الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (156)

فيه ست مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " مصيبة " المصيبة : كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه ، يقال : أصابه إصابة ومصابة ومصابا . والمصيبة واحدة المصائب . والمصوبة ( بضم الصاد ) مثل المصيبة . وأجمعت العرب على همز المصائب ، وأصله الواو ، كأنهم شبهوا الأصلي بالزائد ، ويجمع على مصاوب ، وهو الأصل . والمصاب الإصابة ، قال الشاعر :

أسُليم إن مصابَكم رجلا *** أهدى السلام تَحِيَّةً ظُلْمُ

وصاب السهم القرطاس يصيب صيبا ، لغة في أصابه . والمصيبة : النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت ، وتستعمل في الشر ، روى عكرمة أن مصباح رسول الله صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة فقال : " إنا لله وإنا إليه راجعون " فقيل : أمصيبة هي يا رسول الله ؟ قال : ( نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة ) .

قلت : هذا ثابت معناه في الصحيح ، خرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه{[1320]} إلا كفر به من سيئاته ) .

الثانية : خرج ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام ابن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب ) .

الثالثة : من أعظم المصائب المصيبة في الدين ، ذكر أبو عمر عن الفريابي قال حدثنا فطر بن خليفة حدثنا عطاء بن أبي رباح قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب ) . أخرجه السمرقندي أبو محمد في مسنده ، أخبرنا أبو نعيم قال : أنبأنا فطر . . . فذكر مثله سواء . وأسند مثله عن مكحول مرسلا . قال أبو عمر : وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة ، انقطع الوحي وماتت النبوة . وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك ، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه . قال أبو سعيد : ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا . ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول :

اصبر لكل مصيبة وتجلد *** واعلم بأن المرء غير مخلد

أو ما ترى أن المصائب جمة *** وترى المنية للعباد بمرصد

من لم يُصَب ممن ترى بمصيبة ؟ *** هذا سبيل لست فيه بأوحد

فإذا ذكرت محمدا ومصابه *** فاذكر مصابك بالنبي محمد

الرابعة : قوله تعالى : " قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون " جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب ، وعصمة للممتحنين : لما جمعت من المعاني المباركة ، فإن قوله : " إنا لله " توحيد وإقرار بالعبودية والملك . وقوله : " وإنا إليه راجعون " إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا ، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له . قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى : لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا ، ولو عرفها يعقوب لما قال : يا أسفى على يوسف .

الخامسة : قال أبو سنان : دفنت ابني سنانا ، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر ، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال : ألا أبشرك يا أبا سنان ، حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : فماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ) . وروى مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها ) . فهذا تنبيه على قوله تعالى : " وبشر الصابرين " [ البقرة : 155 ] إما بالخلف كما أخلف الله لأم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها . وإما بالثواب الجزيل ، كما في حديث أبي موسى ، وقد يكون بهما .


[1320]:قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: "قال القاضي: هو بضم الياء وفتح الهاء ما لم يسم فاعله، وضبطه غيره بفتح الياء وضم الهاء، أي يغمه، وكلاهما صحيح".