قوله تعالى : { قال رب إني وهن } ، ضعف ورق ، { العظم مني } ، من الكبر . قال قتادة : اشتكى سقوط الأضراس ، { واشتعل الرأس } ، أي : ابيض شعر الرأس ، { شيباً } ، شمطاً ، { ولم أكن بدعائك رب شقياً } ، يقول : عودتني الإجابة فيما مضى ولم تخيبنى . وقيل : معناه لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ولم أشق بترك الإيمان .
{ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ْ }أي : وهى وضعف ، وإذا ضعف العظم ، الذي هو عماد البدن ، ضعف غيره ، { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ْ } لأن الشيب دليل الضعف والكبر ، ورسول الموت ورائده ، ونذيره ، فتوسل إلى الله تعالى بضعفه وعجزه ، وهذا من أحب الوسائل إلى الله ، لأنه يدل على التبري من الحول والقوة ، وتعلق القلب بحول الله وقوته .
{ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ْ } أي : لم تكن يا رب تردني خائبا ولا محروما من الإجابة ، بل لم تزل بي حفيا ولدعائي مجيبا ، ولم تزل ألطافك تتوالى علي ، وإحسانك واصلا إلي ، وهذا توسل إلى الله بإنعامه عليه ، وإجابة دعواته السابقة ، فسأل الذي أحسن سابقا ، أن يتمم إحسانه لاحقا .
ثم بين - سبحانه - ما نادى به زكريا ربه فقال : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي . . . } والوهن : الضعف . يقال : وهن الجسم يهن - من باب وعد - إذا ضعف .
وخص العظم بالذكر ، لأنه دعامة البدن ، وعماد الجسم ، وبه قوامه ، فإذ ضعف كان غيره من أجزاء الجسم أضعف . وإفراد لفظ العظم لإرادة الجنس .
{ واشتعل الرأس شَيْباً } والمراد باشتعال الرأس شيبا : انتشار بياض الشيب فيه . والألف واللام فى لفظ { الرأس } قاما مقام المضاف إليه .
والمراد : واشتعل رأسى شيباً ، وهذا يدل على تقدم السن ، كما يشهد له قوله - تعالى - { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وقوله - عز وجل - : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر . . } قال صاحب الكشاف : " شبه الشيب بشواظ النار فى بياضه وإنارته وانتشاره فى الشعر . . . باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومبته وهو الرأس ، وأخرج الشيب مميزا ولم يضف إلى الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا ، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة . . . " .
وقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } أى : ولم أكن فيما مضى من عمرى مخيب الدعاء وإنما تعودت منك يا إليهى إجابة دعائى ، وما دام الأمر كذلك فأجب دعائى فى الزمان الآتى من عمرى ، كما أجبته فى الزمان الماضى منه .
فأنت ترى أن زكريا - عليه السلام - قد أظهر فى دعائه أسمى ألوان الأدب مع خالقه ، حيث توسل إليه - سبحانه - بضعف بدنه ، وبتقدم سنه ، وبما عوده إياه من إجابة دعائه فى الماضى .
وقوله : قالَ رَبّ إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي يقول تعالى ذكره ، فكان نداؤه الخفيّ الذي نادى به ربه أن قال : رَبّ إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي يعني بقوله وَهَنَ ضعف ورقّ من الكبر ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قالَ رَبّ إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي أي ضعف العظم مني .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَهَنَ العَظْمُ مِنّي قال : نَحَل العظم . قال عبد الرزاق ، قال : الثوريّ : وبلغني أن زكريا كان ابن سبعين سنة .
وقد اختلف أهل العربية في وجه النصب في الشّيْب ، فقال بعض نحويّي البصرة : نصب على المصدر من معنى الكلام ، كأنه حين قال : اشتعل ، قال : شاب ، فقال : شَيْبا على المصدر . قال : وليس هو في معنى : تفقأت شحما وامتلأت ماء ، لأن ذلك ليس بمصدر . وقال غيره : نصب الشيب على التفسير ، لأنه يقال : اشتعل شيبُ رأسي ، واشتعل رأسي شيبا ، كما يقال : تفقّأت شحما ، وتفقّأ شحمي .
وقوله : ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبّ شَقِيّا يقول : ولم أشق يا ربّ بدعائك ، لأنك لم تخيب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك ، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قبلك . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قوله : ولَمْ أكُنْ بدُعائِكَ رَبّ شَقِيّا يقول : قد كنت تعرّفني الإجابة فيما مضى .
{ قال رب إني وهن العظم مني } تفسير للنداء والوهن الضعف ، وتخصيص العظم لأنه دعامة البدن وأصل بنائه ولأنه أصلب ما فيه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن وتوحيد لأن المراد به الجنس وقرئ و{ هن } و{ وهن } بالضم والكسر ونظيره كمل بالحركات الثلاث { واشتعل الرأس شيبا } شبه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار وانتشاره وفشوه في الشعر باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة وأسند الاشتعال إلى الرأس الذي هو مكان الشيب مبالغة وجعله مميزا إيضاحا للمقصود ، واكتفى باللام على الإضافة للدلالة على أن علم المخاطب بتعين المراد يغني عن التقيد { ولم أكن بدعائك رب شقيا } بل كلما دعوتك استجبت لي وهو توسل بما سلف معه من الاستجابة ، وتنبيه على أن المدعو له وإن لم يكن معتادا فإجابته معتادة ، وأنه تعالى عوده بالإجابة وأطمعه فيها ، ومن حق الكريم أن لا يخيب من أطمعه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.