السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ عَنۡهُم بِبَطۡنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعۡدِ أَنۡ أَظۡفَرَكُمۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا} (24)

قوله تعالى : { وهو الذي كف } أي : وحده { أيديهم } أي : الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم . فإنّ الكف مشروع لكل أحد { عنكم وأيديكم } أيها المؤمنون { عنهم ببطن مكة } أي : بالحديبية وقيل التنعيم . وقيل وادي مكة . وقيل : داخل مكة { من بعد أن أظفركم } أي : أظهركم { عليهم } وهذا تبيين لما تقدّم من قوله تعالى : { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار } [ الفتح : 22 ] بتقدير أنه كما كف أيديهم عنكم بالفرار وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم روى ثابت عن أنس بن مالك «أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخذهم سلماً فاستحياهم فنزلت هذه الآية » . وقال عبد الله بن مغفل المزني : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله أبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أماناً قالوا : اللهم لا فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وعن ابن عباس أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت وقيل : إن ذلك كان يوم فتح مكة وبه استشهد أبو حنيفة على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحاً { وكان الله } أي : المحيط بالجلال والإكرام أزلاً وأبداً وقرأ { بما يعملون } أبو عمرو : بالياء التحتية أي الكفار . والباقون بالتاء الفوقية ، أي : أنتم { بصيرا } أي : محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره .