قوله عز وجل { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً } قرأ أبو عمرو بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، واختلفوا في هؤلاء .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عمرو ابن محمد الناقد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ابن مالك رضي الله عنهم : أن ثمانين رجلاً من أهل مكة ، هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأخذوا سباياً فاستحياهم ، وأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } قال عبد الله بن مغفل المزني : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره ، وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح ، فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا ، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : جئتم في عهد ؟ أو جعل لكم أحد أماناً ؟ فقالوا : اللهم لا ، فخلى سبيلهم ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية " .
{ 24-25 } { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }
يقول تعالى ممتنا على عباده بالعافية ، من شر الكفار ومن قتالهم ، فقال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ } أي : أهل مكة { عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } أي : من بعد ما قدرتم عليهم ، وصاروا تحت ولايتكم بلا عقد ولا عهد ، وهم نحو ثمانين رجلا ، انحدروا على المسلمين ليصيبوا منهم غرة ، فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم ، فتركوهم ولم يقتلوهم ، رحمة من الله بالمؤمنين إذ لم يقتلوهم ، { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } فيجازي كل عامل بعمله ، ويدبركم أيها المؤمنون بتدبيره الحسن .
ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة من نعمه التى أنعمها عليهم فى رحلتهم هذه التى انتهت بصلح الحديبية فقال : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ . . } .
والمراد ببطن مكة : الحديبية ، وسميت بذلك لأنها قريبة من مكة . أى : وهو - سبحانه - الذى منع المشركين - بقدرته وحكمته من مهاجمتكم والاعتداء عليكم ، ومنعكم من مهاجمتهم وقتالهم ، فى هذا المكان القريب من مكة ، وكان ذلك بعد أن نصركم عليهم ، وجعلكم أعلى منهم فى القوة والحجة والثبات ، وكان - سبحانه - وما زال { بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .
وقد ذكروا فى هذا الظفر روايات منها ما أخرجه الإِمام مسلم وغيره عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية ، هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه . ثمانون رجلا من أهل مكة فى السلاح ، من قبل جل التنعيم ، يريدون غرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عليهم ، فأخذوا فعفا عهم ، فنزلت هذه الآية .
فالآية الكريمة تذكير من الله - تعالى - لعباده المؤمنين ، بجانب من نعمه عليهم ، ورحمته بهم . وهو تذكير يتعلق بأمور شاهدوها بأعينهم ، وعاشوا أحداثها ، وعند ما يأتى التذكير بالأمور المشاهدة المحسوسة ، يكون أدعى إلى الشكر لله - عز وجل - .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .
يقول تعالى ذكره لرسوله صلى الله عليه وسلم : والذين بايعوا الرضوان ، وهو الذي كف أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يعني أن الله كفّ أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالحديبية يلتمسون غِرّتَهُمْ ليصيبوا منهم ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم أسرى ، فخلى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن عليهم ولم يقتلهم فقال الله للمؤمنين : وهو الذي كفّ أيدي هؤلاء المشركين عنكم ، وأيديكم عنهم ببطن مكة ، من بعد أن أظفركم عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الاَثار ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي يقول : أخبرنا الحسين بن واقد ، قال : ثني ثابت البناني ، عن عبد الله بن مغفل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في أصل شجرة بالحُدَيبية ، وعلى ظهره غصن من أغصان الشجرة فرفعتها عن ظهره ، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه وسهيل بن عمرو ، وهو صاحب المشركين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ : «اكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَن الرّحِيمِ » ، فأمسك سُهَيل بيده ، فقال : ما نعرف الرحمن ، اكتب في قضيتنا ما نعرف . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اكْتُبْ باسْمِكَ اللّهُم » ، فكتب ، فقال : «هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة » ، وفأمسك سُهيل بيده ، فقال : لقد ظلمناك إن كنت رسولاً ، اكتب في قضيتنا ما نعرف قال : «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأنا رسول الله » ، فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح ، فثاروا في وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ الله بأبصارهم ، فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلْ خَرَجْتُمْ فِي أمان أحَد » ، قال : فخلى عنهم ، قال : فأنزل الله وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُم عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ منْ بَعْدِ أنْ أظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن ثابت ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحُديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن ، وكان غصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فرفعته عن ظهره ، ثم ذكر نحو حديث محمد بن عليّ ، عن أبيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : ثني من لا أتهم . عن عكرِمة ، مولى ابن عباس ، أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليصيبوا من أصحابه أحدا ، فأخذوا أخذا ، فأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل . قال ابن حميد ، قال سلمة ، قال ابن إسحاق : ففي ذلك قال : وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . الآية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أقبل معتمرا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين ، فأرسلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذلك الإظفار ببطن مكة .
حدثنا محمد بن سنان القزّاز ، قال : حدثنا عبيد الله ابن عائشة ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهل مكة ، هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم ، فأنزل الله وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . إلى آخر الآية .
حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . الآية ، قال : بطن مكة الحديبية يقال له رهم : اطلع الثنية من الحديبية ، فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً ، فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار ، فقال لهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «هل لكم عليّ عهد ؟ هل لكم عليّ ذمة » ، قالوا : لا فأرسلهم ، فأنزل الله في ذلك القرآن وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُم عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . إلى قوله : بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا .
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القُمّيّ ، عن جعفر ، عن ابن أبزي ، قال : لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهدي ، وانتهى إلى ذي الحليفة ، قال له عمر : يا نبيّ الله ، تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع ، قال : فبعث إلى المدينة فلم يدع بها كراعا ولا سلاحا إلا حمله فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل ، فسار حتى أتى منى ، فنزل بمنى ، فأتاه عينه أن عكرِمة بن أبي جهل قد خرج علينا في خمس مئة ، فقال لخالد بن الوليد : «يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل » ، فقال خالد : أنا سيف الله وسيف رسوله ، فيومئذٍ سُمي سيف الله ، يا رسول الله ، ارم بي حيث شئت ، فبعثه على خيل ، فلقي عكرِمة في الشّعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة حتى أدخله حيطان مكة ، فأنزل الله وَهُوَ الّذي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ . . . إلى قوله عَذَابا أليما قال : فكفّ الله النبيّ عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية أن تطأهم الخيل بغير علم .
وقوله : وكانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا يقول تعالى ذكره : وكان الله بأعمالكم وأعمالهم بصيرا لا يخفى عليه منها شيء .
وقوله تعالى : { وهو الذي كف أيديهم } الآية ، روي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً ، فلذلك اختصرته فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم خالد بن الوليد وسماه حينئذ سيف الله في جملة من المسلمين ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة ، فسيقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم ، فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب وكف أيدي المسلمين عنهم بالنهي في بيوت مكة وغيرها وذلك هو «بطن مكة » . وقال قتادة : أسر النبي الله صلى الله عليه وسلم هذه الجملة بالحديبية عند عسكره ومن عليهم ، وذلك هو «بطن مكة » . قال النقاش : الحرام كله { مكة } ، والظفر عليهم هو أسر من أسر منهم ، وباقي الآية تحريض على العمل الصالح ، لأن من استشعر أن الله يبصر عمله أصلحه .
وقرأ الجمهور من القراء : «بما تعملون » بالتاء على الخطاب . وقرأ أبو عمرو وحده : «بما يعملون » بالياء على ذكر الكفار وتهددهم .