قوله تعالى : { الذي أحسن كل شيء خلقه } قرأ نافع وأهل الكوفة : { خلقه } بفتح اللام على الفعل وقرأ الآخرون بسكونها ، أي : أحسن خلق كل شيء ، قال ابن عباس : أتقنه وأحكمه . قال قتادة : حسنه . وقال مقاتل : علم كيف يخلق كل شيء ، من قولك : فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه . وقيل : خلق كل حيوان على صورته لم يخلق البعض على صورة البعض ، فكل حيوان كامل في خلقه حسن ، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح به معاشه . { وبدأ خلق الإنسان من طين } يعني آدم .
{ الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } أى : الذى أحكم وأتقن كل شئ خلقه وأوجده فى هذا الكون ، لأنه - سبحانه - أوجده على النحو الذى تقتضيه حكمته ، وتستدعيه مصلحة عباده .
قال الشوكانى : وقرأ الجمهور { خلَقه } - بفتح اللام - على أنه فعل ماض صفة لشئ ، فهو فى محل جر . أو صفة للمضاف فيكون فى محل نصب .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ابن عامر : { خلْقه } - بسكون اللام - وفى نصبه أوجه : الأول : أن يكون بدلاً من { كُلَّ شَيْءٍ } بدل اشتمال ، والضمير عائد على كل شئ ، وهذا هو المشهور . .
والمراد بالإِنسان فى قوله - تعالى - : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ } آدم - عليه السلام - ، أى وبدأ خلق أبيكم آدم من طين ، فصار على أحسن صورة ، وأبدع شكل
وقوله : الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قراء مكة والمدينة والبصرة : «أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ » بسكون اللام . وقرأه بعض المدنيين وعامة الكوفيين : أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بفتح اللام .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى ، وذلك أن الله أحكم خلقه ، وأحكم كل شيء خلَقه ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أتقن كلّ شيء وأحكمه . ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا الحسين بن إبراهيم إشكاب ، قال : حدثنا شريك ، عن خَصيف عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال : أما إن است القرد ليست بحسنة ، ولكن أحكم خلقها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو النضر ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدّب ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤها : الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال : أما إن است القرد ليست بحسنة ، ولكنه أحكمها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال : أتقن كلّ شيء خلقه .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ : أحصى كلّ شيء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذي حسن خلق كل شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حسن على نحو ما خلق .
وذُكر عن الحجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن الأعرج ، عن مجاهد قال : هو مثل أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثم هَدَى قال : فلم يجعل خلق البهائم في خلق الناس ، ولا خلق الناس في خلق البهائم ولكن خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أعلم كل شيء خلقه ، كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه ، وأن قوله أحْسَنَ إنما هو من قول القائل : فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال : أعطى كلّ شيء خلقه ، قال : الإنسان إلى الإنسان ، والفرس للفرس ، والحمار للحمار . وعلى هذا القول ، الخَلْق والكلّ منصوبان بوقوع أحسن عليهما .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب على قراءة من قرأه الّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ بفتح اللام قول من قال : معناه أحكم وأتقن ، لأنه لا معنى لذلك إذ قرىء كذلك إلاّ أحد وجهين : إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التحسين الذي هو في معنى الجمال والحُسن فلما كان في خلقه ما لا يشكّ في قُبحه وسماجته ، علم أنه لم يُعن به أنه أحسن كلّ ما خلق ، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته . وأما على القراءة الأخرى التي هي بتسكين اللام ، فإن أولى تأويلاته به قول من قال : معنى ذلك أعلم وألهم كلّ شيء خلقه ، هو أحسنهم ، كما قال الّذِي أعْطَى كُلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَى لأن ذلك أظهر معانيه . وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه بمعنى : الذي أحسن خلق كلّ شيء ، فإنه جعل الخلق نصبا بمعنى التفسير ، كأنه قال : الذي أحسن كلّ شيء خلقا منه . وقد كان بعضهم يقول : هو من المقدّم الذي معناه التأخير ، ويوجهه إلى أنه نظير قول الشاعر :
وَظَعْنِي إلَيْك اللّيْل حِضْنَيْهِ أنّنِي *** لِتِلْكَ إذَا هابَ الهِدَانُ فَعُولُ
يعني : وظعني حضني الليل إليك ونظير قول الاَخر :
كأنّ هِنْدا ثَناياها وبَهْجَتَها *** يَوْمَ الْتَقَيْنا عَلى أدْحالِ دَبّاب
وقوله : وَبَدأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِينٍ يقول تعالى ذكره : وبدأ خلق آدم من طين ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ يعني ذرّيته من سلالة ، يقول : من الماء الذي انسلّ فخرج منه . وإنما يعني من إراقة من مائه ، كما قال الشاعر :
فجاءتْ بهِ عَضْبَ الأدِيمِ غَضَنْفَرا *** سُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غيرَ حَصِينِ
وقوله : مِنْ ماءٍ مَهينٍ يقول : من نطفة ضعيفة رقيقة . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَبَدأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِينٍ وهو خلق آدم ، ثم جعل نسله : أي ذرّيته من سلالة من ماء مهين ، والسلالة : هي الماء المهين الضعيف .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن أبي يحيى الأعرج ، عن ابن عباس ، في قوله مِنْ سُلالَةِ قال : صفو الماء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مِنْ ماءٍ مَهِينٍ قال : ضعيف نطفة الرجل ، ومهين : فعيل من قول القائل : مهن فلان ، وذلك إذا زلّ وضعف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.