البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا يَـٰٓأَبَتِ ٱسۡتَـٔۡجِرۡهُۖ إِنَّ خَيۡرَ مَنِ ٱسۡتَـٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡأَمِينُ} (26)

{ قالت إحداهما } : أبهم القائلة ، وهي الذاهبة والقائلة والمتزوجة ، { يا أبت استأجره } : أي لرعي الغنم وسقيها .

ووصفته بالقوة : لكونه رفع الصخرة عن البئر وحده ، وانتزع بتلك الدلو ، وزاحمهم حتى غلبهم على الماء ؛ وبالأمانة : لأنها حين قام يتبعها هبت الريح فلفت ثيابها فوصفتها ، فقال : ارجعي خلفي ودليني على الطريق .

وقولها كلام حكيم جامع ، لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمر ، فقد تم المقصود ، وهو كلام جرى مجرى المثل ، وصار مطروقاً للناس ، وكان ذلك تعليلاً للاستئجار ، وكأنها قالت : استأجره لأمانته وقوته ، وصار الوصفان منبهين عليه .

ونظير هذا التركيب قول الشاعر :

ألا إن خير الناس حياً وهالكاً *** أسير ثقيف عندهم في السلاسل

جعل خير من استأجرت الاسم ، اعتناء به .

وحكمت عليه بالقوة والأمانة .

ولما وصفته بهذين الوصفين قال لها أبوها : ومن أين عرفت هذا ؟ فذكرت إقلاله الحجر وحده ، وتحرجه من النظر إليها حين وصفتها الريح ؛ وقاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم .

وقيل : قال لها موسى ابتداء : كوني ورائي ، فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ، ودليني على الطريق يميناً أو يساراً .

وقال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله : { عسى أن ينفعنا } وأبو بكر في عمر .

وفي قولها : { استأجره } ، دليل على مشروعية الإجارة عندهم ، وكذا كانت في كل ملة ، وهي ضرورة الناس ومصلحة الخلطة ، خلافاً لابن علية والأصم ، حيث كانا لا يجيزانها ؛ وهذا مما انعقد عليه الإجماع ، وخلافهما خرق .