مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (156)

قوله تعالى : { الذين إذا أصابتهم قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } .

اعلم أنه تعالى لما قال : { وبشر الصابرين } بين في هذه الآية أن الإنسان كيف يكون صابرا ، وأن تلك البشارة كيف هي ؟ ثم في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن هذه المصائب قد تكون من فعل الله تعالى وقد تكون من فعل العبد ، أما الخوف الذي يكون من الله فمثل الخوف من الغرق والحرق والصاعقة وغيرها ، والذي من فعل العبد ، فهو أن العرب كانوا مجتمعين على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما الجوع فلأجل الفقر ، وقد يكون الفقر من الله بأن يتلف أموالهم ، وقد يكون من العبد بأن يغلبوا عليه فيتلفوه ، ونقص الأموال من الله تعالى إنما يكون بالجوائح التي تصيب الأموال والثمرات ، ومن العباد إنما يكون لأن القوم لاشتغالهم لا يتفرغون لعمارة الأراضي ، ونقص الأنفس من الله بالإماتة ومن العباد بالقتل .

المسألة الثانية : قال القاضي : إنه تعالى لم يضف هذه المصيبة إلى نفسه بل عمم وقال : { الذين إذا أصابتهم مصيبة } فالظاهر أنه يدخل تحتها كل مضرة ينالها من قبل الله تعالى ، وينالها من قبل العباد ، لأن في الوجهين جميعا عليه تكليفا ، وإن عدل عنه إلى خلافه كان تاركا للتمسك بأدائه فالذي يناله من قبله تعالى يجب أن يعتقد فيه أنه حكمة وصواب وعدل وخير وصلاح وأن الواجب عليه الرضا به وترك الجزع وكل ذلك داخل تحت قوله : { إنا لله } لأن في إقرارهم بالعبودية تفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به ، لأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى : { والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء } أما إذا نزلت به المصيبة من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاف منه وأن يكظم غيظه وغضبه فلا يتعدى إلى ما لا يحل له من شفعاء غيظه ، ويدخل أيضا تحت قوله : { إنا لله } لأنه الذي ألزمه سلوك هذه الطريقة حتى لا يجاوز أمره كأنه يقول في الأول ، إنا الله يدبر فينا كيف يشاء ، وفي الثاني يقول : إنا لله ينتصف لنا كيف يشاء .

المسألة الثالثة : أمال الكسائي في بعض الروايات من { إنا } ولام { لله } والباقون بالتفخيم وإنما جازت الإمالة في هذه الألف للكسرة مع كثرة الاستعمال ، حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة ، قال الفراء والكسائي : لا يجوز إمالة { إنا } مع غير اسم الله تعالى ، وإنما وجب ذلك لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها امتناع الإمالة وكذلك لا يجوز إمالة { حتى } و{ لكن } .

أما قوله : { إنا لله وإنا إليه راجعون } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال أبو بكر الوراق { إنا لله } إقرار منا له بالملك : { وإنا إليه راجعون } إقرار على أنفسنا بالهلاك ، واعلم أن الرجوع إليه ليس عبارة عن الانتقال إلى مكان أو جهة ، فإن ذلك على الله محال ، بل المراد أنه يصير إلى حيث لا يملك الحكم فيه سواه ، وذلك هو الدار الآخرة ، لأن عند ذلك لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا ، وما داموا في الدنيا قد يملك غير الله نفعهم وضرهم بحسب الظاهر ، فجعل الله تعالى هذا رجوعا إليه تعالى ، كما يقال : إن الملك والدولة يرجع إليه لا بمعنى الانتقال بل بمعنى القدرة وترك المنازعة .

المسألة الثانية : هذا يدل على أن ذلك إقرار بالبعث والنشور ، والاعتراف بأنه سبحانه سيجازي الصابرين على قدر استحقاقهم ، ولا يضيع عنده أجر المحسنين .

المسألة الثالثة : قوله : { إنا لله } يدل على كونه راضيا بكل ما نزل به في الحال من أنواع البلاء وقوله : { وإنا إليه راجعون } يدل على كونه في الحال راضيا بكل ما سينزل به بعد ذلك ، من إثابته على ما كان منه ، ومن تفويض الأمر إليه على ما نزل به ، ومن الانتصاف ممن ظلمه ، فيكون مذللا نفسه ، راضيا بما وعده الله به من الأجر في الآخرة .

المسألة الرابعة : الأخبار في هذا الباب كثيرة :

( أحدها ) : عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من استرجع عند المصيبة : جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه ) . ( وثانيها ) : روي أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إنا لله وإنا إليه راجعون » فقيل أمصيبة هي ؟ قال : نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة . ( وثالثها ) : قالت أم سلمة : حدثني أبو سلمة أنه عليه الصلاة والسلام قال : ( ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به من قوله : { إنا لله وإنا إليه راجعون } اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وعوضني خيرا منها إلا آجره الله عليها وعوضه خيرا منها ) قالت : فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت هذا القول : فعوضني الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام . ( ورابعها ) : قال ابن عباس : أخبر الله أن المؤمن إذا سلم لأمر الله تعالى ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال : الصلاة من الله ، والرحمة وتحقيق سبيل الهدى .

( وخامسها ) : عن عمر رضي الله عنه قال : نعم العدلان وهما : { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } ونعمت العلاوة وهي قوله : { وأولئك هم المهتدون } وقال ابن مسعود : لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى : ليته لم يكن .