في قوله : " الَّذِينَ " أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ .
أحدُها : أَنْ يكُونَ منصوباً على النَّعْتِ للصابرين ، وهو الأَصُحّ .
الثَّانِي : أن يكون مَنْصُوباً على المدْحِ .
الثَّالِثُ : أن يكون مَرْفُوعاً على خبر مبتدأ محذوف ، أَيْ هُمُ الذينَ ، وحينئذٍ يحتمل أن يكون على القطع ، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ .
الرَّابُعُ : أَنْ يَكُون مُبْتَدأً ، والْجُمْلَةُ الشرطية مِنْ " إِذا " وَجَوابِهَا صلةٌ ، وخبرَهُ ما بعده مِنْ قولِه : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } .
قولُه تعالى : { أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } .
والمصيبةُ : [ كُلُّ ما يُؤذي المؤْمِنَ وَيصِيبُهُ ]{[1959]} ، يقالُ : أَصابَهُ إِصَابَة ومُصَابة ومُصَاباً .
والمصيبةُ : وَاحِدُ المَصَائب .
والمَصُوبَةُ " بضم الصَّادِ " مِثْلُ المصيبَةِ .
وأجمعتِ العربُ على هَمْزِ المَصَائب ، وأَصْلُهُ " الواو " ، كَأَنَّهم شَبَّهوا الأَصْلي بالزائد ويُجْمَعُ على " مصاوب " ، وهو الأصْلُ ، والمُصَابُ الإِصَابةُ ، قال الشاعر : [ الكامل ]
847 - أَسُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً *** أَهْدَى السَّلاَم تَحِيَّة طُلْمُ{[1960]}
وصَابً السَّهْمُ القِرْطاسَ يُصيبه صَيْبًا لغةٌ في أَصَابَهُ .
والمُصِيبَةُ : النَّكْبَةُ يُنْكَبُها الإنسانُ وإِنْ صَغُرَتْ ، وتستعمل في الشر .
قولهُ تعالى : " إِنَّا لِلَّهِ " إِنَّ وَاسْمَها وخَبَرَها في محلِّ نَصْبٍ بالقول ، والأصلُ : إِنَّنَا بثلاث نوناتٍ ، فحُذِفَتِ الأخيرةُ من " إِنَّ " لا الأُولَى ، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها ، ولأنها طرفٌ من الأطرافِ الأَوْلَى بالحذْفِ ، لا يُقالُ : إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانت مُخَفَّفةً ، والمخففةُ لا تعمل على [ الأَفْصَح ]{[1961]} فكان يَنْبَغِي أَنْ تُلْغَى ، فينفصل الضميرُ المرفوعُ حِينَئذٍ ، إذْ لاَ عَمَلَ لهَا فيه ، فدل عَدَمُ ذلك على أن المَحْذُوف النُّونُ الأُولَى لأن هذا الحذفَ حَذْفٌ لِتَوالِي الأَمْثَالِ لا ذلك الحذفُ المعْهُودُ في " إن{[1962]} " وأصابَتْهُمْ مُصيبةٌ من التَّجانُسِ المغاير ؛ إذْ إِحْدَى كَلِمتِي المادَّةِ اسمٌ والأُخْرَى فِعْلٌ ، ومثله : { أَزِفَتِ الآزِفَةُ } [ النجم : 57 ] { وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [ الواقعة : 1 ] .
قال بَعْضُهُم : " إِنَّا لِلَّهِ " إقرارٌ مِنَّا له بالمُلْكِ ، " وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " إِقْرارٌ على أنفُسنا بالهَلاَك ، لا بمعنى الانتِقَال إلى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فإن ذلك على اللَّه مُحَال ، بل المرادُ أنه يَصيرُ إلى حَيثُ لا يَمْلِكُ الحُكْمَ سواه ، وذلك هو الدَّارُ الآخرَةُ ؛ لأَنَّ عند ذلك لا يَمْلكُ لهم أحدٌ نفعاً ولا ضرّاً ، وما دَامُوا في الدنيا ، قَدْ يَمْلِكُ غيرُ اللَّهِ نفعَهُمْ وضرهم بحسب الظاهِر ، فجعل اللَّهُ - تعالى - هذا رُجُوعاً إليه تعالى ، كما يُقالُ : إن المُلْكَ والدولة ترجعُ إليه لاَ بمعنى الانْتِقَالِ بل بمعنى القُدْرة ، وترك المُنَازَعةِ .
وقال بعضهم : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } في الآخرة .
[ رُويَ عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ : " مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيْبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ ، وأَحْسَنَ عُقْبَاهُ ، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضاه " {[1963]} .
وروي أنه طُفِئ سِرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجُعونَ } . فقال : " إنا لله وإنّا إليه راجعون " ، فقيل : مُصِيبَةٌ هِيَ ؟ قال : " نَعَمْ ، كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِي المُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيْبَةٌ{[1964]} "
وقالت أُمُّ سَلَمَةَ : حدثني أَبُو سَلَمَةَ ، أنه عليه الصلاةُ والسلامُ قال : " مَا مِنْ مُسْلِمِ يُصابُ مُصِيْبَةً فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ أُجُرْنِيّ فِي مُصِيْبَتي ، وأخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْها " قالت : فلما توفي أَبُو سَلَمَة ذكرت هذا الحِديثَ ، وقلتُ هذا القولَ ، فأخلف اللَّهُ لِيَ محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وشرف ، وكرم ، ومجد وبجل ، وعظم{[1965]} .
وقال ابنُ عَبَّاس : أخبر اللَّهُ - تعالى - أن المُؤْمِنَ إِذَا أَسْلَمَ أَمْرَه لِلَّهِ ، واسترجَعَ عند مُصَيبَتِهِ كتب اللَّهُ له ثَلاثَ خِصَالٍ : الصَّلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى{[1966]} .
وقال ابنُ مَسْعُودٍ : لأن أَخِرَّ من السماء أحبّ إليّ مِنْ أن أقول لشيءٍ قضاه اللَّهُ : لَيْتَهُ لَمْ يَكُن ]{[1967]} .
قال أَبُو بَكْرٍ الرازي : اشتملت الآيةُ الكرِيمَةُ على حُكْمين فَرْضٍ ونَفْل .
أَمَّا الفَرْضُ فهو التَّسْلِيمُ لأمرِ الله تعالى ، والرِّضَا بِقَضَائِهِ ، والصبرُ على أداءِ فَرَائِضِه ، لا يصرف عنها مصائب الدنيا .
وأما النَّفْل فإظهاراً لقولِ : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .
[ ذكَرُوا من قولِ هذه الكَلِمةِ فَوائِدَ .
منها : الاشتغالُ بهذه الكلمةِ عن كَلاَم لا يليق .
ومنها : أنها تُسلّي قلبَ المُصَابِ ، وتقلّلُ حُزْنَه .
ومنها : تقطَعُ طمع الشَّيْطَانِ في أَنْ يُوَافِقَهُ في كَلاَمٍ لا يَلِيقُ .
ومنها أَنَّهُ إذا سمعه غيرُه اقْتَدَى به .
ومنها : أنه إذا قال بلسَانِه في قَلْبِه الاعتقادَ الحَسَن ، فإنَّ الحِسَابَ عند المُصِيبَةِ ، فكان هذا القَوْل مذكراً له التَّسْليم لِقَضَاءِ الله وقدره ]{[1968]} .
منها أن غيره يقتدي به إذا سمعه .
ومنها غبط الكفار ، وعلمهم بجده واجتهاد في دين الله ، والثبات عليه وعلى طاعته .
وحكي عن بَعْضِهِم أنه قال : الزهدُ في الدنيا ألاّ يُحِبَّ البقاءَ فِيهَا ، وأفضَلُ الأعمالِ الرضا عن الله ، ولا ينبَغِي لِلْمُسلِم أن يحزن ؛ لأنه يَعْلَمُ أَنَّ لكلِّ مصيبة ثواباً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.