قوله تعالى : { قالت إحداهما يا أبت استأجره } اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا ، { إن خير من استأجرت القوي الأمين } يعني : خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة ، فقال لها أبوها : وما علمك بقوته وأمانته ؟ قالت : أما قوته : فإنه رفع حجراً من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة . وقيل : إلا أربعون رجلاً ، وأما أمانته : فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك .
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } أي : إحدى ابنتيه { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } أي : اجعله أجيرا عندك ، يرعى الغنم ويسقيها ، { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } أي : إن موسى أولى من استؤجر ، فإنه جمع القوة والأمانة ، وخير أجير استؤجر ، من جمعهما ، أي : القوة والقدرة على ما استؤجر عليه ، والأمانة فيه بعدم الخيانة ، وهذان الوصفان ، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا ، بإجارة أو غيرها .
فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما ، وأما باجتماعهما ، فإن العمل يتم ويكمل ، وإنما قالت ذلك ، لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه ، ما عرفت به قوته ، وشاهدت من أمانته وديانته ، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما ، وإنما قصده [ بذلك ] وجه اللّه تعالى .
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ، ما أشارت به إحدى الفتاتين على أبيها : فقال - تعالى - : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } ولعلها التى جاءت إلى موسى على استحياء لتقوله له : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } .
{ ياأبت استأجره } أى : قالت لأبيها بوضوح واستقامة قصد - شأن المرأة السليمة القطرة النقية العرض القوية الشخصية - يا أبت استأجر هذا الرجل الغريب ليكفينا تعب الرعى ، ومشقة العمل خارج البيت .
ثم عللت طلبها بقولها : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } أى : استأجره ليرى غنمنا ، فإنه جدير بهذه المهمة ، لقوته وأمانته ، ومن جمع فى سلوكه وخلقه بين القوة والأمانة ، كان أهلا لكل خير ، ومحلا لثقة الناس به على أموالهم وأعراضهم .
قال ابن كثير : قال عمر ، وابن عباس ، وشريح القاضى ، وأبو مالك ، وقتادة . . . وغير واحد : لما قالت : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } قال لها أبوها : وما علمك بذلك ؟ قالت : إنه رفع الصخرة التى لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال لى : كونى من ورائى ، فإذا اجتنبت الطريق فاحذفى - أى فارمى - بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدى إليه .
ثم نسمع في المشهد صوت الأنوثة المستقيمة السليمة :
( قالت إحداهما ؛ يا أبت استأجره . إن خير من استأجرت القوي الأمين ) .
إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم ، ومن مزاحمة الرجال على الماء ، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال . وهي تتأذى وأختها من هذا كله ؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت ؛ امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى . والمرأة العفيفة الروح النظيفة القلب ، السليمة الفطرة ، لا تستريح لمزاحمة الرجال ، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة .
وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوي أمين . رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما . وهو غريب . والغريب ضعيف مهما اشتد . ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته . فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل . وهو قوي على العمل ، أمين على المال . فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه . وهي لا تتلعثم في هذه الإشارة ولا تضطرب ، ولا تخشى سوء الظن والتهمة . فهي بريئة النفس ، نظيفة الحس ؛ ومن ثم لا تخشى شيئا ، ولا تتمتم ولا تجمجم وهي تعرض اقتراحها على أبيها .
ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى . كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه - فيما قالوا - إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل . فالبئر لم يكن مغطى ، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين ، أو سقى لهما مع الرعاء .
ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة : امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها . أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها . . فهذا كله تكلف لا داعي له ، ودفع لريبة لا وجود لها . وموسى - عليه السلام - عفيف النظر نظيف الحس ، وهي كذلك ، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة . فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الأمِينُ } .
يقول تعالى ذكره : قالت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما موسى لأبيها حين أتاهُ موسى ، وكان اسم إحداهما صَفّورا ، واسم الأخرى لَيّا ، وقيل : شَرْفا كذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاجِ ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان الرمادي ، عن شعيب الجَبَئِي ، قال : اسم الجاريتين لَيّا ، وصَفّورا ، وامرأة موسى صفورا ابنة يثرون كاهن مدين ، والكاهن : حبر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : إحداهما صَفّورا ابنة يثرون وأختها شرفا ، ويقال : ليا ، وهما اللتان كانتا تذودان .
وأما أبوهما ففي اسمه اختلاف ، فقال بعضهم : كان اسمه يثرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمر بن مرّة ، عن أبي عُبيدة ، قال : كان الذي استأجر موسى ابنُ أخي شعيب يثرون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عُبيدة ، قال : الذي استأجر موسى يثرون ابنُ أخي شعيب عليه السلام .
وقال آخرون : بل اسمه : يَثَرى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس قال : الذي استأجر موسى : يثرى صاحب مدين .
حدثني أبو العالية العبديّ إسماعيل بن الهيثم ، قال : حدثنا أبو قُتيبة ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس ، قال : الذي استأجر موسى : يثرى صاحب مدين .
حدثني أبو العالية العبديّ إسماعيل بن الهيثم ، قال : حدثنا أبو قُتيبة ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس ، قال : اسم أبي المرأة : يثرى .
وقال آخرون : بل اسمه شعيب ، وقالوا : هو شعيب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا قرّة بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : يقولون شعيب صاحب موسى ، ولكنه سيد أهل الماء يومئذٍ .
قال أبو جعفر : وهذا مما لا يُدرك علمه إلا بخبر ، ولا خبر بذلك تجب حجته ، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جلّ ثناؤه وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ . . . قالَتْ إحْداهُما : يا أبَتِ اسْتَأَجِرْهُ تعني بقولها : استأجره ليرعى عليك ماشيتك إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينٌ تقول : إن خير من تستأجره للرعي القويّ على حفظ ماشيتك والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها ، الأمين الذي لا تخاف خيانته ، فيما تأمنه عليه . وقيل : إنها لما قالت ذلك لأبيها ، استنكر أبوها ذلك من وصفها إياه فقال لها : وما علمك بذلك ، فقالت : أما قوّته فما رأيت من علاجه ما عالج عند السقي على البئر ، وأما الأمانة فما رأيت من غضّ البصر عني . وبنحو ذلك جاءت الأخبار عن أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : قالَتْ إحْداهُما يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأَمِينُ قال : فأحفظته الغَيْرة أن قال : وما يدريك ما قوّته وأمانته ؟ قالت : أما قوّته ، فما رأيت منه حين سقى لنا ، لم أر رجلاً قطّ أقوى في ذلك السقي منه وأما أمانته ، فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه ، ولم ينظر إليّ حتى بلغته رسالتك ، ثم قال : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين ، فَسُرّيَ عن أبيها وصدّقها وظنّ به الذي قالت .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله لموسى إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينُ يقول : أمين فيما وَلِيَ ، أمين على ما استُودع .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالَتْ إحْدَاهُما يا أبَتِ اسْتَأَجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجرْتَ القَويّ الأمِينُ قال : إن موسى لمّا سَقَى لَهما ، ورأت قوّته ، وحرّك حجَرا على الركِيّة ، لم يستطعه ثلاثون رجلاً ، فأزاله عن الركية ، وانطلق مع الجارية حين دعته ، فقال لها : امشي خلفي وأنا أمامك ، كراهية أن يرى شيئا من خلفها مما حرّم الله أن ينظر إليه ، وكان يوما فيه ريح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، في قوله : يا أبَتِ اسْتأجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأجَرْتَ القَوِيّ الأمِينُ قال لها أبوها : ما رأيت من أمانته ؟ قالت : لما دعوته مشيت بين يديه ، فجعلت الريح تضرب ثيابي ، فتلزق بجسدي ، فقال : كوني خلفي ، فإذا بلغت الطريق فاذهبي ، قالت : ورأيته يملأ الحوض بسَجْلٍ واحد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : القَوِيّ الأمِينُ قال : غضّ طرفه عنهما . قال محمد بن عمرو في حديثه : حين ، أو حتى سقى لهما فصدرتا . وقال الحارث في حديثه : حتى سقى بغير شك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : فتح عن بئر حجرا على فيها ، فسقى لهما بها ، والأمين : أنه غضّ بصره عنهما حين سقى لهما فصدرتا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر وهانىء بن سعيد ، عن الحجاج ، عن القاسم ، عن مجاهد إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجْرَتَ القَوِيّ الأمِينُ قال : رفع حجرا لا يرفعه إلا فِئام من الناس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، قال عمرو بن ميمون ، في قوله القَوِيّ الأمِينُ قال : كان يوم ريح ، فقال : لا تمشي أمامي ، فيصفك الريح لي ، ولكن امشي خلفي ودلّيني على الطريق قال : فقال لها : كيف عرفت قوّته ؟ قالت : كان الحجر لا يطيقه إلا عشرة فرفعه وحده .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن الحكم ، عن شريح في قوله : القَوِيّ الأَمِينُ قال : أما قوّته : فانتهى إلى حجر لا يرفعه إلا عشرة ، فرفعه وحده . وأما أمانته : فإنها مشت أمامه فوصفها الريح ، فقال لها : امشي خلفي وصفي لي الطريق .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عمرو ، عن زائدة ، عن الأعمش ، قال : سألت تميم بن إبراهيم : بم عرفت أمانته ؟ قال : في طرفه ، بغضّ طرفه عنها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ القَوِيّ الأَمِينُ قال : القويّ في الصنعة ، الأمين فيما وَلِي . قال : وذُكر لنا أن الذي رأت من قوّته : أنه لم تلبث ماشيتها حتى أرْواها وأن الأمانة التي رأت منه أنها حِين جاءت تدعوه ، قال لها : كوني ورائي ، وكره أن يستدبرها ، فذلك ما رأت من قوّته وأمانته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ القَوِيّ الأَمِينُ قال : بلغنا أن قوته كانت سرعة ما أروى غنمهما . وبلغنا أنه ملأ الحوض بدلو واحد . وأما أمانته فإنه أمرها أن تمشي خلفه .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قالَتْ إحْداهُما : يا أبَتِ اسْتَأْجْرِهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينُ وهي الجارية التي دعته ، قال الشيخ : هذه القوّة قد رأيت حين اقتلع الصخرة ، أرأيت أمانته ، ما يدريك ما هي ؟ قالت : مشيت قدّامه فلم يحبّ أن يخونني في نفسي ، فأمرني أن أمشي خلفه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قالَتْ إحْدَاهُما : يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ القَوِي الأميِنُ فقال لها : وما عِلْمك بقوته وأمانته ، فقالت : أما قوّته فإنه كشف الصخرة التي على بئر آل فلان ، وكان لا يكشفها دون سبعة نفر . وأما أمانته فإني لما جئت أدعوه قال : كوني خَلْفَ ظهري ، وأشيري لي إلى منزلك ، فعرفت أن ذلك منه أمانة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قالَتْ يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينُ لما رأت من قوّته وقوله لها ما قال : أَنِ امشي خلفي ، لئلا يرى منها شيئا مما يكره ، فزاده ذلك فيه رغبة .