الآية 156 [ وقوله تعالى : ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) ]{[1780]} .
أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر الذين صبروا على المصائب التي امتحنهم بها عز وجل ولم يجزعوا عليها و( قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) ؛ فيه الإقرار بوحدانيته عز وجل وبالبعث بعد الموت ، وقيل : إن هذا الحرف خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم ، لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة . ألا ترى أن يعقوب عليه السلام على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه ، ولكن قال : ( يا أسفي على يوسف ) [ يوسف : 84 ] ؟ ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره ، فدل أنه مخصوص بهذه الأمة ، والله أعلم . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[1781]} قال : " من استرجع [ عند المصيبة ]{[1782]} جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضى به " [ الطبراني في الكبير : 13027 ] .
ثم الصبر هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت ؛ إذ هو كله لله عز وجل مستعار{[1783]} عند الخلق ، والجزع على فوت ما لغيره محال ؛ ألا ترى إلى قوله عز وجل ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) ؟ [ الحديد : 23 ] نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا ؛ إذ هو ، في الحقيقة ، ليس لنا ، وأن نفرح بما آتانا ؛ إذ هو في الحقيقة لغيرنا . والله الموفق .
{[1784]}[ [ وقوله تعالى ]{[1785]} : بشيء من الخوف والجوع ) : فهو على إضمار الشيء في كل حرف ؛ إذ هو بحق العطف على ما تقدم ، فكأنه قال : ( بشيء من الخوف ) وبشيء من الجوع ، ولا قوة إلا بالله .
ثم يتوجه إلى ما أخبر من البلوى إلى وجهين :
أحدهما : أن يبلوه بعبادة ، فيها ما ذكر .
والثاني : أن يبلوه بالذي ذكر لا على عبادة يدفع إليها{[1786]} ، وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد ، وفيه الخوف ، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به ، فيخاف عند ذلك على نفسه ، ( والجوع ) أن يبلوه بالصيام الذي فيه ذلك ، أو بقلة الأتراب وغلاء الأسعار ، ( ونقص من الأموال ) يكون في الجهاد والحج والزكاة والمؤن المجعولة في الأموال ، ويكون{[1787]} في الخسران في التجارات وما يلحق أنواع المكاسب{[1788]} من الحوائج ، ( والأنفس ) يكون بالجهاد ومحاربة الأعداء ، ويكون بأنواع الأمراض ، ( والثمرات ) ترجع إلى قلة الأنزال وقصور الأيدي عما به ينال ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه .
ثم الله عز وجل أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا لا بالكل ؛ دل أنه عز وجل لم يقطع عليهم كل المخارج بل جعل لهم في كل نوع من ذلك مسلكا ، وإن كان في ذلك [ نقص وضرر ]{[1789]} . وجائز بلوغ ذلك تمام ما في كل نوع ، لكنه بلطفه قرب إليهم ، فيما خوفهم وجه الرجاء . وعلى ذلك جميع أفعال ذي المحن : إنها مقرونة بالخوف والرجاء ، وكذلك في أنفسهم ، ولا قوة إلا بالله .
ثم إن الله دلهم على ما عليهم من الحق ، فيما أخبر أنه يبلوهم به ، بحرف البشارة والوعد الجزيل الذي يسهل /22-ب/ بمثله البذل بمن لا حق له ، فكيف ومن له [ كلية ذلك ]{[1790]} ؟ فقال الله تعالى : ( وبشر الصابرين ) . ثم وصف الصابرين ، فقال : ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) هدى الله عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة ؛ إذ جل التوحيد داخل في ذلك الحرف ، وفيه التبري من أن يكون له في حكم الله أي{[1791]} رأي ، وبذل النفس له ليحكم فيها بما شاء .
وقوله : ( إنا لله ) كأنه قال : ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير ، وأبدا يكون الحكم في كل ملك لمن يملكه ، وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما تكره .
وقوله : ( وإنا إليه راجعون ) فكأنه : إذ إليه مرجعنا ، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق ، بل التفريق علينا الإبقاء ، وفضل القبول منا البعض دون الكل . وفي ذلك تذكير النفس عاقبتها ليكون كمن يقدم شيئا مما به قوامه إلى مكان قراره ، وقد انتهى الخبر بالبلوغ ، فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه وأسكن لقلبه من أن يكون جميع ذلك معه ، وبالله التوفيق .
وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها{[1792]} ، ولكن ليكتسب بها الآخرة ، وجعل كل شيء منها زائلا فانيا لينال به الدائم الباقي . فهذا لأن حق كل فيما يصيبه ان يرى الذي أنشئ وماله ؛ يسعى فيعلم أنه بلغ في تجارته غايتها من الربح ، وأنه باع الشيء الفاني بالباقي ، مع ما كان كل شيء من الدنيا مؤوف{[1793]} بآفات الفناء والهلاك ، [ فأبدل المؤوف ]{[1794]} بالذي لا آفة فيه ، فيجب في التدبير ألا يعد ذا مصيبة ، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح ، لكن البشر جبل على طباع نافرة عن كل آلام ، جاعل بالعواقب التي لعلها يرغب فيها كل أحد ، لا أن ينفر عنها . والله المستعان .
فإن قال قائل : هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة إذ قال يعقوب : ( يا أسفى على يوسف ) الآية [ يوسف : 84 ] ، والله أعلم ، إن كان ، فهو موضع التلقين{[1795]} والتعليم : أن قولوا ذلك ، لا لأن{[1796]} هذا المعنى مما يحتمل أن يكون يعقوب لا يحققه ، بل حققه بقوله : ( فصبر جميل ) الآية{[1797]} [ يوسف : 83 ] وقوله : ( إنما أشكوا بثي وحزني ){[1798]} [ يوسف : 86 ] ، وهو مع ذلك قد كان بما أخبره يوسف وبما أوحى إليه أنه قد علم أنه لم يهلك بعد ، ولم يوجد منه [ الجزع ]{[1799]} إلى حين يرجع إليه من البعث بعد الموت . ولا قوة إلا بالله ] ]{[1800]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.