قوله تعالى : { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله } . عبيداً وملكاً .
قوله تعالى : { وإنا إليه راجعون } . في الآخرة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا محاضر ابن الموزع ، أخبرنا سعيد ، عن عمر بن كثير ، أنا أفلح ، أخبرنا مولى أم سلمة ، عن سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مصيبة تصيب عبداً فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها " إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها .
قالت أم سلمة : لما توفي أبو سلمة عزم الله لي فقلت : اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها . فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال سعيد بن جبير : ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة يعني الاسترجاع ، ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام . ألا تسمع إلى قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام ( يا أسفى على يوسف ) .
ثم وصفهم بقوله : { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره .
{ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ } أي : مملوكون لله ، مدبرون تحت أمره وتصريفه ، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء ، فإذا ابتلانا بشيء منها ، فقد تصرف أرحم الراحمين ، بمماليكه وأموالهم ، فلا اعتراض عليه ، بل من كمال عبودية العبد ، علمه ، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم ، الذي أرحم بعبده من نفسه ، فيوجب له ذلك ، الرضا عن الله ، والشكر له على تدبيره ، لما هو خير لعبده ، وإن لم يشعر بذلك ، ومع أننا مملوكون لله ، فإنا إليه راجعون يوم المعاد ، فمجاز كل عامل بعمله ، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده ، وإن جزعنا وسخطنا ، لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر ، فكون العبد لله ، وراجع إليه ، من أقوى أسباب الصبر .
ثم بعد أن بين - سبحانه - مواطن تضطرب فيها النفوس أردف ذلك بذكر عاقبة الصبر ، وجزائه الأسنى ، فقال : { وَبَشِّرِ الصابرين . الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } .
الخطاب في قوله : { وَبَشِّرِ } للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة .
والجملة عطف على { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } عطف المضمون على المضمون أي : الابتلاء حاصللكم وكذا البشارة لكن لمن صبر .
و { مُّصِيبَةٌ } اسم فاعل من الإِصابة ، والمرأ بها الآلأام الداخلة على النفس بسبب ما ينالها من الشدائد والمحن .
و { رَاجِعونَ } من الرجوع بمعنى مصير الشيء إلى ما كان عليه ، يقال : رجعت الدار إلى فلان إذا كلها مرة ثانية ، وهو نظير العود والمصير .
والمعنى : وبشر يا محمد بالرحمة العظيمة والإِحسان الجزيل ، أولئك الصابرين الذين من صفاتهم أنهم إذا نزلت بهم مصيبة ، في أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم ، أو غير ذلك ، قالوا : بألسنتهم وقلوبهم على سبيل التسليم المطلق لقضاء الله والرضا بقدره { إِنَّا للَّهِ } أي : إنا لله ملكا وعبودية ، والمالك يتصرف في ملكه ويقلبه من حال إلى حال كيف يشاء ، { وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } أي : وإنا إليه صائرون يوم القيامة فيجازينا على ما أمرنا به من الصبر والتسليم لقضائه عند نزول الشدائد التي ليس في استطاعتنا دفعها .
فقولهم : { إِنَّا للَّهِ } إقرار بالعبودية والملكية لله رب العالمين . وقولهم { وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } أي : وإنا إليه صائرون يوم القيامة فيجازينا على ما أمرنا به من الصبر والتسليم لقضائه عند نزول الشدائد التي ليس في استطاعتنا دفعها .
فقولهم : { إِنَّا للَّهِ } إقرار بالعبودية والملكية لله رب العالمين . وقولهم : { وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } إقرار بصحة البعث والحساب والثواب والعقاب يوم القيامة .
وليست هذه البشارة موجهة إلى الذين يقولون بألسنتهم هذا القول مع الجزع وعدم الرضا بالقضاء والقدر ، وإنما هذه البشارة موجهة إلى الذين يتلقون المصائب بالسكينة والتسليم لقضاء الله لأول حلولها ، يشير إلى هذا قوله- تعالى- : { الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ } فإنه يدل على أنهم يقولون ذلك وقت الإِصابة " ويصرح بهذا قوله صلى الله عليه وسلم " الصبر عند الصدمة الأولى " .
وهذه الجملة الكريمة وهي قوله - تعالى - : { الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم } . . إلخ وصف كريم لأولئك الصابرين ، لأنها أفادت أن صبرهم أكمل الصبر ، إذ هو صبر مقترن ببصيرة مستنيرة جعلتهم يقرون عن عقيدة صاقدة أنهم ملك لله يتصسرف فيهم كيف يشاء ، ومن ربط نفسه بعقيدة أنه ملك لله وأن المرجع إليه ، يكون بذلك قد هيأها للصبر الجميل عند كل مصيبة تفاجئه .
قال القرطبي : جعل الله هذه الكلمات وهي قوله - تعالى - { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } ملجأ لذوي المصائب ، وعصمة للممتحنين ، لما جمعت من المعاني المباركة ، فإن قوله { إِنَّا للَّهِ } توحيد وإقرار بالعبودية والملك وقوله { وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا ، واليقين أن رجعوا الأمر كله إلريه كما هو له . قال سعيد بن جبير : لم تعط هذه الكلمات نبياً قبل نبينا ، ولو عرفها يعقوب لما قال : يا أسفي على يوسف " .
هذا ، ولا يتنافى مع الصبر ما يكون من الحزن عند الحصول المصيبة ، فقد ورد في الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى عند موت ابنه إبراهيم وقال : العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " .
وإنما الذي ينافيه ويؤاخذ الإِنسان عليه ، الجزع المفضي إلى إنكار حكمة الله فيما نزل به من بأساء أو ضراء ، أو إلى فعل ما حرمه الإِسلام من نحو النياحة وشق الجيوب ، ولطم الخدود .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّهِ وَإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ }
يعني تعالى ذكره : وبشر يا محمد الصابرين ، الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني ، فيقرّون بعبوديتي ، ويوحدونني بالربوبية ، ويصدّقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي ، ويرجون ثوابي ويخافون عقابي ، ويقولون عند امتحاني إياهم ببعض محني ، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أن أبتليهم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا ممتحنهم بها . إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون تسليما لقضائي ورضا بأحكامي .
ثم وصف تعالى الصابرين الذين بشرهم بقوله { الذين إذا أصابتهم مصيبة } الآية ، وجعل هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب( {[1438]} ) وعصرة( {[1439]} ) للممتحنين لما جمعت من المعاني المباركة ، وذلك توحيد الله والإقرار له بالعبودية والبعث من القبور واليقين بأن رجوع الأمر كله إليه كما هو له ، وقال سعيد بن جبير : لم يعط هذه الكلمات نبي قبل نبينا ، ولو عرفها يعقوب لما قال يا أسفا على يوسف .
وروي أن مصباح رسول الله صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة فقال : { إنا لله وإنا إليه راجعون } ، فقيل : أمصيبة هي يا رسول الله ؟ فقال : «نعم كل ما آذى المؤمن فهي مصيبة »( {[1440]} ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت أهل المصيبة، فقال: {الذين إذا أصابتهم مصيبة}، يعني فيما ذكر من هذه الآية، {قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{الّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّهِ وَإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ}... يعني تعالى ذكره: وبشر يا محمد الصابرين، الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني، فيقرّون بعبوديتي، ويوحدونني بالربوبية، ويصدّقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثوابي ويخافون عقابي، ويقولون -عند امتحاني إياهم ببعض محني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم إن ابتليهم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا ممتحنهم بها-: إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون تسليما لقضائي ورضا بأحكامي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر الذين صبروا على المصائب التي امتحنهم بها عز وجل ولم يجزعوا عليها و (قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)؛ فيه الإقرار بوحدانيته عز وجل وبالبعث بعد الموت...، وقيل: إن هذا الحرف خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم، لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة. ألا ترى أن يعقوب عليه السلام على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه، ولكن قال: (يا أسفي على يوسف) [يوسف: 84]؟ ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره، فدل أنه مخصوص بهذه الأمة، والله أعلم... ثم الصبر هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت؛ إذ هو كله لله عز وجل مستعار عند الخلق، والجزع على فوت ما لغيره محال؛ ألا ترى إلى قوله عز وجل (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) [الحديد: 23] نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا؛ إذ هو، في الحقيقة، ليس لنا، وأن نفرح بما آتانا؛ إذ هو في الحقيقة لغيرنا. والله الموفق...
ثم الله عز وجل أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا لا بالكل؛ دل أنه عز وجل لم يقطع عليهم كل المخارج بل جعل لهم في كل نوع من ذلك مسلكا، وإن كان في ذلك [نقص وضرر]. وجائز بلوغ ذلك تمام ما في كل نوع، لكنه بلطفه قرب إليهم، فيما خوفهم وجه الرجاء. وعلى ذلك جميع أفعال ذي المحن: إنها مقرونة بالخوف والرجاء، وكذلك في أنفسهم، ولا قوة إلا بالله...
ثم إن الله دلهم على ما عليهم من الحق، فيما أخبر أنه يبلوهم به، بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل بمثله البذل بمن لا حق له، فكيف ومن له كلية ذلك؟ فقال الله تعالى: (وبشر الصابرين). ثم وصف الصابرين، فقال: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) هدى الله عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة؛ إذ جل التوحيد داخل في ذلك الحرف، وفيه التبري من أن يكون له في حكم الله أي رأي، وبذل النفس له ليحكم فيها بما شاء...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
"إنّا لله" إقرار منّا له بالملك. "وإنّا إليه راجعون" في الآخرة، إقرار على أنفسنا بالهلاك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والمصيبة هي المشقة الداخلة على النفس، لما يلحقها من مضرة، وهي من الإصابة، لأنها يصيبها بالبلية...
ومعنى الرجوع إلى الله: الرجوع إلى انفراده بالحكم كما كان أول مرة لأنه قد ملك قوما في الدنيا شيئا من الضر، والنفع لم يكونوا يملكونه، ثم يرجع الأمر إلى ما كان إذا زال تمليك العباد...
... قال القاضي: إنه تعالى لم يضف هذه المصيبة إلى نفسه بل عمم وقال: {الذين إذا أصابتهم مصيبة} فالظاهر أنه يدخل تحتها كل مضرة ينالها من قبل الله تعالى، وينالها من قبل العباد، لأن في الوجهين جميعا عليه تكليفا، وإن عدل عنه إلى خلافه كان تاركا للتمسك بأدائه فالذي يناله من قبله تعالى يجب أن يعتقد فيه أنه حكمة وصواب وعدل وخير وصلاح وأن الواجب عليه الرضا به وترك الجزع وكل ذلك داخل تحت قوله: {إنا لله} لأن في إقرارهم بالعبودية تفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به، لأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى: {والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء} أما إذا نزلت به المصيبة من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاف منه وأن يكظم غيظه وغضبه فلا يتعدى إلى ما لا يحل له من شفعاء غيظه، ويدخل أيضا تحت قوله: {إنا لله} لأنه الذي ألزمه سلوك هذه الطريقة حتى لا يجاوز أمره كأنه يقول في الأول، إنا الله يدبر فينا كيف يشاء، وفي الثاني يقول: إنا لله ينتصف لنا كيف يشاء.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"مصيبة" المصيبة: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والمصيبة: كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل، صغرت أو كبرت، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى: مصيبة... واشتملت الآية على فرض ونفل.
فالفرض: التسليم لأمر الله، والرضا بقدره، والصبر على أداء فرائضه.
والنفل: إظهاراً لقول {إنا لله وإنا إليه راجعون}، وفي إظهاره فوائد منها: غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله...
لأنه إذا علم العبد أنه وجميع أهله وماله ملك لله طابت نفسه وهانت عليه مصيبته (كما) قال صلى الله عليه وسلم للمرأة التي عزاها في ولدها « إن لله ما أخذ وله ما أبقى وأعطى ولكل أجل مسمى وكل إليه راجعون فاحتسبي واصبري فإنما الصبر عند أول الصدمة»...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وليس الصبرُ هو الاسترجاعُ باللسان بل بالقلب بأن يَتصوَّرَ ما خُلق له وأنه راجِعٌ إلى ربه ويتذكرَ نِعمَ الله تعالى عليه ويرى أن ما أبقى عليه أضعافُ ما استردّ منه، فيهونُ ذلك على نفسه ويستسلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولا ينافي الصبر والتثبت ما يكون من حزن الإنسان عند نزول المصيبة بل ذلك من الرحمة ورقة القلب، ولو فقد الإنسان هذه الرحمة لكان قاسيا لا يرجى خيره ولا يؤمن شره، وإنما الجزع المذموم هو الذي يحمل صاحبه على ترك الأعمال المشروعة لأجل المصيبة، والأخذ بعادات وأعمال مذمومة ضارة ينهي عنها الشرع، ويستقبحها العقل، كما نشاهد من جماهير الناس في المصائب والنوائب وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى عندما حضر ولده إبراهيم عليه السلام الموت وقيل له: أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ فأخبر أنها الرحمة وقال (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون) رواه الشيخان من حديث أنس، وفائدة الإخبار بالبلاء قبل وقوعه توطين النفس عليه واستعدادها لتحمله والاستفادة منه "ما من دهي بالأمر كالمعتد "هذا إن لم يقترن بالخبر إرشاد وتعليم، فكيف إذا اقترنت به هداية العزيز العليم؟...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده. لا يجد سندا إلا سنده. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات، وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر.. لا شيء إلا الله.. لا قوة إلا قوته.. لا حول إلا حوله.. لا إرادة إلا إرادته.. لا ملجأ إلا إليه.. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح.. والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق:
(وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وصفُ الصابرين بأنهم: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا} الخ لإفادة أن صبرهم أكمل الصبر إذ هو صبر مقترن ببصيرة في أمر الله تعالى إذ يعلمون عند المصيبة أنهم مِلْك لله تعالى يتصرف فيهم كيف يشاء فلا يجزعون مما يأتيهم، ويعلمون أنهم صائرون إليه فيثيبهم على ذلك...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والصبر المحمود في هذه الأحوال وغيرها هو الصبر الجميل الذي يكون من غير أنين وشكوى كصبر يعقوب عندما غاب ابنه يوسف إذ قال: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون 18} [يوسف]. وإنه مما يجعل الصبر جميلا لا أنين فيه ولا شكوى، ولا تململ مما أنزل الله تعالى أن يفوض أمره إلى الله تعالى، وأن يحيل المرجع والمآب إليه، وأن يعتقد أن كل شيء من الله تعالى، وأن إليه مرجع الأمور وعنده المستقر والمعاد، ولذا قال تعالى في حال الصابرين وقولهم عندما تصيبهم المصيبة وتنزل بهم النازلة لا قبل لهم بها: {إنا لله وإنا إليه راجعون}. وإن هذه الجملة فيها من كمال التفويض والاعتزاز بجلال الله تعالى والاطمئنان إلى قدرته ما يعلو بالنفس على الأنين والشكوى لغير الله تعالى العلي القدير...
وإن المصائب تجعل النفوس بعيدة عن الاستكبار فتطمئن إلى الضعفاء، ويتربى فيها الحلم، والعفو وكثرة الثواب بكثرة الصبر، {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب 10} [الزمر] وإن الصالحين لهذه المصائب وثمراتها من طهارة القلب وتنزيه النفس يفرحون ولا يكربون، وإن كانت تجعل غيرهم في كرب، وإنه إذا فرح شكره وإنها تمحص القلوب وتطهرها من الغطرسة والعتو... وإن الصالحين بتفويضهم أمورهم لله تعالى، وثقتهم بالله تعالى يعلمون أن وراء ما نزل من مصيبة ضرا لهم ولخيرهم {فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا 19} [النساء] وأن المصائب تفطم النفس عن الأشر، وتبعد عن الترف، ووراء الترف الظلم فيكون الاستماع للبشير النذير قال تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون 34} [سبأ]. وإن الرضا بقدر الله تعالى فيما ينزل من نوازل يجعل النفس في اطمئنان من الجزع والهلع، وبعد عن السخط والغضب...
وأخيرا إن المصائب تصقل النفوس، وتربي فيها قوة الاحتمال إن صبرت وفوضت، ورجت الثواب والفرج من الله تعالى، وفيها يكثر الدعاء لله تعالى، والدعاء مع العبادة، ولقد قال تعالى: {ادعوني أستجب لكم... 60} [غافر] وكان بعض الصالحين إذا ألم به مرض أو وصب دعا ربه أن يجعله يحس بنعمة المرض والسقم، إذ إنه يقربه من ربه فلا يطغى ولا يستغني بنفسه عن ربه...
وأي أمر يصيب الإنسان، إما أن يكون له دخل فيه، وعند ذلك لا يصح أن يجزع لأنه هو الذي جاء بالأمر المؤلم لنفسه، وإما أن تكون مصيبة لا دخل له بها، وحدثت له من غيره مثلا، وعند ذلك عليه أن يبحث عن سببها: أعدلا أم ظلما؟ إن كانت عدلا فهي قد جبرت الذنب، وإن كانت ظلما فسوف يقتص الله له ممن ظلمه. وعلى هذا فالمؤمن في كلتا الحالتين رابح...
إذن فالمؤمن يستقبل كل مصيبة متوقعا أن يأتي له منها خير. وعلى كل مؤمن أن يقيّم نفسه تقييما حقيقيا، (هل لي على الله حق؟ أنا مملوك لله وليس لي حق عنده، فما يجريه علي فهو يجريه في ملكه هو). ومن لا يعجبه ذلك فليتأب على أي مصيبة؛ ويقول لها: (لا تصيبيني)، ولن تستطيع درء أي مصيبة ومادمنا لا نستطيع أن نمنع وقوع المصائب والأحداث، فلنقبلها كمؤمنين لأن الحق سبحانه وتعالى يريد بنسبتنا إليه أن يعزّنا ويكرمنا. إنه يدعونا أن نقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون). إننا بهذا القول ننسب ملكيتنا إلى الله ونقبل ما حدث لنا... ولابد لنا هنا أن نأتي بمثال ولله المثل الأعلى هل رأيت إنسانا يفسد ملكه؟ أبداً. إن صاحب الملك يعمل كل ما يؤدي إلى الصلاح في ملكه، وإن رأى الناس في ظاهر الأمر أنه فساد، فما بالنا بالله سبحانه وتعالى ونحن ملك له، وهو سبحانه لا يعرّض ملكه أبداً للضرر، وإنما يقيمه على الحكمة والصلاح... فإذن، كل مصيبة يتعرض لها الإنسان يجب أن يقول عندها: (إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها)...