوفاً على جملة { فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم } [ المائدة : 48 ] ، فيكون رجوعاً إلى ذلك الأمر لتأكيده ، وليبنى عليه قوله : { واحْذَرْهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } كما بُني على نظيره قوله : { لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] وتكُون ( أنْ ) تفسيرية . و ( أنْ ) التفسيريّة تفيد تقويّة ارتباط التّفسير بالمفسَّر ، لأنّها يمكن الاستغناء عنها ، لصحّة أن تقول : أرسلتُ إليه افْعَل كذا ، كما تقول : أرسلت إليه أنْ افعَلْ كذا . فلمّا ذكر الله تعالى أنّه أنزل الكتاب إلى رسوله رتّب عليه الأمر بالحكم بما أنزل به بواسطة الفاء فقال : { فاحكم بينهم } [ المائدة : 48 ] ، فدلّ على أنّ الحكم بما فيه هو من آثار تنزيله . وعطَف عليه ما يدلّ على أنّ الكتاب يأمر بالحكم بما فيه بما دلّت عليه ( أنْ ) التفسيرية في قوله : { وأنْ احكم بينهم بما أنزل الله } ، فتأكَّد الغرض بذِكْره مرّتين مع تفنّن الأسلوب وبداعته ، فصار التّقدير : وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ أنْ احكم بينهم بما أنزل الله فاحكم بينهم به . وممّا حسَّن عطفَ التّفسير هنا طولُ الكلام الفاصِل بين الفعل المفسَّر وبين تفسيره . وجعله صاحب « الكشاف » من عطف المفردات . فقال : عُطف { أن احكم } على { الكِتاب } في قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب } [ المائدة : 48 ] كأنّه قيل : وأنزلنا إليك أنْ احْكُم . فجعل ( أنْ ) مصدريّة داخلة على فعل الأمر ، أي فيكون المعنى : وأنزلنا إليك الأمر بالحكم بما أنزل الله كما قال في قوله : { إنّا أرسلنا نُوحاً إلى قومه أن أنذر قومك } [ نوح : 1 ] ، أي أرسلناه بالأمر بالإنذار ، وبيّن في سورة يونس ( 105 ) عند قوله تعالى : { وأن أقم وجهك للدّين حنيفاً } أنّ هذا قول سيبويه إذ سوّغ أن توصل ( أنْ ) المصدريّة بفعل الأمر والنّهي لأنّ الغرض وصلها بما يكون معه معنى المصدر ، والأمرُ والنّهي يدلاّن على معنى المصدر ، وعلّله هنا بقوله : لأنّ الأمر فعل كسائر الأفعال . والحملُ على التفسيرية أوْلَى وأَعرب ، وتكون ( أنْ ) مقحمة بين الجملتين مفسّرة لفعل أنْزَل } من قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } ؛ فإنّ { أنزل } يتضمّن معنى القول فكان لحرف التّفسير موقع .
وقوله : { ولا تتّبع أهواءهم } هو كقوله قبلَه { ولا تتّبع أهواءهم عمّا جاءك من الحقّ } [ المائدة : 44 ] .
وقولُه : { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } المقصود منه افتضاح مكرهم وتأييسهم ممّا أمَّلوه ، لأنّ حذر النّبيء صلى الله عليه وسلم من ذلك لا يحتاج فيه إلى الأمر لعصمته من أن يخالف حكم الله .
ويجوز أن يكون المقصود منه دحض ما يتراءى من المصلحة في الحكم بين المتحاكمين إليه من اليهود بعوائدهم إن صحّ ما روي من أنّ بعض أحبارهم وعدوا النّبيء بأنّه إن حكم لهم بذلك آمنوا به واتّبعتهم اليهود اقتداء بهم ، فأراه الله أنّ مصلحة حرمة أحكام الدين ولو بينَ غير أتباعه مقدّمة على مصلحة إيمان فريق من اليهود ، لأجل ذلك فإنّ شأن الإيمان أن لا يقاوِل النّاس على اتّباعه كما قدّمناه آنفاً .
والمقصود مع ذلك تحذير المسلمين من توهّم ذلك .
ولذلك فرّع عليه قوله : { فإن تولّوا } ، أي فإن حكمت بينهم بما أنزل الله ولم تتّبع أهواءهم وتولّوا فاعلم ، أي فتلك أمارة أنّ الله أراد بهم الشّقاء والعذاب ببعض ذنوبهم وليس عليك في تولّيهم حرج . وأراد ببعض الذنوب بعضاً غيرَ معين ، أي أنّ بعض ذنوبهم كافية في إصابتهم وأنّ تولّيهم عن حكمك أمارة خذلان الله إيّاهم .
وقد ذيّله بقوله : { وإنّ كثيراً من النّاس لفاسقون } ليَهُونَ عنده بقاؤهم على ضلالهم إذ هو شنشنة أكثر النّاس ، أي وهؤلاء منهم فالكلام كناية عن كونهم فاسقين .