فكما أنه تعالى يمن{[808]} عليهم ، بالخلق والرزق ، والنعم الظاهرة والباطنة ، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام ، ومنته عليهم بالإيمان ، أعظم{[809]} من كل شيء ، ولهذا قال تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
ثم أشار - تعالى - إلى نوع آخر من جفائهم وقلة إدراكهم فقال : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } .
والمن : تعداد النعم على الغير ، وهو مذموم من الخلق ، محمود من الله - تعالى - .
أى : هؤلاء الأعراب يعدون إيمانهم بك منة عليك ، ونعمة أسدوها إليك حيث قالوا لك : جئناك بالأموال والعيال ، وقاتلك الناس لوم نقاتلك . .
وقوله : { أَنْ أَسْلَمُواْ } فى موضع المفعول لقوله : { يَمُنُّونَ } لتضمينه معنى الاعتداء ، أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر . أى : يمنون عليك بإِسلامهم .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بما يدل على غفلتهم فقال : { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ . . } .
أى : قل لهم لا تتفاخروا علىَّ بسبب إسلامكم ، لأن ثمرة هذا الإِسلام يعود نفعها عليكم لا علىّ .
ثم بين - سبحانه - أن المنة له وحده فقال : { بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ . . } .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - ليس الأمر كما زعمتم من أن إِسلامكم يعتبر منّهَّ علىَّ ، بل الحق أن الله - تعالى - هو الذى يمن عليكم أن أرشدكم إلى الإِيمان ، وهداكم إليه ، وبين لكم طريقه ، فادعيتم أ ، كم آمنتم مع أنكم لم تؤمنوا ولكنكم أسلمتم فقط .
قال صاحب الكشاف : وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة ، وذلك أن الكائن من الأعاريب قد سماه الله إسلاما ، ونفى أن يكون - كما زعموا - إيمانا فلما منُّوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهم ، قال الله - تعالى - لرسوله : إن هؤلاء يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به .
ثم قال : بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه ، حيث هداكم للإِيمان - على ما زعمتم - وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ، ووفقتم له إن صح زعمكم ، وصدقت دعواكم . . وفى إضافة الإِسلام عليهم ، وإيراد الإِيمان غير مضاف ، مالا يخفى على المتأمل . .
وجواب الشرط فى قوله : { إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } محذوف ، يدل عليه ما قبله . أى : إن كنتم صادقين فى إيمانكم فاعتقدوا ، أن المنة إنماه ى لله - تعالى - علينكم ، حيث أرشدكم إلى الطريق الموصل إلى الإِيمان الحق .
وشبيه فى المعنى بهبذه الآية قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأنصار فى إحدى خطبه :
" يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بى ، وكنتم عالة فأغناكم الله بى ؟ " وكان - صلى الله عليه وسلم - كلما قال شيئا ، قالوا : الله ورسوله أَمَنُّ .
والحق أن هداية الله - تعالى - لعبده إلى الإِيمان تعتبر منة منه - سبحانه - لا تدانيها منه ، ونعمة لا تقاربها نعمة ، وعطاء ساميا جليلا منه - تعالى - لا يساميه عطاء فله - عز وجل - الشكر الذى لا تحصيه عبارة على النعمة ، ونسأله - تعالى - أن يديمها علينا حتى نلقاه .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يمنّ عليك هؤلاء الأعراب يا محمد أن أسلموا قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ يقول : بل الله يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول : إن كنتم صادقين في قولكم آمنا ، فإن الله هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له ، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم .
وذُكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد ، امتنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : آمنا من غير قتال ، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا ، فأنزل الله فيهم هذه الاَيات : ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير في هذه الاَية يَمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أْسْلَمُوا أهم بنو أسد ؟ قال : قد قيل ذلك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال : قلت لسعيد بن جُبَير يمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا أهم بنو أسد ؟ قال : يزعمون ذاك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، قال : كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد ، أو بشر بن عطارد ، ولبيد بن غالب عند الحجاج جالسين ، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد : نزلت في قومك بني تميم إنّ الّذِينَ يُنادُنَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ فذكرت ذلك لسعيد بن جُبير ، فقال : إنه لو علم بآخر الاَية أجابه يَمُنّونَ عَلْيَكَ أنْ أسْلَمُوا قالوا أسلمنا ولم نقاتلك بنو أسد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لا تَمُنّوا أنا أسلمنا بغير قتال لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قُلْ لهم لا تَمُنّوا عَليّ إسْلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمَانِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَمُنّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنّوا عَليّ إسْلامَكُمْ قال : فهذه الاَيات نزلت في الأعراب .
وقوله : { يمنون عليك أن أسلموا } نزلت في بني أسد أيضاً ، وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت محارب خصفة وهوازن غطفان وغيرهم ، فنزلت هذه الآية ، حكاه الطبري وغيره . وقرأ ابن مسعود : «يمنون عليك إسلامهم » . وقوله يحتمل أن يكون مفعولاً صريحاً . ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله .
وقوله : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } بزعمكم إذ تقولون آمنا ، فقد لزمكم أن الله مان عليكم ، ويدلك على هذا المعنى قوله : { إن كنتم صادقين } فتعلق عليهم الحكمان هم ممنون عليهم على الصدق وأهل أن يقولوا أسلمنا من حيث هم كذبة .
وقرأ ابن مسعود : «إذ هداكم » .
وقوله تعالى : { يمن عليكم } يحتمل أن يكون بمعنى : ينعم كما تقول : من الله عليك ، ويحتمل أن يكون بمعنى : يذكر إحسانه فيجيء معادلاً ل { يمنون عليك } ، وقال الناس قديماً : إذا كفرت النعمة حسنت المنة . وإنما المنة المبطلة للصدقة المكروهة ما وقع دون كفر النعمة .
استئناف ابتدائي أريد به إبطال ما أظهره بنو أسد للنبيء صلى الله عليه وسلم من مزيتهم إذ أسلموا من دون إكراه بغزو .
والمنّ : ذكر النعمة والإحسان ليراعيَه المحسَن إليه للذاكر ، وهو يكون صريحاً مثل قول سبرة بن عمرو الفقعسي :
أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مُسلم *** وقد سال من ذل عليك قراقر
ويكون بالتعريض بأن يذكر المان من معاملته مع الممنون عليه ما هو نافعه مع قرينة تدلّ على أنه لم يرد مجرد الإخبار مثل قول الراعي مخاطباً عبد الملك بن مروان :
فآزرت آل أبي خُبيب وافدا *** يوماً أريد لبيعتي تبديلا
أبو خبيب : كنية عبد الله بن الزبير .
وكانت مقالة بني أسد مشتملة على النوعين من المنّ لأنهم قالوا : ولم نقاتلك كما قاتلك محارب وغَطَفان وهوازن وقالوا : وجئناك بالأثقال والعيال .
و { أن أسْلَمُوا } منصوب بنزع الخافض وهو باء التعدية ، يقال : منّ عليه بكذا ، وكذلك قوله : { لا تمنوا على إسلامكم } إلا أن الأول مطرد مع { أنْ } و ( أن ) والثاني سماعي وهو كثير .
وهم قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم آمنَّا كما حكاه الله آنفاً ، وسماه هنا إسلاماً لقوله : { ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] أي أن الذي مَنُّوا به عليك إسلام لا إيمان . وأثبت بحرف { بَل } أن ما مَنُّوا به إن كان إسلاماً حقاً موافقاً للإيمان فالمنّة لله لأنْ هداهم إليه فأسلموا عن طواعية . وسماه الآن إيماناً مجاراة لزعمهم لأن المقام مقام كون المنّة لله فمناسبة مُسَابَرَة زعمهم أنهم آمنوا ، أي لو فرض أنكم آمنتم كما تزعمون فإن إيمانكم نعمة أنعم الله بها عليكم . ولذلك ذيله بقوله : { إن كنتم صادقين } فنفى أولاً أن يكون ما يمنّون به حقاً ، ثم أفاد ثانياً أن يكون الفضل فيما ادعوه لهم لو كانوا صادقين بل هو فضل الله .
وقد أضيف إسلام إلى ضميرهم لأنهم أتوا بما يسمى إسلاماً لقوله : { ولكن قولوا أسْلَمْنا } . وأُتي بالإيمان معرّفا بلام الجنس لأنه حقيقة في حدّ ذاته وأنهم ملابسوها .
وجيء بالمضارع في { يمنون } مع أن منَّهم بذلك حصل فيما مضى لاستحضار حالة منّهم كيف يمنون بما لم يفعلوا مثل المضارع في قوله تعالى : { ويسخرون من الذين آمنوا } في سورة البقرة ( 212 ) . وجيء بالمضارع في قوله : بل اللَّه يمن عليكم } لأنه مَنّ مفروض لأن الممنون به لمّا يقع . وفيه من الإيذان بأنه سيمنّ عليهم بالإيمان ما في قوله : { ولمَّا يدخُل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] ، وهذا من التفنن البديع في الكلام ليضع السامع كل فنّ منه في قَراره ، ومثلهم من يتفطن لهذه الخصائص .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة التقوية مثل : هو يعطي الجزيل ، كما مثَّل به عبد القاهر .