اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ ٱلرَّحۡمَٰنُ فَسۡـَٔلۡ بِهِۦ خَبِيرٗا} (59)

قوله تعالى : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } الآية . لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور منها : أنه حي لا يموت ، وأنه عالم بجميع المعلومات بقوله{[36474]} { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً }{[36475]} [ الفرقان : 58 ] ومنها أنه قادر على كل الممكنات ، وهو قوله : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } وهذا متصل بقوله : { الحي الذي لاَ يَمُوتُ }{[36476]} [ الفرقان : 58 ] لأنه سبحانه لما كان خالقاً للسموات والأرض ولكل ما بينهما ثبت أنه القادر على جميع المنافع ودفع المضار ، وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه{[36477]} . و «الَّذِي خَلَقَ » يجوز أن يكون مبتدأ ، و «الرَّحْمَنُ » خبره{[36478]} ، وأن يكون خبر مبتدأ مقدر ، أي : هو الذي خلق{[36479]} ، وأن يكون منصوباً بفعل مضمر{[36480]} ، وأن يكون صفة للحي الذي لا يموت{[36481]} ، أو بدلاً ، أو بياناً هذا على قراءة «الرَّحْمَنُ » بالرفع ومن قرأه بالجر{[36482]} فيتعين أن يكون «الَّذِي خَلَقَ » صفة للحي فقط{[36483]} .

قوله : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } فيه{[36484]} سؤال ، وهو أن الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات فقيل السموات لا أيام{[36485]} ، فكيف قال : خلقها في ستة أيام ؟

والجواب : في مدة مقدارها ( هذه المدة ) {[36486]} ، لا يقال : الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة{[36487]} لا يكون عدماً محضاً بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك{[36488]} يقتضي قدم الزمان ، لأنا نقول : هذا معارض بنفس الزمان ، لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل بخمسة أيام والمدة المتوهمة المحتملة لخمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى ، فلما لم يلزم من هذا قدم الزمان لم يلزم ما قلتموه ، وعلى هذا نقول{[36489]} لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام . وقيل : في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة . وهو بعيد ، لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول{[36490]} . فإن قيل : لم قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار ؟

فالجواب على قول أهل السنة المشيئة والقدرة كافية للتخصيص ، وقالت المعتزلة : لا بد وأن يكون من حكمة وهو أن التخصيص بهذا المقدار أصلح ، وهذا بعيد لوجهين :

الأول : أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجباً لذاته أو جائزاً ، فإن كان واجباً وجب أن لا يتغير فيكون حاصلاً في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سبباً لزمان معين ، وإن كان جائزاً افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ، ولزم التسلسل .

والثاني : أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعوراً به كيف يقدح في حصول المصالح{[36491]} .

واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة ، فإنه بحر لا ساحل له ، كتقدير ملائكة النار بتسعة عشر ، وحملة العرش بثمانية ، والسموات بالسبع ، وعدد الصلوات ، ومقادير النصب في الزكوات ، وكذا الحدود ، والكفارات ، فالإقرار بكل ما قال الله حق هو الدين ، والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء ، وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } [ المدثر : 31 ] ثم قال : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وهو الجواب أيضاً في أنه لِمَ لَمْ يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك . وعن سعيد بن جبير : إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت . وقيل : ثم خلقها في يوم الجمعة فجعله الله عيداً للمسلمين{[36492]} .

قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } لا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة ؛ لأن أوصاف الله لم تزل ، فلا يصح دخول «ثُمَّ » فيه . ولا على الاستقرار ، لأنه يقتضي التغيير الذي هو دليل الحدوث ، ويقتضي التركيب ، وكل ذلك على الله محال ، بل المراد أنه خلق العرش ورفع{[36493]} .

فإن قيل : يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء }{[36494]} [ هود : 7 ] .

فالجواب : كلمة «ثُمَّ » ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات{[36495]} .

قوله : «الرَّحْمَنُ » قرأ العامة بالرفع ، وفيه أوجه :

أحدها : أنه خبر «الَّذِي »{[36496]} ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : الرحمن{[36497]} ، ولهذا أجاز الزجاج{[36498]} وغيره{[36499]} الوقف على العرش ثم يبدأ الرحمن ، أي : هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له ، أو يكون بدلاً من الضمير في «استوى »{[36500]} أو يكون مبتدأ وخبره الجملة من قوله «فَاسْأَلْ »{[36501]} على رأي الأخفش{[36502]} كقوله :

وَقَائِلَةٍ خوْلاَنُ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ{[36503]} *** . . .

أو يكون صفة الذي خلق{[36504]} ، إذا قلنا : إنه مرفوع .

وقرأ زيد بن علي «الرَّحْمَنِ » بالجر فيتعين أن يكون نعتاً للذي خلق و «الَّذِي خَلَقَ » صفة للحي فقط ، لئلا يفصل بين النعت ومنعوته بأجنبي{[36505]} .

قوله : «فَاسْأَلْ بِهِ » في الباء قولان : أحدهما : هي على بابها ، وهي متعلقة بالسؤال ، والمراد ب «الخَبِير » الله تعالى ، ويكون من التجريد{[36506]} ، كقولك : لقيت به أسداً والمعنى فاسأل الله الخبير بالأشياء .

قال الزمخشري : أو فاسأل{[36507]} بسؤاله خبيراً كقولك : رأيت به أسداً ، أي برؤيته{[36508]} انتهى . قال الكلبي : فاسأل خبيراً{[36509]} به ، فقوله : «به » يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والاستواء على العرش ، والباء من صلة الخبير ، وذلك الخبير هو الله تعالى ؛ لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض ، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى{[36510]} ، ف «خَبِيراً » مفعول «اسْأَل »{[36511]} على هذا ، أو منصوب على الحال المؤكدة{[36512]} ، واستضعفه أبو البقاء .

قال : ويضعف أن يكون «خَبِيراً » حالاً من فاعل «اسْأَلْ » ؛ لأن «الخبير » لا يسأل إلا على جهة التوكيد كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] . ثم قال : ويجوز أن يكون حالاً من «الرَّحْمَنُ » إذا رفعته ب «اسْتَوَى »{[36513]} . والثاني : أن تكون الباء بمعنى «عن »{[36514]} إما مطلقاً وإما مع السؤال{[36515]} خاصة كهذه الآية الكريمة ، وكقول علقمة بن عبدة :

فإنْ تَسَْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإنَّنِي{[36516]} *** خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ{[36517]}

والضمير في «به » لله تعالى ، و «خَبِيراً » من صفات الملك وهو جبريل قال ابن عباس : إن ذلك الخبير هو جبريل - عليه السلام - وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم{[36518]} وهو قول الزجاج{[36519]} والأخفش{[36520]} . ويجوز على هذا أي : كون «خَبِيراً » من صفات جبريل ، أن تكون الباء على بابها ، وهي متعلقة ب «خبير » كما تقدم ، أي : فاسأل الخبراء به .

وقال ابن جرير : الباء في «بِهِ » صلة ، والمعنى : فاسأله خبيراً و «خَبِيراً »{[36521]} نصب على الحال{[36522]} . وقيل : قوله : «بِهِ » يجري مجرى القسم كقوله : { واتقوا الله الذي تَسَاءَلُونَ بِهِ } {[36523]} [ النساء : 1 ] .


[36474]:في ب: فهو له. وهو تحريف.
[36475]:من الآية السابقة.
[36476]:من الآية السابقة.
[36477]:انظر الفخر الرازي 24/103.
[36478]:انظر الكشاف 3/102، البيان 2/207، التبيان 2/989، البحر المحيط 6/508.
[36479]:انظر التبيان 2/989، البحر المحيط 6/508.
[36480]:تقديره: أعني. المرجعان السابقان.
[36481]:فيكون في موضع جر. انظر البحر المحيط 6/508.
[36482]:وهي قراءة زيد بن علي بن الحسين. انظر تفسير ابن عطية 11/59، البحر المحيط 6/508.
[36483]:لئلا يفصل بين النعت ومنعوته بأجنبي. انظر البحر المحيط 6/508.
[36484]:فيه: سقط من ب.
[36485]:في ب: لا أيام في.
[36486]:ما بين القوسين سقط من ب.
[36487]:في ب: فالتجزئة.
[36488]:في ب: والذي.
[36489]:في ب: نقول.
[36490]:انظر الفخر الرازي 24/103 – 104.
[36491]:المرجع السابق 24/104.
[36492]:انظر الفخر الرازي 24/104.
[36493]:المرجع السابق.
[36494]:من قوله تعالى: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [هود: 7].
[36495]:انظر الفخر الرازي 24/104 – 105.
[36496]:تقدم قريبا.
[36497]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/73، إعراب القرآن للنحاس 3/165، الكشاف 3/102، البيان 2/207، التبيان 2/989، البحر المحيط 6/508.
[36498]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج.
[36499]:وهو أبو البقاء. انظر التبيان 2/989.
[36500]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/73، إعراب القرآن للنحاس 3/165، الكشاف 3/102، البيان 2/207، التبيان 2/989.
[36501]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/73، إعراب القرآن للنحاس 3/165، البيان 2/207.
[36502]:لأنه يجوز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقا. انظر معاني القرآن 1/265.
[36503]:صدر بيت من بحر الطويل، وعجزه: وأكرومة الحيين خلو كما هيا. لم يعرف قائله وهو في معاني القرآن للأخفش 1/247، الكتاب 1/165، 143، 3/178، ابن يعيش 1/100، 8/95، اللسان (هلا) المغني 1/165، 2/483، المقاصد النحوية 2/539، التصريح 1/299، الهمع 1/110، شرح شواهد المغني 1/468.
[36504]:انظر البحر المحيط 6/508.
[36505]:تقدم قريبا.
[36506]:وهو من المحسنات البديعية، وهو: أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله في تلك الصفة، مبالغة في كمالها فيه. انظر الإيضاح (374).
[36507]:في ب: إذا سأل.
[36508]:الكشاف 3/102.
[36509]:في ب: به خبيرا به.
[36510]:انظر الفخر الرازي 24/105، البحر المحيط 6/508 – 509.
[36511]:انظر تفسير ابن عطية 11/60، الكشاف 3/102.
[36512]:انظر تفسير ابن عطية 11/60.
[36513]:التبيان 2 /989.
[36514]:انظر البيان 2/207، التبيان 2/989.
[36515]:من معاني الباء المجاوزة كـ "عن" فقيل: تختص بالسؤال، نحو (فاسأل به خبيرا) بدليل {يسألون عن أنبائكم} [الأحزاب: 20]، وقيل: لا تختص به بدليل قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} [الحديد: 12]. انظر المغني 1/104، الهمع 2/22.
[36516]:في ب: فإني.
[36517]:البيت من بحر الطويل قاله علقمة بن عبدة. وقد تقدم.
[36518]:انظر الفخر الرازي 24/105، البحر المحيط 6/509.
[36519]:قال الزجاج: (والمعنى فاسأل عنه خبيرا) انظر معاني القرآن وإعرابه 4/73.
[36520]:انظر البحر المحيط 19/19.
[36521]:في ب: وخبير.
[36522]:جامع البيان 19/19.
[36523]:[النساء: 1]. وانظر الفخر الرازي 24/105.