59- والله هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وقد استولي على العرش والملكوت وعم سلطانه كل شيء ، وهو الرحمن ، وإن ابتغيت أن تعرف شيئاً من صفاته فاسأل الخبير عنه يجبك وهو الله العليم الحكيم{[160]} .
قوله تعالى : { الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، الرحمن فاسأل به خبيراً } بالرحمن . قال الكلبي : يقول فاسأل الخبير بذلك ، يعني : بما ذكرنا من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش . وقيل : الخطاب للرسول والمراد منه غيره لأنه كان مصدقاً به ، والمعنى : أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم بهذا إلى غيري . وقيل : " الباء " بمعنى عن ، أي : فاسأل عنه خبيراً وهو الله عز وجل . وقيل : جبريل عليه السلام .
وإنما ذلك كله بيد الله { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى } بعد ذلك { عَلَى الْعَرْشِ } الذي هو سقف المخلوقات وأعلاها وأوسعها وأجملها { الرَّحْمَنِ } استوى على عرشه الذي وسع السماوات والأرض باسمه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات ، بأوسع الصفات . فأثبت بهذه الآية خلقه للمخلوقات واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم وعلوه فوق العرش ومباينته إياهم .
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } يعني بذلك نفسه الكريمة فهو الذي يعلم أوصافه وعظمته وجلاله ، وقد أخبركم بذلك وأبان لكم من عظمته ما تستعدون به من معرفته فعرفه العارفون وخضعوا لجلاله ،
{ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } من هواء وأجرام لا يعلمها إلا هو - سبحانه - .
{ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } من أيامه التى لا يعلم مقدار زمانها إلا هو - عز وجل - { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } استواء واستعلاء يليق بذاته ، بلا كيف أو تشبيه أو تمثيل ، كما قال الإمام مالك - رحمه الله - : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . ولفظ " ثم " فى قوله { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } لا يدل على الترتيب الزمنى وإنما يدل على بعد الرتبة ، رتبة الاستواء والاستعلاء والتملك .
وقوله : { الرحمن } أى : هو الرحمن . أى : صاحب الرحمة العظيمة الدائمة بعباده . والفاء فى قوله - تعالى - : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } هى الفصيحة . والجار والمجرور صلة " اسأل " وعدى الفعل " اسأل " بالباء لتضمنه معنى الاعتناء ، والضمير يعود إلى ما سبق ذكره من صفات الله - تعالى - ، ومن عظيم قدرته ورحمته .
والمعنى : لقد بينا لك مظاهر قدرتنا ووحدانيتا ، فإن شئت الزيادة فى هذا الشأن أو غيره ، فسأل قاصدا بسؤالك ربك الخبير بأحوال كل شىء خبرة مطلقة ، يستوى معها ما ظهر من أمور الناس وما خفى منها .
قال الإمام ابن جرير : وقوله - تعالى - : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } يقول : فاسأل يا محمد بالرحمن خبيرا بخلقه ، فإنه خالق كل شىء ولا يخفى عليه ما خلق ، فعن ابن جريج : قوله : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } . قال : يقول - سبحانه - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتك شيئا فاعلم أنه كلما أخبرتك فأنا الخبير . والخبير فى قوله { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } منصوب على الحال من الهاء التى فى قوله { بِهِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ الرّحْمََنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وَتَوَكّلَ عَلى الحَيّ الّذهي لا يَمُوتُ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما فِي سَتّةِ أيّامٍ فقال : وَما بَيْنَهُما ، وقد ذكر السموات والأرض ، والسموات جماع ، لأنه وجه ذلك إلى الصنفين والشيئين ، كما قال القطامي :
ألَمْ يَحْزُنْكَ أنّ حِبالَ قَيْسٍ *** وَتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انْقِطاعا
يريد : وحبال تغلب فثنى ، والحبال جمع ، لأنه أراد الشيئين والنوعين .
وقوله : فِي سِتّةِ أيّامٍ قيل : كان ابتداء ذلك يوم الأحد ، والفراغ يوم الجمعة ثُمّ اسْتَوَى عَلى الْعَرْشِ الرّحمنُ يقول : ثم استوى على العرش الرحمن وعلا عليه ، وذلك يوم السبت فيما قيل . وقوله : فاسأَلْ بِهِ خَبِيرا يقول : فاسأل يا محمد خبيرا بالرحمن ، خبيرا بخلقه ، فإنه خالق كلّ شيء ، ولا يخفى عليه ما خلق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله فاسأَلْ بِهِ خَبِيرا قال : يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتك شيئا ، فاعلم أنه كما أخبرتك ، أنا الخبير والخبير في قوله : فاسأَلْ بِهِ خَبِيرا منصوب على الحال من الهاء التي في قوله به .
{ الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن } قد سبق الكلام فيه ، ولعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقا بأن يتوكل عليه من حيث إنه الخالق للكل والمتصرف فيه ، وتحريض على الثبات والتأني في الأمر فإنه تعالى مع كمال قدرته وسرعة نفاذ أمره في كل مراد خلق الأشياء على تؤدة وتدرج ، و{ الرحمن } خبر للذي إن جعلته مبتدأ ولمحذوف إن جعلته صفة للحي ، أو بدل من المستكن في { استوى } وقرىء بالجر صفة للحي . { فسئل به خبيرا } فاسأل عما ذكر من الخلق والاستواء عالما يخبرك بحقيقته وهو الله تعالى ، أو جبريل أو من وجده في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه ، وقيل الضمير { للرحمن } والمعنى إن أنكروا إطلاقه على الله تعالى فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون { الرحمن } مبتدأ والخبر ما بعده والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالياء لتضمنه معنى الاعتناء . وقيل إنه صلة { خبيرا } .