الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ} (7)

قوله : { الَّذِي أَحْسَنَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً لِما قبله في قراءتَيْ الرفع والخفض ، وأن يكونَ خبراً آخرَ ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، وأن يكونَ منصوباً على المدح .

قوله : " خَلَقَه " قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بسكونِ اللام . والباقون بفتحها . فأمَّا الأُولى ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ " خَلْقَه " بدلاً مِنْ " كلَّ شيء " بدلَ اشتمالٍ مِنْ " كلَّ شيءٍ " ، والضميرُ عائدٌ على كل شيء . وهذا هو المشهورُ المتداوَلُ . الثاني : أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل ، والضميرُ على هذا عائدٌ على الباري تعالى . ومعنى " أحسن " : /حَسَّن ؛ لأنه ما مِنْ شيءٍ خَلَقَه إلاَّ وهو مُرَتَّبٌ على ما تَقْتَضيه الحكمةُ ، فالمخلوقاتُ كلُّها حسنةٌ . الثالث : أن يكونَ " كلَّ شيءٍ " مفعولاً أول ، و " خَلْقَه " مفعولاً ثانياً على أَنْ يُضَمَّن " أحسَنَ " معنى أَعْطى وأَلْهَمَ . قال مجاهد : " أعطى كلَّ جنسٍ شكله " . والمعنى : خَلَقَ كلَّ شيءٍ على شكلِه الذي خصَّه به . الرابع : أن يكون " كلَّ شيء " مفعولاً ثانياً قُدِّم ، و " خَلْقَه " مفعولاً أول أُخِّر ، على أَنْ يُضَمَّنَ " أَحْسَنَ " معنى أَلْهَمَ وعَرَّف . قال الفراء : " ألهم كلَّ شيءٍ خَلْقَه فيما يحتاجون إليه فيكونُ أَعْلَمهم ذلك " . قلت : وأبو البقاء ضَمَّن أحسنَ معنى عَرَّف . وأَعْرَبَ على نحوِ ما تقدَّم ، إلاَّ أنه لا بُدَّ أن يُجْعَلَ الضميرُ لله تعالى ، ويُجعلَ الخَلْقُ بمعنى المَخْلوق أي : عَرَّف مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه ، فيَؤول المعنى إلى معنى قولِه : { أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] .

الخامس : أن تعودَ الهاء [ على الله تعالى ] وأَنْ يكون " خَلْقَه " منصوباً على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمون الجملةِ كقولِه : { صُنْعَ اللَّهِ } [ النمل : 88 ] ، وهو مذهبُ سيبويه أي : خَلَقَه خَلْقاً . ورُجِّحَ على بدلِ الاشتمال : بأنَّ فيه إضافةَ المصدرِ إلى فاعِله ، وهو أكثرُ مِنْ إضافتِه إلى المفعول ، وبأنه أبلغُ في الامتنانِ لأنه إذا قال : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ } كان أبلغَ مِنْ " أَحْسَنَ خَلْقَ كلِّ شيء " ؛ لأنه قد يَحْسُنُ الخلقُ - وهو المحاولةُ - ولا يكون الشيء في نفسِه حَسَناً . وإذا قال : أحسنَ كلَّ شيْءٍ اقتضى أنَّ كلَّ شيءٍ خَلَقَه حَسَنٌ ، بمعنى أنه وَضَعَ كلَّ شيءٍ في موضعِه .

وأمَّا القراءةُ الثانية ف " خَلَقَ " فيها فعلٌ ماضٍ ، والجملةُ صفةٌ للمضافِ أو المضافِ إليه ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مجرورتَه .

قوله : " وَبَدَأ " العامَّةُ على الهمزِ . وقرأ الزهريُّ " بدا " بألفٍ خالصةٍ ، وهو خارجٌ عن قياسِ تخفيفِها ، إذ قياسُه بينَ بينَ . على أن الأخفش حكى " قَرَيْتُ " وجوَّز الشيخ أن يكونَ مِنْ لغةِ الأنصار . يقولون في بدأ : " بَدِي " يكسِرون الدالَ وبعدها ياءٌ ، كقولِ عبدِ الله بن رواحة الأنصاري :

3669 بسمِ الإِلهِ وبه بَدِيْنا *** ولو عَبَدْنا غيرَه شَقِيْنا

قال : " وطيِّئٌ تقول في بَقِي : بَقَا " . قال : " فاحتمل أَنْ تكونَ قراءةُ الزهري من هذه اللغةِ ، أصلُه بَدِي ، ثم صار بدا " . قلت : فتكون القراءةُ مركبةً مِنْ لغتَيْن .