في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ} (7)

( الذي أحسن كل شيء خلقه ) . .

. . واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل . الحق المتمثل في أشكال الأشياء ، ووظائفها . وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة . وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها . وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد .

سبحانه ! هذه صنعته في كل شيء . هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق . هذا كل شيء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان ؛ فلا تجاوز ولا قصور ، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص ، ولا إفراط ولا تفريط ، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة . كل شيء مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص . ولا يتقدم عن موعده ولا يتأخر . ولا يتجاوز مداه ولا يقصر . . كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام . ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام . كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان . . وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث . وكلها من خلق الله . مقدرة تقديرا دقيقا في موعدها وفي مجالها وفي مآلها ، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله .

كل شيء ، وكل خلق ، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود ، معد لأداء هذا الدور إعدادا دقيقا ، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل . هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف . هذه الدودة السابحة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون . هذه السمكة . هذا الطائر . هذه الزاحفة . هذا الحيوان . . ثم هذا الإنسان . . وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت . وهذه الأفلاك والعوالم ؛ وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام . . كل شيء . كل شيء . حيثما امتد البصر متقن الصنع . بديع التكوين . يتجلى فيه الإحسان والإتقان .

والعين المفتوحة والحس المتوفز والقلب البصير ، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه ؛ وتراه في كل أجزائه وأفراده . والتأمل في خلق الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن ، يمنح الإنسان رصيدا ضخما من ذخائر الحسن والجمال ، ومن إيقاعات التناسق والكمال ، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق ؛ وتسكبها في القلب البشري ؛ وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن ، يتملى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب . ويتصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي المنبثق من جمال الصنعة الإلهية الأصيلة .

ولا يدرك القلب شيئا من هذا النعيم في رحلته الأرضية إلا حين يستيقظ من همود العادة ، ومن ملالة الألفة . وإلا حين يتسمع لإيقاعات الكون من حوله ، ويتطلع إلى إيحاءاته . و إلا حين يبصر بنور الله فتتكشف له الأشياء عن جواهرها الجميلة كما خرجت من يد الله المبدعة . وإلا حين يتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه ؛ فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع ؛ فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس ، لأنه يرى حينئذ من ورائه جمال الله وجلاله .

إن هذا الوجود جميل . وإن جماله لا ينفد . وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود . قدر ما يريد . وفق ما يريده له مبدع الوجود .

وإن عنصر الجمال لمقصود قصدا في هذا الوجود . فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء ، يصل إلى حد الجمال . وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو ، وفي كل خلق . . انظر . . هذه النحلة . هذه الزهرة . هذه النجمة . هذا الليل . هذا الصبح . هذه الظلال . هذه السحب . هذه الموسيقى السارية في الوجود كله . هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور !

إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين ؛ يلفتنا القرآن إليها لنتملاها ، ونستمتع بها وهو يقول : ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) . . فيوقظ القلب لتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الوجود الكبير .

( الذي أحسن كل شيء خلقه ) . . ( وبدأ خلق الإنسان من طين ) . .

ومن إحسانه في الخلق بدء خلق هذا الإنسان من طين . فالتعبير قابل لأن يفهم منه أن الطين كان بداءة ، وكان في المرحلة الأولى . ولم يحدد عدد الأطوار التي تلت مرحلة الطين ولا مداها ولا زمنها ، فالباب فيها مفتوح لأي تحقيق صحيح . وبخاصة حين يضم هذا النص إلى النص الآخر الذي في سورة " المؤمنون " . . ( خلق الإنسان من سلالة من طين ) . . فيمكن أن يفهم منه أنه إشارة إلى تسلسل في مراحل النشأة الإنسانية يرجع أصلا إلى مرحلة الطين .

وقد يكون ذلك إشارة إلى بدء نشأة الخلية الحية الأولى في هذه الأرض ؛ وأنها نشأت من الطين . وأن الطين كان المرحلة السابقة لنفخ الحياة فيها بأمر الله . وهذا هو السر الذي لم يصل إليه أحد . لا ما هو . ولا كيف كان . ومن الخلية الحية نشأ الإنسان . ولا يذكر القرآن كيف تم هذا ، ولا كم استغرق من الزمن ومن الأطوار . فالأمر في تحقيق هذا التسلسل متروك لأي بحث صحيح ؛ وليس في هذا البحث ما يصادم النص القرآني القاطع بأن نشأة الإنسان الأولى كانت من الطين . وهذا هو الحد المأمون بين الاعتماد على الحقيقة القرآنية القاطعة وقبول ما يسفر عنه أي تحقيق صحيح .

غير أنه يحسن - بهذه المناسبة - تقرير أن نظرية النشوء والارتقاء لدارون القائلة : بأن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة إلى الإنسان في أطوار متوالية ؛ وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متصلة تجعل أصل الإنسان المباشر حيوانا فوق القردة العليا ودون الإنسان . . أن هذه النظرية غير صحيحة في هذه النقطة وأن كشف عوامل الوراثة - التي لم يكن دارون قد عرفها - تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضربا من المستحيل . فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه ؛ وتحتم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه ، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطور إلى نوع جديد . فالقط أصله قط وسيظل قطا على توالي القرون . والكلب كذلك . والثور . والحصان . والقرد . والإنسان . وكل ما يمكن أن يقع - حسب نظريات الوراثة - هو الارتقاء في حدود النوع نفسه . دون الانتقال إلى نوع آخر . وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام