البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (156)

{ الذين إذا أصابتهم مصيبة } : يجوز في الذين أن يكون منصوباً على النعت للصابرين ، وهو ظاهر الإعراب ، أو منصوباً على المدح ، فيكون مقطوعاً ، أو مرفوعاً على إضمارهم على وجهين : إما على القطع ، وإما على الاستئناف ، كأنه جواب لسؤال مقدر ، أي : من الصابرون ؟ قيل : هم الذين الذين إذا .

وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ ، وأولئك عليهم خبره ، وهو محتمل .

مصيبة : اسم فاعل من أصابت ، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه ، وصارت كناية عن الداهية ، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل .

وأصابتهم مصيبة : من التجنيس المغاير ، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً ، ومنه : { أزفت الآزفة } { إذا وقعت الواقعة } والمصيبة : كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل ، صغرت أو كبرت ، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى : مصيبة .

وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه .

والمعنى في إذا هنا : على التكرار والعموم .

وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إذا ، أتدل على التكرار ، أم وضعت للمرّة الواحدة ؟ قولان للنحويين .

{ قالوا إنا لله } : قالوا : جواب إذا ، والشرط وجوابه صلة للذين .

وإنا : أصله إننا ، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل ، فحذفت نون من إن .

وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية ، لأنها ظرف ، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت ، فقالوا : إن زيد لقائم ، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال ، فلذلك عملت ، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة ، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل ، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير .

ولله : معناه الإقرار بالملك والعبودية لله ، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور .

{ وإنا إليه راجعون } : إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب ، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصير له .

وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين أقوال : أحدها : أن نفوسنا وأموالنا وأهلينا لله لا يظلمنا فيما يصنعه بنا .

الثاني : أسلمنا الأمر لله ورضينا بقضائه ، { وإنا إليه راجعون } يعني : للبعث لثواب المحسن ومعاقبة المسيء .

الثالث : راجعون إليه في جبر المصاب وإجزال الثواب .

الرابع : أن معناه إقرار بالمملكة في قوله : { إنا لله } ، وإقرار بالهلكة في قوله : { وإنا إليه راجعون } .

وفي المنتخب ما ملخصه : إن إسناد الإصابة إلى المصيبة ، لا إلى الله تعالى ، ليعم ما كان من الله ، وما كان من غيره .

فما كان من الله فهو داخل تحت قوله : { إنا لله } ، لأن في الإقرار بالعبودية تفويضاً للأمور إليه ، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف منه ، ولا يتعدى ، كأنه في الأول { إنا لله } ، يدبر كيف يشاء ، وفي الثاني : { إنا إليه } ، ينصف لنا كيف يشاء .

وقيل : { إنا لله } ، دليل على الرضا بما نزل به في الحال ، { وإنا إليه راجعون } ، دليل على الرضا في الحال بكل ما سينزل به بعد ذلك .

واشتملت الآية على فرض ونفل .

فالفرض : التسليم لأمر الله ، والرضا بقدره ، والصبر على أداء فرائضه .

والنفل : إظهاراً لقول { إنا لله وإنا إليه راجعون } ، وفي إظهاره فوائد منها : غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله .

/خ157