اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (156)

في قوله : " الَّذِينَ " أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ .

أحدُها : أَنْ يكُونَ منصوباً على النَّعْتِ للصابرين ، وهو الأَصُحّ .

الثَّانِي : أن يكون مَنْصُوباً على المدْحِ .

الثَّالِثُ : أن يكون مَرْفُوعاً على خبر مبتدأ محذوف ، أَيْ هُمُ الذينَ ، وحينئذٍ يحتمل أن يكون على القطع ، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ .

الرَّابُعُ : أَنْ يَكُون مُبْتَدأً ، والْجُمْلَةُ الشرطية مِنْ " إِذا " وَجَوابِهَا صلةٌ ، وخبرَهُ ما بعده مِنْ قولِه : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } .

قولُه تعالى : { أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } .

والمصيبةُ : [ كُلُّ ما يُؤذي المؤْمِنَ وَيصِيبُهُ ]{[1959]} ، يقالُ : أَصابَهُ إِصَابَة ومُصَابة ومُصَاباً .

والمصيبةُ : وَاحِدُ المَصَائب .

والمَصُوبَةُ " بضم الصَّادِ " مِثْلُ المصيبَةِ .

وأجمعتِ العربُ على هَمْزِ المَصَائب ، وأَصْلُهُ " الواو " ، كَأَنَّهم شَبَّهوا الأَصْلي بالزائد ويُجْمَعُ على " مصاوب " ، وهو الأصْلُ ، والمُصَابُ الإِصَابةُ ، قال الشاعر : [ الكامل ]

847 - أَسُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً *** أَهْدَى السَّلاَم تَحِيَّة طُلْمُ{[1960]}

وصَابً السَّهْمُ القِرْطاسَ يُصيبه صَيْبًا لغةٌ في أَصَابَهُ .

والمُصِيبَةُ : النَّكْبَةُ يُنْكَبُها الإنسانُ وإِنْ صَغُرَتْ ، وتستعمل في الشر .

قولهُ تعالى : " إِنَّا لِلَّهِ " إِنَّ وَاسْمَها وخَبَرَها في محلِّ نَصْبٍ بالقول ، والأصلُ : إِنَّنَا بثلاث نوناتٍ ، فحُذِفَتِ الأخيرةُ من " إِنَّ " لا الأُولَى ، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها ، ولأنها طرفٌ من الأطرافِ الأَوْلَى بالحذْفِ ، لا يُقالُ : إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانت مُخَفَّفةً ، والمخففةُ لا تعمل على [ الأَفْصَح ]{[1961]} فكان يَنْبَغِي أَنْ تُلْغَى ، فينفصل الضميرُ المرفوعُ حِينَئذٍ ، إذْ لاَ عَمَلَ لهَا فيه ، فدل عَدَمُ ذلك على أن المَحْذُوف النُّونُ الأُولَى لأن هذا الحذفَ حَذْفٌ لِتَوالِي الأَمْثَالِ لا ذلك الحذفُ المعْهُودُ في " إن{[1962]} " وأصابَتْهُمْ مُصيبةٌ من التَّجانُسِ المغاير ؛ إذْ إِحْدَى كَلِمتِي المادَّةِ اسمٌ والأُخْرَى فِعْلٌ ، ومثله : { أَزِفَتِ الآزِفَةُ } [ النجم : 57 ] { وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [ الواقعة : 1 ] .

فصل في الكلام على الآية .

قال بَعْضُهُم : " إِنَّا لِلَّهِ " إقرارٌ مِنَّا له بالمُلْكِ ، " وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " إِقْرارٌ على أنفُسنا بالهَلاَك ، لا بمعنى الانتِقَال إلى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فإن ذلك على اللَّه مُحَال ، بل المرادُ أنه يَصيرُ إلى حَيثُ لا يَمْلِكُ الحُكْمَ سواه ، وذلك هو الدَّارُ الآخرَةُ ؛ لأَنَّ عند ذلك لا يَمْلكُ لهم أحدٌ نفعاً ولا ضرّاً ، وما دَامُوا في الدنيا ، قَدْ يَمْلِكُ غيرُ اللَّهِ نفعَهُمْ وضرهم بحسب الظاهِر ، فجعل اللَّهُ - تعالى - هذا رُجُوعاً إليه تعالى ، كما يُقالُ : إن المُلْكَ والدولة ترجعُ إليه لاَ بمعنى الانْتِقَالِ بل بمعنى القُدْرة ، وترك المُنَازَعةِ .

وقال بعضهم : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } في الآخرة .

[ رُويَ عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ : " مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيْبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ ، وأَحْسَنَ عُقْبَاهُ ، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضاه " {[1963]} .

وروي أنه طُفِئ سِرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجُعونَ } . فقال : " إنا لله وإنّا إليه راجعون " ، فقيل : مُصِيبَةٌ هِيَ ؟ قال : " نَعَمْ ، كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِي المُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيْبَةٌ{[1964]} "

وقالت أُمُّ سَلَمَةَ : حدثني أَبُو سَلَمَةَ ، أنه عليه الصلاةُ والسلامُ قال : " مَا مِنْ مُسْلِمِ يُصابُ مُصِيْبَةً فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ أُجُرْنِيّ فِي مُصِيْبَتي ، وأخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْها " قالت : فلما توفي أَبُو سَلَمَة ذكرت هذا الحِديثَ ، وقلتُ هذا القولَ ، فأخلف اللَّهُ لِيَ محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وشرف ، وكرم ، ومجد وبجل ، وعظم{[1965]} .

وقال ابنُ عَبَّاس : أخبر اللَّهُ - تعالى - أن المُؤْمِنَ إِذَا أَسْلَمَ أَمْرَه لِلَّهِ ، واسترجَعَ عند مُصَيبَتِهِ كتب اللَّهُ له ثَلاثَ خِصَالٍ : الصَّلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى{[1966]} .

وقال ابنُ مَسْعُودٍ : لأن أَخِرَّ من السماء أحبّ إليّ مِنْ أن أقول لشيءٍ قضاه اللَّهُ : لَيْتَهُ لَمْ يَكُن ]{[1967]} .

قال أَبُو بَكْرٍ الرازي : اشتملت الآيةُ الكرِيمَةُ على حُكْمين فَرْضٍ ونَفْل .

أَمَّا الفَرْضُ فهو التَّسْلِيمُ لأمرِ الله تعالى ، والرِّضَا بِقَضَائِهِ ، والصبرُ على أداءِ فَرَائِضِه ، لا يصرف عنها مصائب الدنيا .

وأما النَّفْل فإظهاراً لقولِ : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .

[ ذكَرُوا من قولِ هذه الكَلِمةِ فَوائِدَ .

منها : الاشتغالُ بهذه الكلمةِ عن كَلاَم لا يليق .

ومنها : أنها تُسلّي قلبَ المُصَابِ ، وتقلّلُ حُزْنَه .

ومنها : تقطَعُ طمع الشَّيْطَانِ في أَنْ يُوَافِقَهُ في كَلاَمٍ لا يَلِيقُ .

ومنها أَنَّهُ إذا سمعه غيرُه اقْتَدَى به .

ومنها : أنه إذا قال بلسَانِه في قَلْبِه الاعتقادَ الحَسَن ، فإنَّ الحِسَابَ عند المُصِيبَةِ ، فكان هذا القَوْل مذكراً له التَّسْليم لِقَضَاءِ الله وقدره ]{[1968]} .

فإن في إظهاره فوائد جزيلة :

منها أن غيره يقتدي به إذا سمعه .

ومنها غبط الكفار ، وعلمهم بجده واجتهاد في دين الله ، والثبات عليه وعلى طاعته .

وحكي عن بَعْضِهِم أنه قال : الزهدُ في الدنيا ألاّ يُحِبَّ البقاءَ فِيهَا ، وأفضَلُ الأعمالِ الرضا عن الله ، ولا ينبَغِي لِلْمُسلِم أن يحزن ؛ لأنه يَعْلَمُ أَنَّ لكلِّ مصيبة ثواباً .


[1959]:-في أ: كما تؤذي المؤمن وتصيبه.
[1960]:- البيت للحارث بن خالد المخزومي ينظر ديوانه: ص 91، والاشتقاق: ص 99، 151، والأغاني: 9/225، وخزانة الأدب: 1/454، والدرر: 5/258، ومعجم ما استعجم: ص 504، وللعرجي ينظر ديوانه: ص 193، ودرة الغواص: ص 96، ومغني اللبيب: 2/538، وللحارث أو للعرجي في إنباه الرواة: 1/284، وشرح التصريح: 2/64، وشرح شواهد المغني: 2/892، والمقاصد النحوية: 3/502، ولأبي دهبل الجمحي في ديوانه: ص 66، والأشباه والنظائر: 6/ 226، وأوضح المسالك: 3/210، وشرح الأشموني: 2/336، وشرح شذور الذهب: ص 527، وشرح عمدة الحافظ: ص 731، ومجالس ثعلب: ص 270، ومراتب النحويين: ص 127، وهمع الهوامع: 2/94.
[1961]:- في أ: الصحيح.
[1962]:- في أ: وقال الكسائي في بعض النون في "أن"، و"لام" "لله" والباقون بالتفخيم، وإنما جازت الإمالة في "هذه"؛ للكسرة مع كثرة الاستعمال، حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة قال الفراء والكسائي: لا يجوز إمالة "إنّ" مع غير اسم الله تعالى، وإنما وجب ذلك؛ لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها امتناع الإمالة، وكذلك لا يجوز إمالة "حتى" و "لكن".
[1963]:- أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/255) والطبري في "التفسير" (2/26). والحديث أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/334) وقال: وفيه علي بن أبي طلحة وهو ضعيف. وذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/337) وذكره أيضا المتقي الهندي في "كنز العمال" (3/300) رقم (6650) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس.
[1964]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/288) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في "العزاء" عن عكرمة.
[1965]:- أخرجه ابن ماجه (1/509) رقم (1598).
[1966]:- أخرجه الطبري (3/ 223)، والطبراني في "الكبير" كما في مجمع الزوائد (2/ 330-331) للهيثمي. وقال الهيثمي: وفيه علي بن أبي طلحة وهو ضعيف. والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/285) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس.
[1967]:- سقط في ب.
[1968]:- سقط في ب.