اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ} (7)

قوله : «الَّذِي أَحْسَن » يجوز أن يكون تابعاً لما قبله في قراءتي الرفع والخفض ، وأن يكون خبراً آخر وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، وأن يكون منصوباً على المدح .

قوله : «خَلقَهُ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابنُ عامر{[42749]} : بسكون اللام ، والباقون بفتحها{[42750]} فأما الأولى ففيها أوجه :

أحدها : أن يكون «خَلْقَهُ » بدلاً من : «كُلَّ شَيْءٍ »{[42751]} بدل اشتمال والضمير عائد على «كل شيء » وهذا هو المشهور .

الثاني : أنه بدل كل من كل . والضمير في{[42752]} «هذا » عائد على «الباري » تعالى ، ومعنى «أحسن » حسن لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما يقتضيه الحكمة ، فالمخلوقات كلها حسنة{[42753]} .

الثالث : أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً أول ، و «خَلْقَهُ » مفعولاً ثانياً ، على أن يضمن «أحسن » معنى أعْطَى وَألْهَمَ . قال مجاهد : وأعطى كل جنس شَكْلَهُ ، والمعنى خلق كل شيء على شكله الذي خص به{[42754]} .

الرابع : أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً ثانياً قُدِّمَ و «خَلْقَهُ » مفعولاً أول أُخِّرَ على أن يضمن «أحْسَنَ »{[42755]} معنى ألْهَمَ وعَرَّفَ .

قال الفراء : ألهم كل شيء خلقه{[42756]} فيما يحتاجون إليه فيكون أعلمهم ذلك . ( وقال أبو البقاء : ضمن{[42757]} «أحْسَنَ » معنى «عَرَّف » وأعرف على نحو ما تقدم إلا أنه لا بُدَّ أن يجعل الضمير ) لِلَّه تعالى ، ويجعل الخلق بمعنى المخلوق أي عرف مخلوقاتهِ كُلَّ شيء يحتاجون إليه فيؤول المعنى إلى معنى قوله : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] .

الخامس : أن تعود الهاء على «الله » تعالى وأن يكون «خَلْقَهُ » منصوباً على المصدر المؤكد لمضمون الجملة{[42758]} كقوله : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] ، وهو مذهب سيبويه أي{[42759]} خَلَقَهُ خَلْقاً ، ورُجِّحَ على{[42760]} بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المَصْدَر إلى فاعله ، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول وبأنه أبلغ في الامتنان{[42761]} لأنه إذا قال : { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ } كان أبلغ من { أحسن خلق كل شيء } ؛ لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ولا يكون الشيء في نفسه «حسناً » وإذا قال : { أحْسَنَ كُلَّ شيء } اقتضى أن كل ( شيء ) خلقه حسن بمعنى أنه وضع كل شيء في موضعه{[42762]} .

وأما القراءة الثانية «فخَلَقَ » فيها فعل ماض ، والجملة صفة للمضاف أو أو المضاف إليه فتكون منصوبة المحل أو مجرورته{[42763]} .

قوله : «وَبَدَأ » العامة على الهمز . وقرأ الزُّهْرِيُّ{[42764]} «بَدَأ » بألف خالصة وهو خارج عن قياس تخفيفها إذ قياسه{[42765]} بَيْنَ بَيْنَ على أنَّ الأخفش حَكَى قريباً{[42766]} . وجوز أبو حيان أن يكون من{[42767]} لغة الأنصار ، يقولون في «بَدَا » بكسر وبعدها ياء كقول عبد الله بن رواحة الأنصاري .

4062 - بِاسْمِ الإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا *** وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا{[42768]}

قال : وطيىء تقول في تُقَى تُقَاء{[42769]} ، قال : فاحتمل أن تكون قراءة الزهري من هذه اللغة أصله «بَدِي » ثم صار{[42770]} «بَدَأ » ، قال شهاب الدين : فتكون القراءة مركبة من{[42771]} لُغَتَيْنِ .

فصل :

{ ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة } يعني ذلك الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وما حضر «العَزِيزُ الرَّحِيمُ » لما بين أنه عالم ذكر أنه «عزيز » قادر على الانتقام من الكفرة «رَحِيمٌ » واسع الرحمة على البررة { الذي أحسن كل شيء خلقه } أي أحسن خَلْقَ كلِّ شيء{[42772]} . قال ابن عباس : أتقنه{[42773]} وأحكمه وقال مقاتل{[42774]} : علم كيف يخلق كل شيء من قولك : فلانُ يُحْسِنُ كذا ، إذا كان يعلمه . وقيل : خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في خلقه حسن ، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح معاشه . واعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله : { خلق السموات والأرض وما بينهما } أتبعه بذكر الدليل الدال عليها من الأنفس فقال : { الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين } يعني آدم ، ويمكن أن يقال : الطين ماء وتراب مجتمعان ، والآدمي{[42775]} أصله مَنِي ، والمَنِي أصله غذاءٌ ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ( والحيوانية{[42776]} ترجع إلى نباتية ) والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين


[42749]:مشكل إعراب القرآن لمكي 2/186، وإعراب القرآن للنحاس 2/292 والسبعة 516 والإتحاف 351 والنشر 2/347 وحجة ابن خالويه 287.
[42750]:وهم نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وانظر المراجع السابقة.
[42751]:البيان 2/259 ومشكل إعراب القرآن 2/186 و 187 والتبيان 1048.
[42752]:المشكل 2/186.
[42753]:البحر المحيط 7/199.
[42754]:المرجع السابق.
[42755]:الدر المصون 4/356.
[42756]:انظر: معاني القرآن للفراء 2/230 و 231.
[42757]:ما بين القوسين ساقط من "ب" وانظر: التبيان 1048.
[42758]:انظر: مشكل إعراب القرآن لمكي 2/186.
[42759]:انظر: الكتاب 1/381.
[42760]:في "ب" ورجع الأمر على بدل الاشتمال.
[42761]:في "ب" في الإضافة.
[42762]:انظر: البحر المحيط 7/199.
[42763]:انظر: مشكل إعراب القرآن 2/187 والبيان 2/258 والتبيان 1048 وتفسير القرطبي 14/90 والدر المصون 4/356.
[42764]:ذكرها ابن جني في المحتسب 2/173 وانظر البحر 7/199.
[42765]:ذكره في المرجع السابق.
[42766]:عبارة البحر: "على أن الأخفش حكى في قرأت: قريت"، انظر: البحر 7/199.
[42767]:المرجع السابق.
[42768]:رجز لعبد الله بن رواحة والشاهد: "بدينا" والأصل: "بدأنا" فقلبت الهمزة ياء على لغة الأنصار وانظر: بحر أبي حيان 7/199، والأشموني 3/42 واللسان (بدا) والبداية والنهاية لابن كثير 4/97 وإعراب ثلاثين سورة 11، وتاج اللغة "بدي" وتاج العروس للزبيدي 1/139.
[42769]:في البحر بقي - بقاء.
[42770]:المرجع السابق.
[42771]:الدر المصون 4/139.
[42772]:انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 25/173.
[42773]:القرطبي 14/90.
[42774]:وهو رأى السدي أيضاً وانظر: زاد المسير لابن الجوزي 6/334.
[42775]:في "ب" وآدم.
[42776]:ما بين القوسين ساقط من "ب".