التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ} (7)

خبر آخر عن اسم الإشارة أو وصف آخر ل { عالم الغيب } [ السجدة : 6 ] ، وهو ارتقاء في الاستدلال مشوبٌ بامتنان على الناس أنْ أحْسنَ خلقهم في جملة إحسان خلق كل شيء وبتخصيص خلق الإنسان بالذكر . والمقصود : أنه الذي خلق كل شيء وخاصة الإنسان خلقاً بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً ، وأخرج أصله من تراب ثم كوَّن فيه نظام النسل من ماء ، فكيف تعجزه إعادة أجزائه .

والإحسان : جعل الشي حَسناً ، أي محموداً غير معيب ، وذلك بأن يكون وافياً بالمقصود منه فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي ؛ فصلابة الأرض مثلاً للسير عليها ، ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس ، وتوجه لهيب النار إلى فوقُ لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يميناً وشمالاً لكثرت الحرائق فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق .

وقوله { خَلَقَه } قرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بصيغة فعل المضي على أن الجملة صفة ل { شيء } أي : كل شيء من الموجودات التي خلقها وهم يعرفون كثيراً منها . وقرأه الباقون بسكون اللام على أنه اسم هو بدل من { كل شيء } بدل اشتمال . وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلْق الإنسان لأن في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل .

و { الإنسان } أُريد به الجنس ، وبَدْءُ خلقه هو خلق أصله آدم كما في قوله تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ الأعراف : 11 ] ، أي : خلقنا أباكم ثم صورناه ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم . ويدل على هذا المعنى هنا قوله : { ثم جَعَل نسله من سلالة } فإن ذلك بُدِىء من أول نسل لآدم وحواء ، وقد تقدم خلْق آدم في سورة البقرة . و { من } في قوله { مِن طِين } ابتدائية .